بين المدح والتملق

منذ 5 ساعات

وعاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً، فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسّد وغلامه مفلح في منطقة النعمانية غرب بغداد.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

** قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال أبو الطيب المتنبي يمتدح سَيفَ الدَّولة الحَمْداني:

يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرُهُ

لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ

 ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله".

- ومدحه أيضا بقوله:

شَخِصَ الأَنامُ إلى كَمَالِكَ فَاسْتَعِذْ ... مِنْ شَرِّ أَعْيُنِهِمْ بعَيْبٍ وَاحِد

أي: نظروا إليك معجبين بما فيك من كمال، فاعمل عملاً سيئاً واحداً يصد عنك شر أعينهم.

- وقال في مدحه:

فَلا تُبْلِغَاهُ ما أقُولُ فإنّهُ.. شُجاعٌ متى يُذكَرْ لهُ الطّعنُ يَشْتَقِ

فهو لم يقصد من التماسه من صاحبيه أن يكتما عن سيف الدولة ما سمعاه من صفات أعماله، وطعان فرسانه، رفقا به وحذرا أن يدفعه الشوق إلى التطويح بنفسه في المخاطر

- والاستتباع فن جميل يتقصى الشيء الذي تتصدى للكتابة عنها باستقصاء الأوصاف المحيطة به والملائمة له، فلا يكاد المتكلم يذكر معنى من المعاني أو يتناول غرضا من الأغراض حتى يستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصفه.

فقد ذكر تعالى الجنة جزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات فوصفها بأن الأنهار تجري خلالها من تحتهم ثم ذكر الأساور حلية لهم ونكرها لإبهام أمرها في الحسن وجمع بين السندس والإستبرق وهما ما رقّ وغلظ من ألبسة الحرير على عادة المترفين الذين يعدون ثيابا للصيف تصلح له وللشتاء لباسا أخرى تلائم حالات البرد الشديد وخص الاتكاء بالذكر لأنه هيئة المنعّمين المترفين المسترخين على المقاعد والسرر في الابهاء الممتعة والقصور المنيفة فسبحان قائل هذا الكلام

ومن الاستتباع في شعر المتنبي وهو يمدح سيف الدولة الحمداني

نَهَبْت مِنْ الْأَعْمَارِ مَا لَوْ حَوَيْته.. لَهَنِئَتْ الدُّنْيَا بِأَنَّك خَالِدٌ

فقد استتبع مدحه بالشجاعة مدحه بأنه سبب لصلاح الدنيا حيث جعلها مهنأة بخلوده لأنه سبب عمرانها.

- ومثله قوله أيضا:

إلى كَمْ تَرُدُّ الرُّسْلَ عَمّا أتَوْا لَهُ.. كأنّهُمُ فيما وَهَبْتَ مَلامُ

فقد مدح سيف الدولة بالشجاعة أيضا واستتبع في باقي البيت مدحه بالكرم لعصيان الملام في الهبات، والمعنى أنك تردهم عما يطلبون من الهدنة ردك لوم اللائمين لك في العطاء، أي كما أنك لا تصغي إلى ملامة لائم في سخائك فكذلك لا تقبل الهدنة وقد وردت عليه رسل الروم يطلبون الهدنة وهذا من أروع ما تبتكره الأذهان.

- وقال في رثاء أخت سيف الدولة ابن حمدان واسمها «خَولة».

كأنّ فَعْلَةَ لم تَمْلأ مَوَاكِبُهَا.. دِيَارَ بَكْرٍ وَلم تَخْلَعْ ولم تَهَبِ

وذلك أن المتنبي لم يصرح باسمها استعظاما لكونها ملكه بل كنى عن اسمها بـ «فَعلة» فلفظ «فَعلة» حكمها حكم موزونها «خَولة».

- ومن شعره:

قد شَرّفَ الله أرْضاً أنْتَ ساكِنُها.. وشَرّفَ النّاسَ إذْ سَوّاكَ إنْسانَا

- ومن أبياته الشهيرة:

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ.. وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها.. وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ

 

ولقد كانت هذه فترة الانهيار الحضاري التي قام المتنبي في وجهها صارخاً مستصرخاً باحثاً عن الفتى الذي يستطيع أن يحقق معه رسالته، فكان (سيف الدولة) [على ما فيه] أقرب ما يكون إلى الصورة المثال التي كان يحلم بها الشاعر، فلذلك ربط مصيره بمصيره.

فمن «تغلب» - إحدى قبائل العرب الكبرى - انبثقت دولة بني حَمْدان، جاعلة من الموصل -أول الأمر- عاصمة لها.. وكان ذلك سنة 317هـ (929م) على يد زعيم الدولة حمدان بن حمدون.

أما سَيفُ الدَّولة الحَمْداني (356-303 هـ)، فهو أبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أبي الهَيْجاءِ بنِ حَمْدانَ الحَمْدانِيُّ، ويُعرَف باللقب الأكثر شيوعًا سَيْف الدَّولة أي (سَيفُ الدَّولةِ العَبَّاسِيَّة)، ومؤسِّس إمارة حلب، التي تضمُّ معظم شماليِّ سورية وأجزاءً من غربيِّ الجزيرة، وأخٌ للحسن بن عبد الله (المعروف بناصر الدولة الحَمْداني). وكان من أكثر الأعضاء بروزًا في الدولة الحَمْدانية.

خدم سيف الدولة تحت ولاية أخيه الأكبر، في محاولات من أخيه للسيطرة على الدولة العبَّاسية الضعيفة في بغداد.

بعد إخفاق هذه المحاولات، تحوَّل طموح سيف الدولة تجاه سورية، حيث واجه طمع الإخشيد من مصر للسيطرة على المحافظة، بعد نشوء حربين معهم.

كانت حلب مركز سلطته على شمال سورية، وقد اعترف الإخشيد والخليفة بسُلطته.

وأصبحت دولة سيف الدولة في حلب مركزَ الثقافة والحيوية، وجمعَ من حوله الأدباء ومنهم أبو الطيِّب المتنبِّي الذي ساعد على ذيوع شُهرته وبقائها للأجيال القادمة.

كان الحَمْداني راعيًا للعلماء والآداب والفنون، وتزاحَم على باب عاصمته في حلب الشُّعراء والعُلماء والأدباء والمفكرون، ففتح لهم بَلاطه وخزائنه، حتى كانت له عُملة خاصَّة يسكُّها للشعراء من مادحيه، وفيهم المتنبي وابن خالويه النَّحْوي المشهور، وأبو نصر الفارابي الفيلسوف الشهير، كما اعتنى بابن عمِّه وأخي زوجته أبي فراس الحَمْداني شاعر حلب. وهو نفسه شاعر، وله أبيات جيدة.

احتفل بسيف الدولة على نطاق واسع لدوره في الحروب الإسلامية البيزنطية، مواجهًا الإمبراطورية البيزنطية في أوج قوَّتها التي استطاعت في بدايات القرن العاشر السيطرة على بعض الأراضي الإسلامية، وفي أثناء مصارعة عدوٍّ متفوِّق جدًّا، شنَّ سيف الدولة غارات في عُمق الأراضي البيزنطية متمكِّنًا من فتح بعض المناطق، واستمرَّ ذلك حتى عام  955م.

ثم قاد القائد الجديد للقوَّات البيزنطية نقفور الثاني هجومًا قصَم قوَّات الحَمْداني، واستولى البيزنطيون على قيليقية، كما احتلُّوا حلب نفسَها مدَّة وَجيزة في 962م، واتسمت السنوات الأخيرة لسيف الحمداني بالهزائم العسكرية، لعجزه الناتج عن مرضه من بداية معاناته مع الشلل النصفي إضافة إلى تفاقم الاضطرابات المعوية والبولية مما جعله حبيس الفضلات، هذا مع ضعف سُلطته التي أدَّت إلى ثورة أقرب مساعديه، حتى مات في بدايات عام  967م، وقد سقطت أنطاكية والساحل السوري وأصبحت من الإمبراطورية البيزنطية عام  969م.

لقد حدَّ المرض من قدرة سيف الدولة على تدخله شخصياً في أمور وعلاقات ولايته، حيث انصرف عن حلب وجعلها مسؤولية حاجبه (قرغويه) كما قضى معظم سنواته الأخيرة في ميافارقين تاركاً عبء القتال مع البيزنطيين لأكبر غلمانه.

ولقد بدا سيف الدولة الحمداني وكأنه الرجل الوحيد الممثل لهذه الدولة.

وكان سيف الدولة بحق يملك أكبر رصيد من أمجاد الدولة.. ولم يرفعه في سجل التاريخ ما قام به من حروب خارجية وحسب، بل كانت له في مجال الحضارة والعمران الداخلي مجالات برز فيها أكثر من بروزه في المجالات الخارجية. وظهرت الدولة بعده وكأنها بناء مائل للسقوط .

لقد تمثلت قوة الدولة الحَمْدانية في شخص سيف الدولة، وقد تولى الحكم بعد وفاة سيف الدولة ثلاثة خلفاء ضعاف حتى زالت في عهد أبي المعالي شريف سنة 394هـ.. أي أنها لم تعش بعد سيف الدولة الذي مات سنة 356هـ أكثر من أربعين سنة !!.

وكعادة الدول التي ترتبط بأشخاص تسقط بسقوطهم.. وكان أكبر عامل حضاري زحزح الدولة الحمدانية عن مكانتها في التاريخ أنها فشلت في الاستجابة للتحدي الذي كان أقوى منها، ولم تنهج النهج السليم في مقاومته.. عن طريق إيجاد وحدة إسلامية تتجاوز الصراعات الجزئية لتواجه الخطر الحضاري الكبير.. وعندما تفشل دولة في الاستجابة للتحدي الذي يفرضه القدر عليها.. فإنها، وإن قاومت قليلا، فإنها لا بد أن تسقط من قطار التاريخ.

 

أما المتنبي هو أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب.

الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة.

ولد بالكوفة في محلة تسمى كندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس.

قال الشعر صبياً، وتنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه.

وفد على سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه.

قصد العراق وفارس، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز.

وعاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً، فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسّد وغلامه مفلح في منطقة النعمانية غرب بغداد.

وفي المواجهة الأخيرة، حاول المتنبي الفرار عندما قال له غلامه ألست القائل:

الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني.. وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

فقال المتنبي: "قتلتني قتلك الله". فعاد للقتال حتى قُتل هو وابنه وغلامه.

وفاتك هذا هو خال ضبّة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة وأهانه فيها، وهي من سقطات المتنبي.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 


 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز