ثقافة "الترند" والقرار الشخصي: بين سطوة الجماعة وضياع البوصلة الفردية
فليكن وعيك أنت، لا الترند، هو البوصلة.
في الوقت الذي أصبحت فيه الأخبار، والأفكار، والموضات تنتقل كالنار في الهشيم، برز مصطلح جديد يختزل هذه الظاهرة في كلمة واحدة: "الترند".
وإن كان "الترند" في أصله يشير إلى ما هو رائج أو شائع، فقد غدا اليوم أكثر من مجرد مصطلح رقمي، بل صار ثقافةً تؤثِّر في طريقة تفكير الناس، وقراراتهم، وأسلوب حياتهم.
وسط هذه العاصفة من التأثيرات السريعة، يبرز سؤال جوهري:
هل ما نقرره اليوم هو اختيار واعٍ، أم مجرد انصياع لما يفعله الجميع؟
أولًا: مفهوم "الترند" وأبعاده الثقافية:
الترند هو أي ظاهرة تنتشر بسرعة ويكثر الحديث عنها، سواء كانت قضية اجتماعية، موضة، تحدِّيًا رَقْميًّا، أو حتى رأيًا عابرًا.
لكن الترند لم يعد فقط مؤشرًا لما يهتم به الناس؛ بل تحوَّل إلى قوة موجهة للرأي العام، لها قدرة على صياغة القناعات، وتوجيه السلوك، بل وصناعة نماذج النجاح والفشل.
وهنا تكمن الخطورة؛ لأن ما هو رائج لا يكون دائمًا صحيحًا، ولا ما تفعله الأغلبية هو بالضرورة الأفضل.
ثانيًا: كيف تؤثِّر ثقافة "الترند" في قراراتنا الشخصية؟
اختفاء صوت الذات: عندما يتحول الترند إلى بوصلة، يضيع الصوت الداخلي للإنسان، فيتجه لاختيار مهنة؛ لأن "الكل يعمل في هذا المجال"، أو يسافر؛ لأنه "الوجهة الرائجة"، أو يتبنَّى رأيًا؛ فقط لأنه "الأكثر تداولًا"، دون أن يتساءل:
هل هذا ما أريده حقًّا؟ هل يناسبني؟ هل ينسجم مع قيمي وتوجُّهاتي؟
الضغط الاجتماعي المبطَّن: ثقافة الترند تخلق ضغطًا غير مباشر، يجعل الفرد يشعر بأنه متأخر أو غريب إن لم يركب الموجة. وهذا ما يدفع الكثير من الشباب للانخراط في خيارات لا تمثِّلهم، خوفًا من العزلة أو الإحراج.
اختزال المعنى في الظهور: يُقاس النجاح اليوم بعدد "الإعجابات" و"المشاهدات"، لا بجودة الفكرة أو عمق التجربة. فأصبح الهدف من القرار أحيانًا هو نيل الرواج لا تحقيق الرضا الذاتي.
ثالثًا: لماذا تنجذب العقول للترند؟
لأن العقل البشري يحب القطيع: نرتاح عندما نشعر أننا نفعل ما يفعله الجميع، فذلك يقلِّل من الشعور بالذنب أو الخطأ.
الترند يمنح الإحساس المؤقت بالانتماء: المشاركة في الظاهرة الرائجة توفِّر نوعًا من القبول الاجتماعي.
سهولة الوصول مقابل عمق التفكير: فاتخاذ قرار بناءً على الترند أسرع وأبسط من البحث، والتأمل، ومواجهة الذات.
رابعًا: أين القرار الشخصي من كل هذا؟
القرار الشخصي الحق ينبع من مكان أعمق من مجرد "ما يفعله الناس"، فهو" نتاج الوعي بالذات: معرفة ما نريد وما لا نريد.
الفهم العميق للأولويات: ما هو الأنسب لواقعي وظروفي؟
القدرة على قول "لا" لما لا يمثلني، حتى لو فعله الجميع.
القرار الشخصي لا يعني العزلة؛ بل يعني أن يكون الفرد حاضرًا بوعيه في كل ما يفعله، حتى لو وافق الآخرين، لا مانع من أن تتقاطع الرغبات؛ لكن الخطر أن تذوب الذات في موجة الترند دون مقاومة.
خامسًا: التربية في زمن الترند:
تربية الأطفال والشباب وسط هذه الثقافة تتطلب:
تعزيز الاستقلال الفكري: تعليم الأبناء أن يسألوا "لماذا؟" قبل أن ينساقوا لأي فكرة.
زرع مهارة التفكير النقدي: لا يرفض كل جديد، لكن لا يقبله فقط لأنه رائج.
الحديث عن القيم لا المظاهر: لماذا نلبس هذا؟ لماذا نتابع ذاك؟ ماذا نريد من الحياة فعلًا؟
سادسًا: هل من الممكن أن يكون الترند إيجابيًّا؟
نعم، فالترند ليس شرًّا محضًا. قد تنتشر أفكار رائعة، أو حملات توعوية، أو تحديات تنموية؛ لكن الفيصل هو: هل أشارك لأنني أؤمن بالفكرة؟ أم لأنني لا أريد أن أتخلَّف عن الركب؟
وفي الأخير: في زمن الترندات السريعة، والموجات العارمة، تحتاج النفس البشرية إلى مرساة داخلية تثبِّتها وسط العواصف.
ولعلَّ القرار الشخصي الواعي هو تلك المرساة، التي تحفظ الإنسان من الذوبان في الجماعة، وتعيد له حقه الطبيعي في أن يكون نفسه، لا نسخة عن غيره؛ فكن حاضرًا في قراراتك، لا تابعًا لما يُقال، ولا غائبًا عمَّا تُريد.
فليكن وعيك أنت، لا الترند، هو البوصلة.
______________________________________________
الكاتب: محمود مصطفى الحاج
- التصنيف:
- المصدر: