الرد على المقال المتهافت: أكثر من 183 سنة مفقودة من الإسلام أين هي؟!
فقد اطلعت على مقال مملوء بالدجل والجهل والمغالطة والحقد على السنة النبوية بعنوان: أكثر من 183 سنة مفقودة من الإسلام أين هي؟ لكاتب مجهول لا يدرى من هو!
الحمد لله الذي حفظ سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأهل الحديث، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، أما بعد:
فقد اطلعت على مقال مملوء بالدجل والجهل والمغالطة والحقد على السنة النبوية بعنوان: أكثر من 183 سنة مفقودة من الإسلام أين هي؟ لكاتب مجهول لا يدرى من هو!
وقد سطر هذا الكاتب في مقاله الطويل ما يضحك منه العقلاء، ومثَلُه مثَلُ طفل في الصف الأول الابتدائي يريد أن يُخطىء جميع علماء الطب المتقدمين والمتأخرين المتخصصين في علوم الطب والصيدلة، الذين قضوا سنين عديدة في دراسة فروع الطب ومعرفة الأدوية، ولهم مراجعهم المعتمدة، وقواعدهم الثابتة، فيزعم هذا الطفل المغرور أن جهودهم الممتدة إلى مئات السنين كلها باطلة، ويريد أن ينسفها بوريقات كتبها في وقت فراغه ولهوه وغفلته، ويحسب أنه من العباقرة والمجتهدين ولا يدري أنه من الحمقى والمغفلين!
وبدأ كاتب هذا المقال بذكر أسماء بعض أصحاب الحديث المشهورين وذكر تاريخ ولادتهم ووفياتهم، وذكر أن البخاري ولد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بــ 183 سنة، وسرد أسماء الخلفاء الراشدين وملوك الدولة الأموية وبعض ملوك الدولة العباسية إلى الأمين بن هارون الرشيد مع ذكر تاريخ وفياتهم.
ثم بعد أن ذكر هذ المقدمة ذكر اكتشافه الخطير فقال: البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه لم يروا ولم يعرفوا ولم يعايشوا كل هؤلاء الخلفاء الراشدين وخلفاء المسلمين، بل لم يولدوا في عهدهم!
ولعل الكاتب لقلة عقله ظن أنه اكتشف اكتشافا جديدا لم يكتشفه أحد من المتقدمين والمتأخرين!
ولا يدي هذا المسكين أن هذا معلوم ولا أحد ينكره، ولا يدري المسكين أنه فاته أن يذكر الإمام مالك بن أنس مؤلف كتاب الموطأ وعبد الرزاق بن همام الصنعاني مؤلف كتاب مصنف عبد الرزاق، وهما من طبقة شيوخ شيوخ البخاري ومسلم، وقد ولد مالك سنة 93 هجرية وتوفي سنة 179 هجرية، وولد عبد الرزاق الصنعاني سنة 126 هجرية وتوفي سنة 211 هجرية، وبينهما وبين الصحابة راويان فقط، وكثير من أحاديث البخاري ومسلم يرويانها من طريق مالك وعبد الرزاق عن التابعين عن الصحابة، وهي موجودة في كتابيهما كما في كتابي البخاري ومسلم سواء بسواء، وهذه المعلومة تنسف مقال الكاتب المجهول، فليعِد حسابه من جديد، وليغير عنوان مقاله فقد أبطلنا عليه العنوان حين جعل 183 سنة مفقودة من الإسلام بناء على أنه لا يوجد كتب حديث قبل البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه!
وقد أتى هذا الكاتب المجهول بأسئلة معلوم جوابها لكنه لجهله يطلب الإجابة عنها، فيقول: من أين جاء أصحاب كتب الحديث بأحاديث رسولنا؟ ومن هم شهودهم على كل حديث؟ وأين هي وثائقهم على كل حديث؟! وأين هي خطب الجمعة التي كان يخطبها الرسول؟
ونحو هذا الهذيان المضحك، الدال على جهله الفاضح بمبادىء علوم الحديث.
والظاهر من كلام الكاتب المغرور أنه يجهل أن الأحاديث النبوية لا تروى إلا بالأسانيد، فيذكر البخاري وغيره الراوي الذي حدثه بالحديث عن مشايخه من أتباع التابعين، ويذكر ذلك الراوي من حدثه من التابعين، ويذكر التابعي من حدثه من الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا يصل إسناد الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسانيد الكثيرة.
وقد يكون للحديث الواحد عشرة أسانيد أو مائة إسناد أو أكثر، فالحديث الذي يرويه الصحابي يرويه عنه أحد التابعين أو اثنان أو أكثر من التابعين، ثم كل راو من التابعين يرويه عنه راوِ أو أكثر من أتباع التابعين وهكذا، فيكون الحديث كالأهرام يرويه صحابي مثلا ثم عنه ثلاثة من الرواة مثلا ثم عنهم عشرة مثلا ثم عنهم خمسون وهكذا، وبجمع طرق الحديث يعرف المحدثون من زاد ومن نقص ومن أخطأ ومن كذب؛ لأنهم يقارنون روايات الراوي بروايات زملائه فينظرون هل تابعه أحد عن شيخه أو أنه تفرد بالرواية عن شيخه، وينظرون من تابع شيخ شيخه وهكذا.
ومن الأدلة على جهل الكاتب بكتب الحديث قوله: أين هي خطب الجمعة التي كان يخطبها الرسول؟
فلو كان قرأ كتب الحديث لوجد أن كثيرا من الأحاديث التي سمعها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم يذكرون أنهم سمعوها منه في خطبة الجمعة، وذكروا بعض الآيات والسور التي كان يقرؤها في خطبة الجمعة.
ولجهل الكاتب بكتب الحديث سأل عن وثائق المحدثين على كل حديث، فليعلم أن كل كتاب من كتب الحديث المشهورة رواه عن مؤلفه طلابه، فمثلا البخاري أملى كتابه الصحيح على طلابه، ونسخ طلابه كتابه في حياته، وسمعوه من البخاري نفسه حديثا حديثا وكانوا ألوفا، وانتشرت نسخه في حياته وبعد موته، وإلى يومنا هذا يروي علماء الحديث صحيح البخاري بالأسانيد الكثيرة المتصلة إلى البخاري.
وأشهر تلاميذ البخاري الذين رووا صحيحه واتصلت أسانيد من جاء بعد البخاري إليهم أربعة، وهم: الفربري، والبزدوي، والنسفي، وحماد بن شاكر.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري (1 / 491): وذكر الفربري أنه سمع صحيح البخاري من الإمام البخاري تسعون ألفا.
وبسبب جهل الكاتب بكتب الحديث قال: من هم شهودهم على كل حديث؟!
فهو لا يعرف أن من علوم الحديث معرفة الشواهد والمتابعات، وسنأخذ أول حديث في صحيح البخاري وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) لننظر من تابع البخاري على روايته:
قال البخاري رحمه الله في أول حديث في صحيحه رقم (1): حدَّثنا الحُمَيْدِي، عَبْد اللهِ بن الزُّبَيْر، قال: حدَّثنا سُفْيان. وفي (54) قال: حدَّثنا عَبْد اللهِ بن مَسْلَمَة، قال: أَخْبَرنا مالك. وفي (2529) قال: حدَّثنا مُحَمد بن كَثِير، عن سُفْيان. وفي (3898) قال: حدَّثنا مُسَدَّد، قال: حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد. وفي (5070) قال: حدَّثنا يَحيى بن قزعة، قال: حدَّثنا مالك. وفي (6689) قال: حدَّثنا قُتَيْبَة بن سَعِيد، قال: حدَّثنا عَبْد الوَهَّاب. وفي (6953) قال: حدَّثنا أبو النُّعْمان، قال: حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد. فهؤلاء سبعة من مشايخ البخاري يروي الإمام البخاري الحديث من طريقهم في سبعة مواضع من صحيحه، وكلهم يروونه عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني مُحَمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمِي، أنه سَمِعَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
وأخرجه الحُمَيْدِي في مسنده (28) قال: حدَّثنا سُفْيان. و"أحمد" في مسنده (168) قال: حدَّثنا سُفْيان. ورواه أحمد أيضا في مسنده عن شيخ آخر (300) قال: حدَّثنا يَزِيد. وأخرجه "مسلم" في صحيحه (4962) قال: حدَّثنا عَبْد اللهِ بن مَسْلَمَة بن قَعْنَب، قال: حدَّثنا مالك. وفي (4963) قال: حدَّثنا مُحَمد بن رمح ابن المهاجر، قال: أَخْبَرنا اللَّيْث ، ورواه الإمام مسلم أيضا في صحيحه عن شيخ ثان فقال: حدَّثنا أبو الرَّبِيع العتكي، قال: حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد. ورواه مسلم أيضا عن شيخ ثالث فقال: وحدَّثنا مُحَمد ابن المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عَبْد الوَهَّاب، يعني الثَّقَفِي. ورواه مسلم أيضا عن شيخ رابع فقال: وحدَّثنا إِسْحَاق بن إبراهيم، قال: أَخْبَرنا أبو خالد الأَحْمَر، سُلَيْمان بن حَيَّان. ورواه مسلم أيضا عن شيخ خامس فقال: وحدَّثنا مُحَمد بن عَبْد الله بن نُمَيْر، قال: حدَّثنا حَفْص، يعني ابن غِيَاث، ويَزِيد بن هارون. ورواه مسلم أيضا عن شيخ سادس فقال: وحدَّثنا مُحَمد بن العَلاَء الهَمْدَانِي، قال: حدَّثنا ابن المُبَارك. ورواه مسلم أيضا عن شيخ سابع فقال: وحدَّثنا ابن أَبي عُمَر، حدَّثنا سُفْيان. وأخرجه "أبو داود" (2201) قال: حدَّثنا مُحَمد بن كَثِير، قال: أَخْبَرنا سُفْيان. وأخرجه "ابن ماجه" (4227) قال: حدَّثنا أبو بَكْر بن أَبي شَيْبَة، قال: حدَّثنا يَزِيد بن هارون. ورواه ابن ماجه أيضا عن شيخ ثان فقال: وحدَّثنا مُحَمد بن رمح، قال: أنبأنا اللَّيْث بن سَعْد. وأخرجه "التِّرمِذي" (1647) قال: حدَّثنا مُحَمد بن المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عَبْد الوَهَّاب الثَّقَفِي. وأخرجه "النَّسائي"1/58، قال: أَخْبَرنا يَحيى بن حَبِيب بن عربي، عن حَمَّاد. ورواه النسائي أيضا عن شيخ ثان فقال: وأخبرنا سُلَيْمان بن مَنْصُور، قال: أنبأنا عَبْد اللهِ بن المُبَارك. ورواه النسائي أيضا عن شيخ ثالث 1/58 فقال: قال: الحارث بن مِسْكين، قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن القاسم، قال: أخبرني مالك. ورواه النسائي أيضا عن شيخ رابع 6/158فقال: أَخْبَرنا عَمْرو بن مَنْصُور، قال: حدَّثنا عَبْد اللهِ بن مَسْلَمَة، قال: حدَّثنا مالك. ورواه النسائي أيضا عن شيخ رابع 7/13 فقال: أَخْبَرنا إِسْحَاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا سُلَيْمان بن حَيَّان. وأخرجه "ابن خزيمة" في صحيحه (142) قال: حدَّثنا يَحيى بن حَبِيب بن عربي الحارثي، وأحمد بن عَبْدَة الضَّبِّيّ، قالا: حدَّثنا حَمَّاد بن زَيْد. ورواه ابن خزيمة أيضا عن شيخ ثان (143) فقال: حدَّثنا مُحَمد بن الوَلِيد، قال: حدَّثنا عَبْد الوَهَّاب، يعني ابن عَبْد المَجِيد الثَّقَفِي.
وهؤلاء العشرة (سُفْيان بن عُيَيْنَة، ويَزِيد بن هارون، ومالك بن أنس، وسُفْيان الثَّوْرِي، وحَمَّاد بن زَيْد، وعَبْد الوَهَّاب، والليث بن سَعْد، وأبو خالد الأَحْمَر، وحفص بن غِيَاث، وعَبْد اللهِ بن المُبَارك) رووا الحديث عن يَحيى بن سَعِيد الأَنْصَارِيّ، قال: أخبرني مُحَمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمِي، أنه سَمِعَ علقمة بن وَقَّاص اللَّيْثِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذكر الحديث.
فهل علمت الآن من هم شهودهم على أول حديث في صحيح البخاري؟!
وأختم هذا الرد العلمي بالجواب عن تساؤل الكاتب الجاهل بقوله: أين ما كُتب ونُقِل عن آل البيت؟
فنقول: روى أئمة السنة في كتب الحديث أحاديث كثيرة في فضائل أهل البيت بالأسانيد المتصلة برواية الثقات الأثبات، ولو رجع هذا الكاتب المتعالم إلى أمهات كتب الحديث لعلم مبلغ جهله، فمن ينظر في صحيح البخاري يعجب من كثرة تبويبات الإمام البخاري رحمه الله لفضائل آل البيت، فقد ذكر في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، روى فيه سبعة أحاديث من رقم (3701 - 3707)، وذكر باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه، روى فيه حديثين (3708 و3709)، وذكر باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر البخاري في هذا الباب قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي)، وروى عن ابن عمر عن أبي بكر رضي الله عنهم قال: (ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)، وذكر البخاري باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، روى فيه ثمانية أحاديث (3746- 3753)، ثم قال البخاري رحمه الله: باب مناقب فاطمة عليها السلام، وروى بإسناده عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني)).
وفي صحيح مسلم ذكر الإمام مسلم رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة ستة أحاديث في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2404-2409)، وروى ثلاثة أحاديث في فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما (2421-2423)، وروى حديثين في فضائل فاطمة رضي الله عنها (2449، 2450).
ورواية المحدثين لأحاديث فضائل أهل البيت تثبت بوضوح محبتهم لآل بيت النبوة عليهم السلام، وتبرئهم مما يفتريه عليهم المفترون من حذف بعض الأحاديث تقربا لبني أمية أو غيرهم من الملوك، بل قد رووا كثيرا من الأحاديث في ترهيب السلاطين من الظلم، ورووا أحاديث في التحذير من فتنة السلاطين، بل رووا بعض الأحاديث التي فيها مثالب لبني أمية بالتعيين كالحديث الذي رواه أحمد بن حنبل في مسنده (11758) والحاكم في المستدرك (8480) من طريق الأعمش عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا، اتخذوا مال الله دولا، ودين الله دغلا، وعباد الله خولا)) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (744)، وصححه غيره موقوفًا على أبي هريرة كما رواه أبو يعلى في مسنده (6523).
وأبو العاص الأموي هو جد ملوك بني أمية، فلم يجامل المحدثون أحدا فيتركون رواية هذا الحديث أو غيره مما فيه علم نافع للأمة كما لم يمنعهم أحد من رواية أحاديث فضائل أهل بيت النبوة، فدين الله محفوظ كتابا وسنة، ومن أراد أن يشكك المسلمين في سنة نبيهم فلن يضر إلا نفسه، ولا يضر السحابَ نبحُ الكلاب.
يا نَاطِحَ الجَبَــلَ العالـــي ليَــكْلِمَه أَشفِقْ على الرّأسِ لا تُشْفِقْ على الجَبَلِ
محمد بن علي بن جميل المطري
دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن
- التصنيف: