القول المنكر في دعوى أن أهل السنة والجماعة ثلاثة

منذ 7 ساعات

فقد انبرت في هذا الزمان دعوى منكرة، تسير بين بعض الناس سير السموم في الأجساد، لينهدم بها ما بناه السلف من معالم الهدى، وهي أن أهل السنة والجماعة ثلاثة: السلفية من أهل الحديث، والأشعرية، والماتريدية.


الحمد لله الذي ميَّز أهل الحق بنوره، ورفع لهم أعلام الهدى، وجعل في قلوبهم من الإقبال عليه ما يشرح الصدور، ويجلو الظلمات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يحيى بها القلب كما تحيا الأرض بوابل السماء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث برحمةٍ تهدي الحيارى، وتُبصر العمي، وتحيي القلوب بعد موتها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فقد انبرت في هذا الزمان دعوى منكرة، تسير بين بعض الناس سير السموم في الأجساد، لينهدم بها ما بناه السلف من معالم الهدى، وهي أن أهل السنة والجماعة ثلاثة: السلفية من أهل الحديث، والأشعرية، والماتريدية.

وهذا القول-والله-قولٌ لا يقوم عليه دليل، ولا يسنده كتابٌ ولا سنة، ولا يعرفه السلف، بل هو من جنس الأقوال التي وقع بها الافتراق، وابتُليت بها الأمة.
وإبطاله يُعلم من وجوه:

الوجه الأول: في حقيقة اسم السنة

إن اسم السنة عند أهل المعرفة بالله، ليس لفظًا عاريًا من المعنى، ولا شعارًا يُتَّخذ عند الفتنة، بل هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم في علمه وعمله، واعتقاده وعبادته، وهديه وسيرته.

وللناس فيه إطلاقان:

أحدهما: الإطلاق العام الذي يُقابل به الرافضة، فيدخل فيه من تولّى أصحاب النبي ﷺ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فلفظ السنة يُراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة"؛ [منهاج السنة (١٣٢/٢)].

والثاني: وهو معنى السنة عند أئمة الدين: الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أبواب الاعتقاد، وهي التي ملأ بها الإمام أحمد والسلف كتبهم، يبيّنون بها الحق، ويردّون بها على الجهمية وسائر أهل الزيغ.

فكيف يُسوّى بين من أخذ دينه من مشكاة النبوة، وبين من خالط دينه كلام المتكلمين وتأويل الجهمية؟!

وأيضاً مما يعلم أنهم سُمُّوا أهل السنة: لاتباعهم سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وترك الابتداع.

فعن الإمام الحسن البصري رحمه الله قال:
"السُّنةُ، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي، فاصبروا عليهما رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقلَّ الناس فيما مضى، وهم أقلُّ الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقَوا ربهم، وكذلك إن شاء الله، فكونوا"؛ [إغاثة اللهفان (٧٠/١)].

وعن الإمام الأوزاعي رحمه الله قال:
"اصبر نفسك على السنة، وقفْ حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكُفَّ عمّا كفّوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يَسَعُك ما وَسِعَهم"؛ [رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (١٥٤/١)، والبيهقي في المدخل (٢٢٣)، والآجري في الشريعة (٥٨)].

وسُمّوا الجماعة: لاجتماعهم على الحق وعدم تفرقهم فيه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
"الجماعة ما وافق الحق، ولو كنتَ وحدك"؛ [رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١٢٢/١).

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أهل السنة والجماعة هم سلف الأمة وأئمتها، ومن تبِعهم بإحسان"؛ [مجموع الفتاوى (٢٤١/٢٤)].


الوجه الثاني: مخالفتهم للسلف في أعظم أبواب الإيمان

فإن الأشعرية والماتريدية لم يسيروا في باب الصفات والإيمان على أثر الصحابة، بل سلكوا طريق التأويل والتحريف، وقدّموا المعقولات على المنقولات، فإذا خالفهم النص أقبلوا عليه يعتذرون عنه، أو يصرفونه عن ظاهره.

وأين هذا من هدي السلف الذين قالوا:
"أمِرُّوها كما جاءت، بلا كيف ولا تأويل"؟

وهل يكون من أهل السنة من أبطل علوَّ الرب، أو نفى الصفات الفعلية، أو جعل الكلام معنى قائمًا بالنفس لا يُسمع؟!


الوجه الثالث: أن الجمع بين المختلفين جمعٌ بين النقيضين

ومن رام الجمع بين السلف والأشعرية في باب الإيمان والصفات، فهو كمن أراد جمع النور والظلمة، والحرّ والزمهرير، والحق والباطل.

فالسلف يقولون: الإيمان قول وعمل.
وأولئك يقولون: الإيمان تصديق بلا عمل.
وأين هذا من ذاك؟!

وسنة الله أن الحق واحد لا يتعدد، وأن الباطل ألوان، ومن جمع بينهما فقد جمع بين ضدَّين، وهذا محال في العقل، ممتنع في الشرع.

الوجه الرابع: شهادة الطوائف كلٌّ على صاحبتها

أئمة الأشعرية لا يعدّون أهل الحديث على طريقتهم، بل يطعنون في منهجهم.
وأهل الحديث وأئمة السلف نصّوا أن التأويل والجهمية والمتكلمين ليسوا على السنة، وأن قولهم من أعظم البدع.

فكيف يُجمع بين قوم يشهد بعضهم على بعض بضد ما يدّعيه هذا القائل؟!


الوجه الخامس: أن هذا القول مساواة بين الحق ونقيضه

وتسوية الحق بالباطل ظلمٌ للنفس، وعدوان على الحق، وكسفٌ لنور الهداية.
فإن الحق لا يشبهه شيء، ولا يقبل الشركة، ولا يتفرق في قلوب المتناقضين.

ومن سوّى بين طريقة السلف وطريقة المتكلمين فقد سوّى بين الهدى والعمى، والسبيل المستقيم والسبل المتفرقة.

الوجه السادس: أنه يزيد الأمة فرقة

فالناس في هذا الباب طرفان ووسط:
طرف تمسّك بالسنة على ما جاءت، وطرف خالفها بكلام المتكلمين، وبينهما من يريد الجمع بين الطريقين، فلا يزداد إلا اضطرابًا وفرقةً وشتاتًا، فتتولد من ذلك طائفة جديدة لا يُدرى ما مذهبها.


الوجه السابع: أنه مخالفٌ لإجماع السلف

فالسلف أطبقوا على إنكار أصول الكلام، وعدّوها من أعظم الضلال، وعابوا أهله، وتبرؤوا من طريقتهم.
ولمّا دخل الناس في الكلام، تفرقت قلوبهم، وكثرت أهواؤهم، ووقع الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من افتراق الأمة.

فكيف يُلحق هؤلاء بالسنة والسلف إن لم يكن ذلك طمسًا لآثارهم، ونقضًا لبنيانهم؟!


الوجه الثامن:
أن هذا القول فيه عدوان ظاهر على عقيدة أهل الحق، وجناية على ما أجمعوا عليه من أصول الهدى، إذ يجعل ما تلقّوه عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما توارثته القرون المفضّلة، في ميزان واحد مع عقائد مبتدعة ورثها أهلها عن الجهم بن صفوان وأضرابه.

فأيّ تعدٍّ أعظم من أن تُسوّى العقائد التي بناها سلف الأمة على الوحي، بأقوال أُسِّست على التعطيل والجحد؟!
وكيف يُجعل نور النبوة مساويًا لظلمات الآراء المحدثة؟!

بل إن في هذا القول استخفافًا بالميراث النبوي، وتنقيصًا لما عليه أهل السنة من الهدى واليقين، إذ هو – في الحقيقة – تهوين لقدر الحقّ الذي تلقّته الأمة بالقبول، وتعظيم لما أحدثه الجهم وأتباعه من مقالات أوجبت الفتنة والفرقة، وصادمت صريح المعقول وصحيح المنقول.

وهذا – لو عقل قائله – من أعظم الباطل؛ فإن مساواة الحق بالباطل، والهدى بالضلال، إنما تنبت من قلب لم يعرف قدر الوحي، ولا ذاق طعم التسليم، ولا أبصر الفرقان الذي يميز الله به بين أوليائه وأعدائه، وبين سبيل أهل السنة وسبيل أهل الأهواء.

الوجه العاشر:
أن هذا القول ـ وإن وجد فيه بعض المتبوعين راحةً تُسَكِّن عنهم لومة اللائم، وتدفع عنهم تبعة الانتصار للحق ـ فهو في حقيقته هوىً محض، لا يقوم على برهان، ولا يعضده نقل ولا عقل، بل يخالف صريح الحق، وينافي موجب العدل، ويفتقر إلى صدقٍ يزكّي القول ويقيمه.

وكيف يُستَروح إلى قولٍ لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا درج عليه المؤمنون من السلف الصالح، الذين جعلوا الحق إمامًا، والعدل قائدًا، والصدق رائدًا؟!
بل السلف ـ رحمهم الله ـ كانوا أبعد الناس عن متابعة الأهواء، ولو خالفت رضا الخلق أجمعين، وكانوا يرون أن الراحة الحقيقية في موافقة الوحي، لا في استرضاء المتبوعين وإيثار السلامة على حساب الدين.

فهذا القول وإن ظهر في صورة اللين، وتزيّن بثوب الحكمة، فباطنه خلاف ذلك؛ إذ هو مما تهشّ له نفوسٌ اعتادت تقديم رأي الرجال على نصوص الوحي، ولو كان في ذلك ما يسخط الرب ويباعد عن سبيل المؤمنين.

الخاتمة:

فالواجب على من أراد الله به خيرًا أن يلزم طريق السلف، ويترك أقوال المحدثين، فإن طريقهم نورٌ على نور، من سار فيها وصل، ومن أعرض عنها تاه في ظلماتٍ بعضها فوق بعض.

وأما القول بأن أهل السنة ثلاثة فبما سبق يتبين أنه قول مبتدع محدث، لا يعرفه أحد من أئمة الدين من أهل التحقيق، ولا يدل عليه كتاب، ولا سنة، ولا آثار الصحابة، ولا هدي الأئمة المهتدين.

ونسأل الله الثبات على السنة، وصيانة القلوب عن الزيغ، والهداية إلى صراطه المستقيم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يزن الغانم.