تقلبات الزمان

منذ 8 ساعات

‏فالعبد المؤمن لا تُربكه الحوادث، ولا تُزلزله التغيّرات، لأنه يعلم أن الله هو المدبّر، وأنّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الفتن إنما تضُر من خلا قلبه من الإيمان، أما من عمّر قلبه باليقين فإنها تزيده ثباتًا وبصيرة.

‏اعلم وفقك الله أنّ اضطراب الأحوال، وتقلب الأيام، وظهور الفتن،  ليس أمرًا حادثًا لم يُعرف، ولا طارئًا لم يُسبق إليه، بل هو سنّة من سنن الله تعالى ماضية في عباده حتى قيام الساعة، يمتحن الله بها القلوب، ويميز بها الصادق من المدّعي، والثابت من المتلوّن.

‏فالدنيا لم تزل تغلي ولا تزال، ولم تخلُ يومًا من صراع بين حق وباطل، ولكن العبرة ليست بشدة الموج، وإنما بثبات السفينة، ولا بثوران الفتن، وإنما بما في القلوب من علمٍ ويقين.

‏وقد عاش من قبلنا أزمنة كان فيها الظلم ظاهرًا، والباطل عاليًا، والحق غريبًا، فظنّ أهل الغفلة أن الأمر قد انتهى، وما دروا أن الله يُمهل ولا يُهمِل، وأن العاقبة للمتقين ولو بعد حين، ولنا في التاريخ عِبر كثيرة وآيات جليلة.

‏فالعبد المؤمن لا تُربكه الحوادث، ولا تُزلزله التغيّرات، لأنه يعلم أن الله هو المدبّر، وأنّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الفتن إنما تضُر من خلا قلبه من الإيمان، أما من عمّر قلبه باليقين فإنها تزيده ثباتًا وبصيرة.

‏وفي أزمنة الاضطراب لا يُطلب من المسلم أن يحمل همّ الكون، ولا أن يُصلح الدنيا كلّها، فلا يكلّف الله نفسا إلا وُسعها، وإنما يُطلب منه أن يُقيم ما أوجبه الله عليه من الواجبات.

‏ومن أعظم ما يُتقرّب به إلى الله في مثل هذه الأزمنة: لزوم الاستغفار، وكثرة التوبة، فالاستغفار حياةٌ للقلوب، وجلاءٌ للذنوب، وبه تُرفع النقم وتُنزل الرحمات، وليس هو خاصًا بأهل المعاصي، بل هو شعار الأنبياء والصالحين عند اشتداد الأمور.

‏أن يحفظ العبد صلاته، ويستمسك بدينه ويثبت عليه، ويلزم الصدق، ولا ينجرف مع الخوف، فإن الخوف لا يردّ قدرًا، ولكن الإيمان هو الذي يورث الطمأنينة.

‏وكذلك غرس الخير بكل ما أوتيَ للعبد من قوة واستطاعة، فإن العاقل لا ينتظر صفاء الزمان ليعمل، بل يعمل في زمن الكدر، وكلما زادت سطوت الباطل زادت الحاجة إلى العمل الدؤوب الذي لا يفتر ولا ينقطع، والله عزّ وجلّ لا يضيع عمل عامل،

‏ولهذا كان من هدي النبي ﷺ قوله: «صلّ صلاة مودّع»،
‏وهذا المعنى ليس خاصًا بالصلاة وحدها،
‏بل هو أصلٌ عظيم يُعمَّم على جميع الأعمال:
‏أن يعمل العبد كل عمل وهو يستحضر أنه قد لا يُتاح له بعده عملٌ آخر،
‏فيُحسن فيه النية، ويُجيد فيه الأداء، ويجتهد فيه اجتهادا عظيما.
‏فكما يُصلّي صلاة المودّع لا لأنه يقطع بأنها الأخيرة،
‏بل لأنه يستحضر أنها قد تكون كذلك،
‏كذلك يعمل، ويقول، ويزرع، ويُحسن، ويستغفر،
‏لا على التسويف، ولا على طول الأمل،
‏بل على المسارعة، والإتقان، وإخلاص القصد لله تبارك وتعالى.

‏وأخيرا اعلم أن النصر ليس بكثرة العدد، ولا بقوة العُدّة، وإنما بثبات القلوب على الحق، وأن الله إذا أحب عبدًا استعمله ويسر له أبواب الخير، وربما جعل من غلامٍ صغير أو عبدٍ ضعيف سببًا في إحياء دين، وخذلان باطل.

‏فاثبت، واطمئن، واشتغل بإصلاح نفسك والعمل لدين الله، فإن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله به ما بينه وبين الناس، وجعل له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل فتنة نورًا، ومن كل اضطراب سكينة.

‏والله تعالى أعلم ..