طاعة الرحمن ونصرة أهل الإيمان

منذ يوم

الفتن والوهن غثائية وذُلّ، إن كان حب الدنيا رأس كل خطيئة، فحب الدنيا وكراهية الموت سبب لكل ذل، نزاع على الدنيا، وصراع على المال، حب الشهوات، والمنافسة على الانبطاح، أوقعنا بالذل بين الأمم، بعد أن كنا بأعلى منازلها، ما هذه الغثائية؟! وما هذا الذل

الفتن والوهن غثائية وذُلّ، إن كان حب الدنيا رأس كل خطيئة، فحب الدنيا وكراهية الموت سبب لكل ذل، نزاع على الدنيا، وصراع على المال، حب الشهوات، والمنافسة على الانبطاح، أوقعنا بالذل بين الأمم، بعد أن كنا بأعلى منازلها، ما هذه الغثائية؟! وما هذا الذل؟! ففي الوقت الذي أظهَر اللهُ فيه دِينَه على يد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، ازداد حرصُه على أمته، وحذَّرَها ممَّا يُزِيل قوتَها، فأقسم قائلًا: فوالله ما الفقر أخشى عليكم.

 

الأمة الإسلاميَّة اليوم مليارات من الأموال متكدسة، ومثاقيل من الذهب مكتنزَة، وقوى الاستعمار تنهش بالأمة نهشًا، فبعدما عاد عامر بن الجراح بخراج البحرين؛ حيث بلغ نور الإسلام إلى تلك البلاد، وكان للإسلام كلمته، أتي بالمال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقسم قائلًا: ‌ «فَوَاللَّهِ ‌مَا ‌الْفَقْرَ ‌أَخْشَى ‌عَلَيْكُمْ، ‌وَلَكِنِّي ‌أَخْشَى ‌أَنْ ‌تُبْسَطَ ‌الدُّنْيَا ‌عَلَيْكُمْ ‌كَمَا ‌بُسِطَتْ ‌عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا»، أي تنافس في الشهوات والشبهات؛ أي: كلما تنافستم في الشهوات والشبهات دخلتم قفصا من حديد اسمه حب الدنيا وكراهية الموت، فتنقلبوا غثاء كغثاء السيل، حتى صاروا هباء في هواء، «فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

 

حُجَّاجُ بيتِ اللهِ الحرامِ أدَّوْا مناسكَهم، ونحمد الله أن عادوا إلى ديارهم آمنين مطمئنين، ونسأله -تعالى- أن يجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، وتجارتهم لن تبور، وما غاب عن جموع الحجاج مصاب الأمة الإسلاميَّة في فلسطين وديار الإسراء والمعراج، شأنهم كشأن مليارَيْ مسلم يبتهلون إلى الله أن يرفع الغم والهم عن الأمة الإسلاميَّة، وأن يرفع عنها الذُّلَّ والضَّعْف والهوان، فنيران الفتن والغثائية التي اشتعلت وأضعفت المسلمين في العالَم الإسلاميّ ذاقت منها الأمة الويلات، ولكنَّها لم تتعظ، توحدت عبادتها بوقفة إيمانيَّة عالميَّة، ولم تتوحد كلمتها، فهل عرف أولو الأمر معنى الحج ومقاصده؟! أم بقي الأمر محصورًا للتفويج والترتيب؟! وها نحن أتممنا قرنًا من الزمان نتجرع ذلا وهوانا وغثائية، وكلما زادت الغمة علينا وتناسينا عزتنا، نزع الله من صدور عَدُوِّنا المهابة منا.

 

هي الدنيا وأموالها ومتاعها، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة؛ قال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: يَحْدُثُ للناسِ مِنَ البلاءِ على مقدارِ ما يُحْدِثُونَ مِنَ الفجورِ؛ فالبطولة أن نعود إلى أنفسنا، ونعترف بتقصيرنا، أمام الله ودينه وشرعه؛ لذلك كرهنا الموت، وطلبنا الحياة الذليلة، واستزدنا منها على حساب ديننا، وكرامتنا، فهانت على البعض الأرض وقدسيتها، وهان على الأمة مسراها، ففرق كبير بين من يعمر الأرض بالدين، وبين من يكسب الدنيا ويتعالى على الدين، فبداية الوهن والضَّعْف في مخالفة شرع الله وأحكامه؛ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63].

 

شهوة حب الدنيا دفعت البعضَ إلى التطبيع والهبوط، وجرى الانحراف عن هموم الأمة، فكلما أحبتِ الأمةُ الدنيا وأصبحَتْ هي المؤْثَرةَ زاد التفرقُ والتشرذمُ، وكرهتِ الموتَ، وما سُلبت أرض الإسلام إلا بعد ظهور فئة المتفرجين المتواطئين الطامعين المتآمِرينَ على الأمة وأبنائها، ممَّن تبلَّد حِسُّهُم، وماتت قلوبُهم، وبدأ مرضُ السكوت وآفة الصمت تنتشر عند ذوي الرأي والمسؤوليَّة، وأصبح لسانهم أخرس، يوجهون الأمة لسفاسف الأمور، مستخدمين عملاءهم لغسل أدمغة الشعوب، ولفت أنظارهم عن أولوياتهم وعزتهم وهمومهم، والأقصى ينادي مستغيثا: أين العالَم الإسلاميّ؟!

 

وتبقى الأمة تجني نتائج غثائيتها ولا حول ولا قوة إلى بالله؛ فمرض الموالاة للغرب الكافر، والتنافس على إرضاء فراعنة الزمان، زاد الأمر سوءًا، فتناسوا مجاعات أهلنا المحاصرين، وتجاهلوا أي انتهاك للأقصى؛ فهم في غفلتهم ساهون؛ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 227]، إلا أن ثقتنا بالله عالية، والعاقبة للمتقين، ولكنهم تستعجلون، فلا عزة للمسلمين إلا باتباع دينهم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: يقول الحق -تعالى-: «جُعِلَ الذُّلُّ والصَّغارُ على مَنْ خالَف أمري»، وقال تميم الداري -رضي الله عنه-: عرفتُ العزَّ والذل من أهلي؛ فقد أصاب من أسلم الخير والشرف والعز، وأصاب من أعرض عن الْهُدَى الذُّل والصَّغار والخزي، فلا يأس للمؤمنين المرابطين؛ فالله هو العزيز الذي لا يُغلَب، فالعزة للمؤمن تُضفِي عليه شجاعة، وذُلًّا لله -تعالى-، ومن وقف بباب العزيز يتجلَّى عليه بالصمود والثقة، والإباء؛ فالعزيز لا يخذل أحدًا ارتمى بجنابه، فلا اضطراب لمن لجأ للعزيز؛ {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاءِ: 61-62]، فإذا ضاقت بك الدنيا، تكالبت عليك الأعادي، وأدركك الخوف فقال: إن معي ربي سيهدين.

 

لقد توهَّم مَنْ سمَّى نفسَه عزيزًا، وظن أن العزة بيده؛ {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يُوسُفَ: 51]؛ أي امرأةُ مَنْ ملَك مالَ مصرَ، الذي توهَّم أنَّه العزيز، والحقيقة أن الذي يملك المال والعزة هو مالك الملك؛ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، فالعزيز على الحقيقة هو الله.

 

وقد توهَّم من ملك القوة أنَّه عزيز؛ ففرعون كان قويًّا فادعى العزة، وسلب الأموال، قصمه الله غرقا، فالعزيز على الحقيقة هو الله، ولقد أدعى فرعون العزة وذبح الأطفال، وقتل الرجال، وسبى النساء، وازداد علوه أن طلب صرحًا متحديًا إله موسى، وقال: مَنْ أشدُّ مِنَّا قوةً؟! وأصبح يعتقد أن قوته عالميَّة، وأصبح قوته تعبد من دون الله! فبعث الله عواصف الضفادع والقمل؛ ليذل هذا الطاغية الذي أدعى العزة؛ فالله أقدر على الظالمين وأعوانهم، ومن تواطأ معهم، ولكنكم تستعجلون.

 

فبادِرُوا بالأعمال الصالحة، هناك فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي زيَّن قلوبَ أوليائه بأنوار المحبة والوفاق، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إله من اعتز به فلا يضام، ومن تكبر عن أمره ذل ولقي الآثام، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-.

 

يا خيرَ رُسْلِ اللهِ قَدْرُكَ قَدْ سَمَا *** فاشفَعْ لمن صلَّى عليك وسلَّمَا

أنتَ الضياءُ إذا الظلامُ تسيَّــدَا *** عليكَ سلامُ اللهِ دهرًا سرمــدَا

صلَّى عليكَ اللهُ يا فجرَ الْهُـدَى *** تعدادَ حمدٍ في القلوب تــردَّدَا

 

القائل: مَا ‌مِنْ ‌مُسْلِمٍ ‌يَخْذُلُ ‌امْرَأً ‌مُسْلِمًا ‌فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا في مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ.

 

اللهمَّ هيِّئْ لهذه الأمة فرجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا، يُوحِّد صفَّها، ويَجمَعُ شملَها، اللهمَّ اخذل من خذل المسلمين المستضعَفين يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ لا تبتلينا بعلة، ولا تجعلنا في غفلة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تكتب علينا ذلة ولا مذلة.

 

إلهي أكرمتنا فلك الحمد، وسترتنا فلك الحمد، ورزقتنا فلك الحمد، لك الحمد حبًّا وشكرًا، ولك الحمد حتى ترضى، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا.

 

اللهمَّ إنَّا استودعناكَ أرض الإسراء وأهلها، استودعناك الأقصى وأهلها، استودعناك أرض الإسراء والمعراج، وأهلها ونساءها وضعفاءها، اللهمَّ احقن دماء المسلمين، اللهمَّ اكتب الأمن والصحة والعافية لأهلنا في فلسطين، وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ اجز عَنَّا سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء، واجز عَنَّا مشايخنا ووالدينا خير الجزاء، اللهمَّ اشف جرحانا، وداو مرضانا، وأطلق سراح مسرانا وأسرانا، اللهمَّ يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمِ الصلاةَ.