أعطِ الصباحَ فرصة

منذ 15 ساعة

إنّ التفاؤل – يا صاح – هو زينة الصباح، ونافذةُ الروح إلى رحمة الله، واليقين بالله هو لحنه العذب وجناحه الذي يُحلّق به فوق محن الأيام.

هذا عنوان كتابٍ محبّبٍ إليَّ من كتب الأديب عبدالوهاب مطاوع، اقتبسه من قصة مؤثّرة، عن ثلاثةٍ من البائسين اجتمعوا في ليلةٍ شديدة السواد على متن جسرٍ عالٍ. ولم يكن بينهم موعدٌ ولا معرفةٌ سابقة، غير أنّ البؤس ساق خطاهم إلى الموضع نفسه، والفكرة السوداء جمعت قلوبهم، وهي: أن يلقوا بأجسادهم في لجّة النهر، علّهم يطفئون نارًا تستعر في صدورهم.

جلسوا إلى بعضهم، ففضّ كل واحدٍ كنانة همّه، وباح بسرّ علّته، فإذا هي جراح مختلفة يجمعها عنوان واحد: اليأس. وحين أوشكوا على المضي إلى النهاية، تمهّل أحدهم وقال: "لِمَ لا نؤجِّل حتفنا إلى الغد؟ فلعلّ فجرًا جديدًا يبدّد شيئًا من ظلامنا، فإن لم يفعل عدنا إلى الجسر وأتممنا ما عزمنا عليه".

أشرق الصباح، فتنفّس اثنان منهما هواءً غير الذي عرفاه، ورأيا في الأفق خيطًا من نورٍ يتدلّى على قلبيهما، فأحسّا أنّ الحياة – وإن جارت – ما زالت تحتمل صفحةً بيضاء. فآثرا الرجوع، وانثنى عزمهما عن القرار الموحش.
أمّا الثالث، فلم يعد. وحين انتظراه عند الجسر فلم يريا له أثرًا، علما أنّ الليل ابتلعه، وأنه لم يرضَ أن يمنح الصباح حقَّه من الفرصة. عندها تنفّس أحدهما زفرة طويلة وقال، وفي صوته حشرجة ندم: 
ليته أعطى الصباحَ فرصة.

نعم، ما أروع الصباح حين يُقبل وفي يده مفاتيح الأمل، وفي عينيه بشائر الرجاء! وما أجمل أن نستقبله بقلوبٍ نقية، لا تثقلها أحمال الأمس، ولا تكدرها هموم الليل؛ بل نفتح له أبوابنا كما نفتح الأبواب لضيف كريم طال انتظاره. وما أجمل أن نضع أثقال الأمس خلفنا ظهريًا، ونقول لأنفسنا: اليوم غير البارحة، والغد غير اليوم.

إنّ الصباح ليس مجرّد انتقالٍ من ظلمةٍ إلى نور، ولا من سكونٍ إلى حركة؛ بل هو وعدٌ جديد بأن في الحياة بقيّة، وأن في العمر فرصة، وأن الأمل لا يزال حيًّا يتنفّس في أفق الكون. فمن صدّق هذا الوعد، دخل عليه الصباح مشرقًا بالخير، ومن أعرض عنه؛ بقي في ظلام قلبه، وإن توسطت الشمس كبد السماء.

والصباحُ في حقيقته امتحانٌ لحسن الظن؛ فمن استقبله بالفأل أزهرت في قلبه رياض الأمل، وصارت ساعات النهار عنده جداول من نور، ومن استقبله باليأس لم يرَ فيه إلا امتدادَ ليلٍ طويلٍ يوشك أن يخنق روحه.
وإن تعجبْ فَعَجَبٌ من ذلك القلب اليائس، وفي السماء ربٌّ يقول: ﴿ {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ﴾، ومن ذلك المؤمن الذي يضيق صدره؛ وهو يعلم أنّ الله أرحم به من نفسه!

إنّ التفاؤل – يا صاح – هو زينة الصباح، ونافذةُ الروح إلى رحمة الله، واليقين بالله هو لحنه العذب وجناحه الذي يُحلّق به فوق محن الأيام.
وما من ليلٍ مدلهمّ إلا يعقبه فجرٌ ضاحك في وجه الدنيا
وكم من مهمومٍ أطلّ عليه الفجر مثقلاً بالهموم، فإذا به حين يذكُر أنّ الله قريب، وأن رحمته واسعة، وأن عطاؤه أجزل، تنفرج في صدره أبواب الرجاء، كأنّ الفجر لم يُخلق إلا لأجله. وكم من مكدودٍ أنهكته الليالي، فإذا بالصباح يُعيد إليه قواه، ويُذكّره أن الله يُبدل بعد العُسر يُسرًا، وبعد الضيق فرجًا، ويُنشّطه ببشرى خفيّة: أنّ القادم أجمل، وأن الله يُخبئ له من الخير ما لم يخطر له على بال.

تُذكّرني المشارق كلَّ يومٍ   **  بأنّ الله لا يُبقي الظلاما

فأعطِ الصباحَ فرصة! لا تستقبلْه بوجهٍ عابس، ولا بنفسٍ مثقلة بظنون الأمس؛ بل استقبله كما يستقبل العطشان كأس الماء، وكما يستقبل المسافرُ البعيدُ بشائرَ الوصول. واجعل أوّل أنفاسك فيه تسبيحًا، وأوّل خُطاك دعاءً، وأوّل نظراتك توكّلًا ورجاءً، ثم انظر كيف يتبدّل نهارك، وكيف تُزهر في قلبك حدائق لم تزرعها بيديك.

وإنك حين تُعطي الصباح فرصةً، فكأنك تعطي نفسك عمرًا جديدًا، تشعر معه أن الهواء أطيب، والنور أرقّ، والقلب أخفّ. وما أجمل أن تستقبل هذا الزائر الكريم بقلبٍ متفائل، كأنك تقول له: ها أنا ذا ، ما زلت أؤمن أنّ الغد يحمل لي فرحًا وفرجًا، وأن رحمة الله أوسع من كل ضيق. فمن أيقن أنّ الله أرحم به من نفسه، وأن الغد بيد من لا يُخطئ تدبيره، لم يعرف لليأس طريقًا، ولم يذق للقنوط طعمًا.

فالطريق إلى السعادة يبدأ بابتسامة في الصباح، تُترجمها الثقة بالله، وتُزيّنها بشارة الفأل الحسن، وتُكلِّلها قوة الإيمان.

_____________________________________
الكاتب: طلال الحسّان

فأعطِ الصباحَ فرصةً أيها القلب؛ لعلّ الله يجعل فيه بدايةَ فرحٍ لم يخطر لك على بال، وبابَ رحمةٍ لم تطرقه يدُك قط. وما أجمل أن يكون أوّل ما يلقاك مع الفجر يقينٌ يملأ روحك: أنّ الله لا يُخلف وعده، وأن الغد يحمل لك من الخير ما تُبشّرك به أنوار الفجر. فإنك إن تفعل، وجدت فيه ما يردّ الروح ويُحيي الأمل.

فلنُعطِ الصباحَ فرصةً، لعلّه يهبنا ما عجزت الليالي أن تهبه. فرجوتك – يا صاحبي – ألّا تُغلق بابك في وجه الصبح، ولا تبخل على نفسك بفرصته. دع قلبك يتهجّى بشائر الفأل، ودع روحك تطير بجناحي اليقين. حينها فقط ستعرف أنّ الصباح هدية، وأنّ الدنيا – على ما فيها – ما زالت جميلة.