الإيجابية.. خصلة المؤمنين
إنما تتحقق الإيجابية في شخصية المسلم إذا استحضر دومًا غاية وجوده وحكمة خلقه، وهي عبادة الله تعالى وعمارة الأرض؛ كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
معاشر المؤمنين:
فديننا دين الإيجابية والعطاء المتجدِّد، والمبادرة إلى الخير، وعمارة الأرض، والنفع للعباد، فخير العباد أنفعهم للناس؛ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11].
وتأملوا هذا الحديث للمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة»، قيل: أرأيتَ إن لم يجد؟ قال: «يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق»، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يُعين ذا الحاجة الملهوف»، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يأمر بالمعروف أو الخير»، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: «يُمسك عن الشر فإنها صدقة».
أرأيتم - عباد الله - كيف يحث الإسلام على الإيجابية والعطاء، ويربي المسلم على أن يكون نافعًا لأمته، مبادرًا إلى الخير، وأقل ذلك أن يكف أذاه، والأعجب في تأكيد هذا المعنى الجميل، ما جاء في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا يقوم حتى يغرسها، فليفعل».
ولقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة على روح المبادرة والإيجابية؛ فهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه حين قدِمت جموع الأحزاب على المدينة، بادر باقتراح كان سببًا – بعد فضل الله ونصره – في حماية المدينة؛ قال سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا كنا بفارس إذا حُوصرنا خَنْدَقْنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى العمل حتى فرغوا منه)).
وهذا نُعيم بن مسعود رضي الله عنه، كان من غطفان وهي مع قريش في حصارها المدينة، فجاء مسلمًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا الناس ما استطعت»، فإن الحرب خدعة، فقام نعيم بعمل بارعٍ في الوقيعة بين بني قريظة وقريش حتى تفرقت كلمتهم، وأرسل الله عليهم ريحًا وجنودًا لم يرَوها، فانقلبوا خائبين منهزمين.
معاشر المؤمنين:
الفرق بين الإيجابي الفاعل في حياته، والمتفاعل في مجتمعه، وبين السلبي الذي لا نفع له ولا خير يُرجى منه، كالفرق بين الليل والنهار، وبين الحي والميت؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
وللإيجابية – عباد الله – مجالات عدة؛ منها:
• إيجابية التعاون على البر والتقوى: قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، فيتعاون المسلمون على كل نفع وخير ومعروف، ويتناهَون عن كل إثم وعدوان.
• إيجابية التفاعل الاجتماعي: أن يكون المسلم عضوًا فاعلًا في مجتمعه وأمته، يتحسَّس حال الفقراء والمساكين وذوي الحاجة، ويحنو على اليتامى والأرامل والمنكوبين، لا سيما أهل غزة والسودان في كربهم وتسلط أعدائهم، فلا يكتفي بالتألم والحوقلة، بل يبادر بالدعم والمساندة والنصرة، طامعًا في الأجر الموعود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليلَ الصائم النهارَ».
ومن صور الإيجابية أيضًا الجُود بالمال والوقت من أجل إسعاد الآخرين؛ ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته»، ويسعى الإيجابيُّ للصلح بين الناس، ونشر المحبة والوئام؛ امتثالًا لقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة»؛ (رواه أبو داود والترمذي).
ومن صور الإيجابية كذلك نصرة الصالحين والمُصلحين، والدعاة والمجاهدين، وقد ضرب الله مثلًا لرجل دعته إيجابيته إلى نصرة المرسلين؛ فقال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21].
وقد رأينا في زماننا من صور الإيجابية تلك مواقفَ الشعوب الحرة، ونشطاء أساطيل الحرية؛ نصرةً لغزة.
معاشر المؤمنين:
إنما تتحقق الإيجابية في شخصية المسلم إذا استحضر دومًا غاية وجوده وحكمة خلقه، وهي عبادة الله تعالى وعمارة الأرض؛ كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وأن يتذكر أن الدنيا دار ابتلاء وعمل؛ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
وتنمو الإيجابية – عباد الله – مع الإحساس بالمسؤولية تجاه الدين والوطن والأمة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأزيحن هذا عن المسلمين؛ لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة»، وتنمو كذلك باستشعار الأجر والثواب من وراء كل عمل صالح؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة، ويُعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويُميط الأذى عن الطريق صدقة»؛ (رواه البخاري).
وتنمو الإيجابية أيضًا بزيادة الإيمان وصدق اليقين بالله تعالى؛ قال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، جعلنا الله وإياكم منهم.
_______________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
- التصنيف: