خطبة الحاجة
يقول الشيخ الألباني -رحمه الله-: "هذه الخطبة تفتتح بها جميع الخطب، سواء كانت خطبة نكاح، أو خطبة جمعة، أو غيرها، فليست خاصة بالنكاح - كما قد يظن -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾} [آل عمران:102]
{﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾} [النساء:1]
{﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾} [الأحزاب:70-71]
إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هذه المقدمة كثيرًا ما نسمعها من الخطباء والمحاضرين، ونقرؤها في افتتاحيات كتب بعض المؤلفين، وتسمى هذه المقدمة «خطبة الحاجة»؛ وهي الخطبة التي كان يقولها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين يدي كلامه في خطبه ومواعظه، وعلم أصحابه أن يقولوها بين يدي حاجاتهم، كالخطبة والعقود ونحو ذلك.
فهي مفتاح يفتتح بها المتكلم الحديث عن حاجة من حاجاته؛ كموعظة أو خطبة أو تعليم أو جواب أو نكاح، أو غير ذلك.
وقد ناسب ذكر هذه المقدمة بين يدي الحاجات بهذه الأصول الكلية؛ فحمد الله ثناء على نعمه ومنها الكلام أو الكتابة، أو غير ذلك.
والاستعانة بالله طريق إلى التوفيق في القول، والعبد مفتقر إلى ذلك.
والعصيان من أسباب الخذلان، فيحتاج المسلم إلى طلب المغفرة والهداية حتى يظفر بمطلوبه.
وشرور النفس، وسيئات الأعمال تقف في طريق التوفيق، ومن شرور النفس: العجب بقدرة النفس، فيحتاج العبد الذي يريد الوصول إلى النُّجح في حاجته إلى الاستعاذة بالله من شر نفسه وسيء عمله.
ولما كان المتكلم أو الكاتب سيقف داعيًا للحق فيحسن به أن يبين أن أصدق الكلام كلام الله، وأحسن الهدي، الهدي الذي جاء به رسول الله؛ ليشير بذلك إلى أنه ينبغي دعوة الناس وفق كلام الله، وهدايتهم بما يتوافق مع هدي رسول الله، وأن على الناس سماع كلام الله واتباعه؛ لأنه أصدق الكلام، وسماع كلام رسوله والعمل به؛ لأنه أحسن الكلام البشري.
وبيانه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن شر الأمور محدثاتها، ووصف المحدثة والحُكم عليها وبيان عاقبتها؛ فيه دعوة إلى أن تكون دعوة المسلم بعيدة عن البدع والمحدثات، وفيها ترهيب من الوقوع في ذلك؛ لأن الوصف والعقوبة الناتجة عن البدعة قد بينته هذه الكلمات المضيئة.
ثم ختم المقدمة بالوصية بالتقوى، وهي الأمر الجامع لصلاح الدين القائم على فعل الأوامر وترك النواهي، فالوصية بالتقوى دعوة متكررة في كل خطبة إلى لزوم شرع الله -أمرًا ونهيًا- على الدوام.
** لخطبة الحاجة أهمية عظيمة ويدل على ذلك: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يعلمها أصحابه؛ فقد قال عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ، قَالَ:.... وَالتَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا" وذكرها بنحوه.
ومما يدل على أهمية هذه الخطبة: أنها كانت سببًا لإسلام الصحابي ضماد بن ثعلبة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ [الجنون ومس الجن] فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ فَقَالَ لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ قَالَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ.
قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
قَالَ فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ [قعره الأقصى]
قَالَ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى قَوْمِكَ قَالَ وَعَلَى قَوْمِي قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً فَقَالَ رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ. [مسلم]
** يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولهذا استحبت وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا؛ من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس ومجادلتهم: أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية ... ؛ فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة، في مخاطبة العباد بعضهم بعضا، والنكاح من جملة ذلك.
فإن مراعاة السنن الشرعية، في الأقوال والأعمال، في جميع العبادات والعادات: هو كمال الصراط المستقيم، وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه، فإنه منقوص مرجوح؛ إذ خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". [مجموع الفتاوى]
** فما معاني هذه الكلمات التي علمها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه؟
وما معاني هذه الكلمات التي أبهرت عقل ضماد فأسلم فور سماعها؟
** قوله (إن الحمد لله، نحمده)
افتتحت ببيان أن الحمد كله لله، وأنه لا يستحق ذلك سواه؛ فهو تعالى محمود على كماله وجلاله وجماله في ذاته وصفاته وأقضيته وأفعاله.
والحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال، فهذا هو الحمد، لكن لا بد أن يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم والإجلال؛ لأنه إن لم يكن مصحوباً بذلك سمي مدحاً لا حمداً.
ومن ثمَّ نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الأمراء مدحاً عظيماً بالغاً، لكنك لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه خالٍ من محبة هذا الأمير، ولكنه يمدحه؛ إما لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة.
أما حمدنا لله -عز وجل- فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ إن محبة الله تعالى فوق كل محبة، ومحبة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوق محبة كل مخلوق، ولهذا يجب علينا أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، ويجب علينا أن تكون محبة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوق محبة أنفسنا وأهلينا ووالدينا وأولادنا؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أعظم الناس حقاً علينا، به هدانا الله، وبه أرشدنا، وبه دلنا على كل خير، وبه بين لنا كل شر، وبه نقتدي على منهاج ربنا -عز وجل- الموصل إلى دار كرامته ورضوانه.
فلهذا من لم يكن قلبه مملوءاً من محبة الله ورسوله، ومن لم يكن مقدماً لمحبة الله ورسوله على من سواهما، فليعلم أن في قلبه مرضاً، وليحرص على أن يصحح هذا المرض، قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البخاري].
وإذا كررت الوصف بالحمد سمي ثناءً. وعليه؛ فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال.
ويدل على هذا الفرق: ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي) والتمجيد: التعظيم
من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة، ويجد أن قلبه استنار بها، وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به.
وقيل: الحمد هو الوصف بالجميل، وهو مطلق الثناء بكل أنواعه، فهو منتهى الثناء، قال العلامة الطاهر ابن عاشور: "الحمد يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى، بناء على ما تدل عليه جملة «الحمد لله» من اختصاص جنس الحمد به تعالى، واستحقاقه لذلك الاختصاص.. والحمد هو الثناء على الجميل، أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده، فالثناء الذكر بخير مطلقا".
"والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله.. فإن وجوده ابتداء ليس إلا نعمة من النعم الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء.
وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان.. ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70] والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله".
فقوله: (الحمد لله نحمده) جملة: (نحمده) جملة فعلية، (والحمد لله) جملة اسمية، فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الاسمية، لتأكيد تكرار الحمد، كأننا مستمرون بحمد الله عز وجل.
والحمد عبادة من العبادات التي تؤدى في سراء المسلم وضرائه؛ فقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رأى ما يسره قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يسؤوه قال: الحمد لله على كل حال) [ابن ماجة]
ولما كان الحمد كذلك فإن علينا أن نستمر في حمد الله ما دمنا على هذه الحياة، ولذلك بعد أن قال: الحمد لله، قال: (نحمده).
** قوله: (ونستعينه)
أي: نطلب منه العون، على أي شيء؟ وعلى كل شيء، وقيل: )نستعينه) في حمده والثناء عليه بما هو أهله وغير ذلك، وهو وما بعده جمل مستأنفة مبيّنة لأحوال الحامدين.
فنحن نطلب من الله العون في كل ما توجهنا إليه من أمور ديننا ودنيانا؛ لأننا ضعفاء عاجزون، فلو وكلنا إلى أنفسنا لهلكنا.
قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28]
وقال الشاعر:
إِذا لم يكن عون من الله للفتى *** فَأكْثر مَا يجني عَلَيْهِ اجْتِهَادهُ
وكما نقول في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] على كل شيء. ومنها: أن نستعينك على أداء الصلاة على الوجه الذي يرضيك عنا.
وعندما تتكلم بهذه الخطبة، فإنك تستعين الله تعالى على هذه الخطبة التي ستقولها وتسأله العون، وفي الحديث: عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ) [رواه الترمذي وضعفه الألباني]
** قوله: (ونستغفره)
أي: نسأله المغفرة، والمغفرة: هي ستر الذنب مع التجاوز عنه.
فأنت عندما تقول: (أستغفر الله) تسأل الله شيئين هما: الأول: ستر الذنب، والثاني: التجاوز عنه بحيث لا يعاقبك الله عليه.
ولهذا إذا كان يوم القيامة فإن الله تعالى يخلو بعبده المؤمن ويقول: (فعلت كذا فعلت كذا حتى يقر، ثم يقول الله -عز وجل-: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) اللهم اغفر لنا.
"ونستغفره" أيضا أي في تقصير عبادته وتأخير طاعته، فالعبد يتابع الاستغفار دائما يستغفر ربه بعد الطاعة لأنه لم يطعه كما أمره، ويستغفر بعد معصيته لأنه عصاه وهو خالقه، فالاستغفار إظهار الفقر لله تعالى، وقد أمر الله نبيه بالاستغفار في أشد ما يكون فرحه وهو يوم أن نصره الله على أعدائه الذين آذوه وقاتلوه، فقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
فالاستغفار له ملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل: منها الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب بعد الطاعة، ومنها الاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره.. فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض.. {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل:18] فمن هذا التقصير يكون الاستغفار.
ونحن نديم طلب المغفرة من الله تعالى؛ لأن ذنوبنا كثيرة، وهي مستمرة معنا، فناسب أن نستمر في الاستغفار. قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرا) [ابن ماجة]
ونجد أن في كتب بعض العلماء الذين يبدؤون بهذه الخطبة (نستغفره ونتوب إليه) ولكن بعد التحري لم نجد في الحديث: (ونتوب إليه) بل (نستغفره) فقط.
وقوله (نحمده ونستعينه ونستغفره) ثلاث كلمات تضمنت ثلاثة مطالب عظيمة بها صلاح الدنيا والدين والآخرة، وقد جاءت بصيغة المضارعة الدالة على التجدد والاستمرار.
** قوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)
أي: نعتصم بالله من ظهور شرور أخلاق نفوسنا الردية، وأحوال طباع أهوائنا الدنية.
والنفوس ثلاث: (نفس شريرة): وهي الأمارة بالسوء، (ونفس خيرة): وهي المطمئنة تأمر بالخير، (ونفس لوامة)، وكلها مذكورة في القرآن:
النفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]
والنفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير مذكورة في سورة الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28-30]
والنفس اللوامة مذكورة في سورة القيامة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2]
والنفس اللوامة من العلماء من يقول: إنها نفس ثالثة، ومنهم من يقول: بل هي وصف للنفسين السابقتين.
فمثلاً: النفس الخيرة تلومك إذا عملت سوءاً أو فرطت في واجب. أما النفس الشريرة تلومك إذا فعلت خيراً، أو تجنبت محرماً: كيف تحجر على نفسك؟ لماذا لم تتحرر؟ لماذا لا تفعل كل ما تريد؟
أما النفس الخيرة فتلومك عند فعل الشر وترك الخير، والنفس الأمارة بالعكس.
وأياً كان الأمر سواء كانت نفساً ثالثة، أو هي وصف للنفسين:
الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن للنفس الشريرة علامة، أنها تأمرك بالشر تأمرك بالكذب بالغيبة بالغش بالسرقة بالزنا بشرب الخمر...
والنفس الخيرة بالعكس، تأمرك: بالخير بالصلاة بالذكر بقراءة القرآن بالصدقة بغير ذلك مما يقربك إلى الله، ونحن كلنا نجد في نفوسنا مصارعة بين هاتين النفسين، والموفق من عصمه الله ووقاه شر نفسه، ولهذا نحن نقول: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا) فأنفسنا فيها شر، إذا لم يعصمك الله عز وجل من شر نفسك هلكت.
** قوله: (ومن سيئات أعمالنا)
الأعمال السيئة لها آثار سيئة: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، والسيئة تجلب السيئة، وتقود الإنسان إلى السيئة الأخرى قهراً، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن المعاصي بريد الكفر.
أي: إذا هانت المعاصي في نفسك هانت الصغيرة ثم هانت الكبيرة ثم هان الكفر في نفسك، فكفرت والعياذ بالله، ولهذا يجب على الإنسان من حين أن يشعر بالمعصية أن يستغفر الله منها، وأن يلجأ إلى الله -عز وجل- بالإنابة والتوبة حتى تمحى آثارها، وحتى لا يختم على القلب، وحتى لا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة: {كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما قوله: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا} فإن المستعاذ منه نوعان:
فنوع موجود يستعاذ من ضرره الذي لم يوجد بعد
ونوع مفقود يستعاذ من وجوده؛ فإن نفس وجوده ضرر
مثال الأول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"
ومثل الثاني: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون] وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل).
وأما قوله: {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب* ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد} فيشترك فيه النوعان فإنه يستعاذ من الشر الموجود أن لا يضر، ويستعاذ من الشر الضار المفقود أن لا يوجد.
فقوله في الحديث: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) يحتمل القسمين: يحتمل التعوذ بالله أن يكون منها شر، والتعوذ بالله أن يصيبنا شرها وهذا أشبه والله أعلم.
وقوله: (ومن سيئات أعمالنا) السيئات هي عقوبات الأعمال كقوله في مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] فإن الحسنات والسيئات يراد بها النعم والنقم كثيرا، كما يراد بها الطاعات والمعاصي.
وإن حملت على السيئات التي هي المعاصي، فيكون قد استعاذ أن يعمل السيئات، أو أن تضره.
وعلى الأول، وهو أشبه: فقد استعاذ من عقوبة أعماله أن تصيبه؛ وهذا أشبه.
فيكون الحديث قد اشتمل على الاستعاذة من الضرر الفاعلي، والضرر الغائي. فإن سبب الضرر هو شر النفس، وغايته عقوبة الذنب." [مجموع الفتاوى بتصرف]
** قوله: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)
يعني: من يُقدر هدايته ومن يهده بالفعل فلا مضل له، فإذا أراد الله هداية شخص، فإن الناس لا يستطيعون أن يضلوه أبدًا.
فمن يهده الله تقديرا وفعلاً فإنه لا أحد يضله فلا مضل له، كذلك من يضلل تقديرًا أو فعلاً، فلا هادي له.
وأكبر مثل على ذلك أبو طالب عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي صار منه إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إحسانا بالغًا ومدافعة عظيمة، ومع هذا لم يتمكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هدايته حَتَّى في آخر لحظة قال له: «قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله». ولكنه حيل بينه وبينها -والعياذ بالله- لأن الله لم يرد هدايته، والذي يُضله الله لا هادي له.
هذه الجملة جاءت بمعناها آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ [الزمر:37]، وقوله: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف:17]
فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نطلب الهداية من الله، ونستعيذ به من الضلالة؛ فالهداية إلى الحق أعظم نعم الله على العبد، وهي نعمة انفرد بها سبحانه فتستحق جزيل الحمد والشكر، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف:43]
والضلال أكبر النقم على العبد. نسأل الله أن ينعم علينا بتمام الهداية، ويجنبنا سبل الضلال والغوية.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تعالى هو الذي يهدي ويضل وخلق العباد ولهم قدرة، فعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ" ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل:5-6] [رواه البخاري]
وفي بعض الآثار: أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جَاثَلِيقُ [قس] يترجم له [بالفارسية] ما يقول، فقال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فنفض جنبيه كالمنكر لما يقول [نفض الجاثليق ثوبه كهيئة المنكر لذلك]، قال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا، قال عمر: كذبت أي عدو الله، بل الله خلقك وقد أضلك ثم يدخلك النار، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله -عز وجل- خلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، فتفرق الناس وما يختلفون في القدر.
فالله -جل وعلا- بعلمه الغيب، علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي صالحين مصلحين، وأصحاب نفوس طاهرة، فكتبهم كذلك وجعلهم من أهل الجنة قبل خلقهم، ولذا لما سمعوا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ " زادوا في أعمال البر والتقوى، بل إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في الجنة بلا ريب كان يكثر من أعمال الخير، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟) [رواه مسلم]
وعلم الله أن فرعون وهامان وأبا لهب وأبا جهل فاسدين الطوية خبثاء النفوس أرجاس أنجاس لذا كتبهم في النار قبل أن يخلقهم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:37-28]
قال ابن كثير: شارحا هذه الآية: "يذكر تعالى حال الكفار، إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك، قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملاً صالحاً، ولا يكذبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين...
ثم قال تعالى مبينا سبب طلبهم العودة إلى الدنيا: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا: {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}، من الكفر والمخالفة: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين، أي لعادوا لما نهوا عنه، ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها" ا. هـ.
وكل هذا مقدمة بين يدي قوله: (وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)، فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره واللجوء إليه والإيمان بأقداره.
** قوله (وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)
هاتان شهاداتا الإسلام وهما أساسه وركنه الأول: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة.
فهاتان الشهادتان لا يصح إسلام أحد إلا بالإقرار بهما ظاهرًا وباطنا، وإلا كان خارجًا عن ملة الإسلام.
فلا إله إلا الله كلمة التوحيد ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وأي إله سواه عُبد فقد عُبد بباطل.
وشهادة أن محمدًا رسول الله تعني: طاعته فيما أَمر، وتصديقه فيما أخبر، وترك ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
والإسلام كله مداره على هذه الجملة العظيمة، ففي مسند أحمد بسند صحيح عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ نَوْفًا، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَعْنِي ابْنَ الْعَاصِي، اجْتَمَعَا فَقَالَ نَوْفٌ: لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا وُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ كُنَّ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لَخَرَقَتْهُنَّ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلّ.
ويلاحظ هنا أن الفعل بصيغة المتكلم المفرد بخلاف الأفعال المتقدمة فهي بصيغة الجمع، وقد أبدى شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في ذلك حكمة لطيفة نقلها عنه تلميذه ابن القيم في «تهذيب السنن» فقال:
"والأحاديث كلها متفقة على أن: «نستعينه» و «نستغفره» و «نعوذ به» بالنون والشهادتين بالإفراد: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله». قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد ولا تقبل النيابة بحال أفرد الشهادة بها، ولما كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار تقبل ذلك فيستغفر الرجل لغيره ويستعين الله له ويستعيذ بالله له أتى فيها بلفظ الجمع.
وفيه معنى آخر: وهو أن الاستعانة والاستعاذة والاستغفار طلب وإنشاء فيستحب للطالب أن يطلبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين وأما الشهادة فهي إخبار عن شهادته لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة وهي خبر يطابق عقد القلب وتصديقه وهذا إنما يخبر به الإنسان عن نفسه لعلمه بحاله بخلاف إخباره عن غيره فإنه يخبر عن قوله ونطقه لا عن عقد قلبه. والله أعلم".
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران:102]
{اتقوا الله} كما يحق له أن يتقى، وهي هكذا بدون تحديد مما يدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها.
وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدت له أشواق، وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى، وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام.
قال ابن كثير: "عن عبد الله ابن مسعود: {اتقوا الله حق تقاته} قال: "أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر"، وهذا إسناد صحيح موقوف، وعن ابن عباس قال: {تقاته} أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم".
﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾
الموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه، فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما، وأن يكون في كل لحظة مسلما.
وذكر الإسلام بعد التقوى يشير بمعناه الواسع: الاستسلام.. الاستسلام لله، طاعة له، واتباعا لمنهجه، واحتكاما إلى كتابه.
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها.
إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا، ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية، ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية .
قال ابن كثير: "أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذاً بالله من خلاف ذلك".
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾
يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام وخلق منها زوجها وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر، من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه.
وقيل: ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض، ويحننهم على ضعفائهم.
﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء ﴾
أي نشر وذرأ منهما -أي من آدم وحواء- رجالاً كثيراً ونساء كثيرة، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]
أي: تتسائلون به فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض: "أسألك بالله وأنشدك بالله" {والأرحام} أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم {إن الله كان عليكم رقيبا} حافظا لأعمالكم فيجازيكم بها، أي لم يزل متصفا بذلك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70-71]
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولاً سديداً، أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها، ثم قال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} وذلك أنه يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم".
والطاعة بذاتها فوز عظيم، فهي استقامة على نهج الله، والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة، والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الواصل سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه.
** قوله: (فإن خير الحديث كتاب الله) وفي رواية: (إن أصدق الحديث كتاب الله)
هذه جواب الشرط، (خير) هنا اسم تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال؛ يعني: أخير الحديث كتاب الله، وهو القرآن.
فهو خير الأحاديث في الأخبار وفي الأحكام، لأنه مشتمل على غاية الصدق في الأخبار وعلى غاية العدل في الأحكام.
وخير الحديث أيضًا فصاحة وبلاغة وأسلوبًا، فلا يوجد له نظير، والبلغاء والفصحاء من قريش اعترفوا فيما بينهم سرًّا بأنه ليس من كلام البشر، حتى إن بعضهم ما ملك نفسه أن يسلم حين سمع القرآن.
كما أنه خير الحديث في إصلاح القلوب، فلا حديث أشد إصلاحًا للقلوب من كلام الله عز وجل.
وهو أيضًا خير الحديث في إصلاح المعاش معاش الخلق، لذلك لما كانت الأمة قائمة به كانت أسعد الأمم.
وهو خير الحديث أيضًا في إصلاح المعاد، يقول تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123] لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]
وهو أيضًا خير الحديث في قوة تأثيره، ولهذا قال الله -عز وجل-: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52].
فهو خير الكلام من كل ناحية: في لفظه ومعناه وتأثيره وعاقبته، وإصلاحه للخلق في الأعمال والقلوب والأحوال، فخير الحديث كتاب الله المكتوب.
** قوله: (وخير الهدي هدي محمد) وفي رواية: (وأحسن الهدي هدي محمد)
الهدي: الطريق والسُّنة والعمل، فيشمل الأخلاق والعبادة والمعاملة، فخير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- حتى من هدي الأنبياء السابقين، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]
فهديه، أي: إرشاده وطريقته، فقد كمّل اللهُ تعالى رسولَه محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصفات الكمال البشري، ومن ذلك كماله في هدايته.
وقد زكاه الله بهذا فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى:52]، وقال: ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79]
فإذا أردنا أحسن الدلالة، وأفضل الطريقة للهداية فعلينا الاقتداء بنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
** قوله: (وشر الأمور محدثاتها)
(شر الأمور) الأمور المتعلقة بالدين والعبادة شرها محدثاتها، أما ما يتعلق بالدنيا فإن من المحدثات ما هو خير وخير مما قبله أيضًا، لكن المقصود هنا: ما يتعلق بأمور الدين.
يعني: التي أحدثت في دين الله هي شر الأمور.
لو قال لي قائل: أنا أريد الخير، أنا إذا فعلت هذا أجد في قلبي رقة ولينًا وخشوعًا، لماذا تمنعوني؟ ماذا نقول؟
نقول: هذا ليس بخير؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يقول: (شر الأمور)، و"شر" اسم تفضيل يعني: أشر الأمور ما أحدث في دين الله حتى لو تراءى لفاعله أنه خير فهذا من تزيين الشيطان له، وإلا فليس بخير مهما كان، لو قالوا: والله نحن اجتمعنا وخشعنا وبكينا وذكرنا الله عز وجل، وذكرنا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما أشبه ذلك، نقول: هذا شر لا شك نحن نؤمن بهذا هذا القبس الذي تجدونه ينقدح عند هذا الذكر هو ينطفئ ويعقبه ظلمة وحرارة؛ لأنه يُفسد القلب.
البدع مهما كانت فإنها تُفسد القلوب؛ لأنها- بإذن الله- يحدث بها رد فعل بالنسبة للسنن، ولهذا قال بعض السلف: "ما أحدث قوم بدعة إلا وتركوا من السنة ما هو خير منها"، وهذا صحيح، فالقلب إذا اشتغل بالباطل ما بقي للحق فيه محل، كما أنه إذا انشغل بالحق ما بقي فيه للباطل محل."
** قوله: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)
بدعة في الدين، والبدعة ما تعبد به الله -عز وجل- عقيدة أو قولًا أو عملًا أو فعلًا، ولم يكن على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه إذا كان على عهده فليس ببدعة.
وقوله: (ضلالة) الضلالة ضد الهدي، فهي ميل وخروج عن الصراط المستقيم وضلال" [فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام]
(وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).. هذه الجمل الأربع تحذير من سلوك طريق البدع؛ فقد بين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن شر الأمور المحدثات في الدين؛ وذلك لأنها اتهام غير مباشر لرسول الله بأنه لم يبلغ جميع الدين، ولأنها تصير الدين من حق إلهي إلى حق مشترك بينه وبين خلقه، فيصبح الدين ألعوبة بين عقول البشر كل يزيد فيه على حسب هواه عبر الأجيال.
وقد بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن كل المحدثات في الدين من مسمى البدع، وأن البدع تسوق إلى الضلال؛ لأنها تعدٍّ على حق الشارع الذي هو الحق، وما بعد الحق إلا الضلال.
ثم إن البدعة تؤدي بصاحبها إلى النار إذا لم يتب منها؛ لأنها عمل مخالف لشرع الله، وكل عمل مخالف لشرع الله فمصيره النار.
** اختلف العلماء في «خطبة الحاجة» ومشروعيتها في بداية التأليف والتصنيف أو المراسلات بين الناس، وذلك على قولين :
القول الأول: "خطبة الحاجة" ليست سنة في ابتداء الكتابة والتأليف .
يقول ابن علان -رحمه الله-: الخطبة المعروفة من خطبة الجمعة والعيد ونحوهما، وخطبة الحاجة ونحوها؛ لأنها المعهودة في عهد الشارع، دون خطب نحو الكتب، وقد ترك الإتيان بها – أي بالشهادة – الترمذي في جامعه وشمائله، وكذا أبو داود، وهما راويا الحديث، فدل صنيعهما على تخصيصه بما ذكر" [الفتوحات الربانية]
ويقول الملا علي القاري -رحمه الله-: لما ترك أكثر المصنفين العمل بظاهر هذا الحديث (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) دل على أن ظاهره غير مراد، فيؤول بأحد التأويلات، والأظهر عندي أن تحمل الخطبة في هذا الحديث على الخطب المتعارفة في زمانه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيام الجمع والأعياد وغيرها، فإن التصنيف حدث بعد ذلك". [جمع الوسائل شرح الشمائل]
واستدلوا بالأدلة الآتية :
الدليل الأول: كُتب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الملوك والأمراء ليس فيها البداءة بهذه الخطبة، كما أنه عليه الصلاة والسلام في كثير من كتبه التي أمر بكتابتها للمسلمين في بيان الصدقات والديات وغيرها لم يأمر ببداءتها بخطبة الحاجة، وليس فيها الحمد والتشهد، وإنما فقط البسملة .
يقول ابن حجر -رحمه الله-: "جمعت كتب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد، بل بالبسملة". [فتح الباري]
الدليل الثاني: أن أحدا من أهل العلم المصنفين في الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل أو الفقه كالشافعي، أو التفسير أو علوم القرآن أو النحو، كلهم لم نجد أحدا منهم يبتدئ كتابه بخطبة الحاجة، كما لم نقف على من يذكر خطبة الحاجة في كتب الآداب، أو يقرر استحبابها في التأليف والمراسلات، وإنما يذكرونها في كتاب «النكاح» فحسب، فإذا كان ذلك سنة فكيف تغيب عن علماء الإسلام الذين هم مادته وقوامه !!
يقول ابن حجر -رحمه الله-: "تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخه، وأهل عصره، كمالك في الموطأ، وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأبي داود في السنن، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة .... أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب، كما تقدم، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم ... وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة، وكذا معظم كتب الرسائل". [فتح الباري]
القول الثاني: «خطبة الحاجة» سنة مستحبة في أوائل المصنفات والمراسلات، وهو قول الإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- الصريح في مقدمة كتابه «مشكل الآثار»، كما هو ظاهر ما يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد افتتح الكثير من رسائله بإحدى صيغ خطبة الحاجة الثابتة، وهي من الكثرة بحيث يشق حصرها، تجدها في «مجموع الفتاوى»، و «جامع الرسائل»، وكذلك كتبه «درء التعارض»، و «بيان تلبيس الجهمية»، و «الأخنائية»، وكذلك العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله، افتتح كتبه «الطرق الحكمية»، و «الصلاة وأحكام تاركها» بهذه الخطبة.
يقول الطحاوي -رحمه الله-: ابتدأته – يعني كتابه - بما أمر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بابتداء الحاجة به، مما قد روي عنه بأسانيد أنا ذاكرها بعد ذلك إن شاء الله، وهو: إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله – وذكر الآيات الكريمات" [شرح مشكل الآثار]
ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "لهذا استُحبت – يعني خطبة الحاجة - وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا، من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس ومجادلتهم، أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية .
وكان الذي عليه شيوخ زماننا الذين أدركناهم وأخذنا عنهم وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير أو الفقه في الجوامع والمدارس وغيرها بخطبة أخرى. مثل: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عنا وعنكم وعن مشايخنا وعن جميع المسلمين، أو وعن السادة الحاضرين وجميع المسلمين .
كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضا، والنكاح من جملة ذلك، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم، وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح، إذ خير الهدي هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [مجموع الفتاوى]
ويقول ابن علان -رحمه الله-: وقيل: بل الخطبة على عمومها، ولعل أبا داود والترمذي أتيا بها لفظا، وأسقطاها خطا، وذلك كاف". [الفتوحات الربانية]
ويقول الشيخ الألباني -رحمه الله-: "هذه الخطبة تفتتح بها جميع الخطب، سواء كانت خطبة نكاح، أو خطبة جمعة، أو غيرها، فليست خاصة بالنكاح - كما قد يظن - وفي بعض طرق حديث ابن سعود التصريح بذلك كما تقدم" [خطبة الحاجة للألباني]
واستدلوا على ذلك بالأدلة الآتية :
الدليل الأول: الأحاديث الكثيرة الواردة في افتتاح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض خطبه ومواعظه وكلامه بخطبة الحاجة. ولم يخصها بالنكاح، فقد تكلم بها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين يدي ضمام بن ثعلبة، ولم يكن في ذلك نكاح ولا جمعة ولا عيد .
ومن ذلك أيضا حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الحَاجَةِ" [الترمذي] فقالوا: إن كلمة (الحاجة) تشمل كل حاجة، سواء كانت درسا وموعظة وخطبة، أم مصنفا وتأليفا ورسالة، أم غيرها .
يقول السندي -رحمه الله-: "الظاهر عموم الحاجة للنكاح وغيره، فينبغي للإنسان أن يأتي بهذا ليستعين به على قضائها وتمامها". [حاشيته على سنن النسائي]
الدليل الثاني: العموم الوارد في بعض الروايات، منها ما ورد في «سنن أبي داود» عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قوله: "عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خُطبَةَ الحَاجَةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيرِهِ".
الدليل الثالث: افتتاح بعض العلماء كتبهم بهذه الخطبة، كما سبق عن كل من الإمام الطحاوي، وابن تيمية، وابن القيم.
وبالتأمل في أدلة الفريقين يمكننا أن نتبين رجحان القول الأول لقوة أدلته .
أما الجواب على أدلة القول الثاني :
فدليلهم الأول ليس فيه نص في محل الخلاف الذي هو ابتداء الكتب والمصنفات، فجميع الروايات الواردة في خطبة الحاجة إنما هي في الخطب القولية واللفظية، أما السنة العملية للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتابة الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وغيرهم فليس في شيء منها خطبة الحاجة، وفعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبين للمجمل، وموضح للمبهم .
أما الدليل الثاني فلا يسلَّم لهم أيضا، فقد وردت زيادة (في النكاح وغيره) من طريق أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود. وهذا إسناد منقطع، فأبو عبيدة لم يسمع من أبيه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وهذا ما عقب به النسائي على الحديث بعد أن أخرجه في «السنن» قال: "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا".
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: " هذه الزيادة (في النكاح وغيره) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق، وظاهرها أنها من قول ابن مسعود، لكن خالف شعبة، فجعلها من قول أبي إسحاق، حيث قال: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النكاح أو في غيرها؟ قال: في كل حاجة. رواه الطيالسي [خطبة الحاجة للألباني] وعلى فرض صحة الزيادة فالمقصود بها غير النكاح من الكلام والمواعظ، وليس الكتابة والتأليف .
وأما الدليل الثالث فهو محل الخلاف، فلا يستدل بموضع النزاع، كما لا ينبغي أن يستدل برأي بعض العلماء على الآخرين، وإنما العبرة بالسنة النبوية المرفوعة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قوله أو فعله .
وحين نقول بعدم السنية فذلك لا يعني عدم الجواز، فلا مانع أن يستفتح الكتاب بخطبة الحاجة أحيانا، ولكن ذلك لا يعني الاستحباب والندب .
هذا فضلا عن أن كل من بدؤوا بعض كتبهم بخطبة الحاجة: كان هديهم الأكثر على خلاف ذلك، فالطحاوي لم يفتتح سوى كتاب واحد بهذه الخطبة، أما بقية كتبه فلم يفعل. وكذلك الشأن لدى كل من ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعا .
وجواب الشيخ الألباني -رحمه الله- عن ذلك بقوله: "هي ليست فرضا حتى لا تترك، بل قد يكون العكس هو الأصوب، وهو تركها أحيانا، حتى لا يتوهم أحد فرضيتها".
مثل هذا الجواب يصلح لو كانت ثبتت الحجية بأدلة صريحة من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحث على بداءة الكتب بها أو فعله، ولكن لما لم يثبت ذلك فترك العلماء لها يؤيد عدم سنيتها.
يقول الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: "وهؤلاء المؤلفون من علماء الإسلام، لا تراهم كذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فإنه في كتبه وفتاويه يفتتح بها تارة، وبغيرها تارة أخرى .
ولهذا فإن ما تشاهده وتسمعه في عصرنا من التزام بعض الكتاب بافتتاح رسائلهم بها، وخطبهم بها، كل هذا التزام لا أعرفه في الحياة العملية في هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا صحابته رضي الله عنهم، ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان، ومن ادعى فعليه الدليل .
بهذا التقرير تعلم فقه أصحاب السنن رحمهم الله تعالى في ترجمة خطبة الحاجة في "كتاب النكاح" وتقرير العلماء بمشروعيتها بين يدي عقد الزواج" [تصحيح الدعاء]
فالخلاصة: أن الهدي العام في المؤلفات هو البداءة بالبسملة، أو الحمدلة العامة بأي صيغة ترد، أما خطبة الحاجة المشتملة على ألفاظ معينة وآيات محددة: فليست سنة في المؤلفات والمصنفات.
بل قد قال كثير من العلماء إنما تستحب في خطبة النكاح فقط، لأنك عند البحث والتفتيش تتبين أن عشرات المحدثين والفقهاء في كتب الفقه والحديث إنما أوردوا خطبة الحاجة في معرض أبواب النكاح وآدابه وأحكامه، ولو رحنا نسوق ذلك لطال المقام بنا جدا.
** قال فريق من أهل العلم أنها سنة في عقد النكاح، والصحيح أنها سنة في الجمعة كذلك، وأجاز بعض العلماء النكاح بغير خطبة، كما نقل ذلك الإمام الترمذي في جامعه، واستدلوا لذلك بحديث: عَنْ رَجُلٍ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: «خَطَبْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ» [أبو داود وضعفه الألباني ورواه البخاري في التاريخ الكبير، وقال إسناده مجهول]، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وفيه (يعني حديث سهل بن سعد) أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة إذ لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة. ا.هـ
والوارد في السنة تقديم الخطبة أعني خطبة الحاجة بين يدي الخطبة، وهي حاجة من الحاجات التي تشرع عندها، وأما عقد النكاح فهو شيء من ذلك.
** جاءت خطبة الحاجة في السنة على ألفاظ متنوعة مشتركة ومختلفة في بعضها، لكن يجمعها البدء بالحمد والشهادة.
** من الأمور الخطأ الملحوظة: أن يكثر في السامعين الانشغال الذهني عن خطبة الحاجة حتى يدخل المتكلم في موضوع كلامه، ويتجاوزها بعض القراء في الكتب التي يقرأها إلى شروع الكاتب في صلب حديثه.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: