الاقتصاد في الأعمال
منذ 2006-12-01
السؤال: سُــئل: عن حل هذه الشبهة التي دخل على العباد بسببها ضرر بين، وهي أن
بعضهم سمع قوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن، فصار مع هذه المجاهدة
يتلقن كل يوم ويكرر، ثم حدثت عنده مع ذلك همة إلى طلب المقصود، وقيام
أكثر الليل، وكثرة الاجتهاد، والدأب في العبادة، فاجتمع عليه ثقل يبس
الصيام، مع ضعف القوة في السبب، مع يبس التكرار وكثرته، مع اليبس
الحادث من الهمة الحادة، وهو شاب عنده حرارة الشبوبية، فأثر مجموع ذلك
خللاً في ذهنه، من ذهول، وصداع يلحقه في رأسه، وبلادة في فهمه، بحيث
إنه لا يحيط بمعنى الكلام إذا سمعه، وظهر أثر اليبس في عينيه حتى
كادتا أن تغورا. وقد وجد في هذا الاجتهاد شيئا من الأنوار، وهو لا
يترك هذا الصيام لعقده الذي عقده مع الله تعالى، لخوفه أن يذهب النور
الذي عنده، فإذا نهاه أحد من أهل المعرفة يتعلل، ويقول: أنا أريد أن
أقتل نفسي في الله، فهل صومه هذا يوافق رضا الله تعالى وهو بهذه
الصفة؟ أم هو مكروه لا يرضى الله به؟ وهل يباح له هذا العقد وعليه
فيه كفارة يمين أم لا؟ وهل اشتغاله بما فيه صلاح جسمه، وصيانة
دماغه، وعقله، وذهنه، ليتوفر على حفظ فرائضه، ومصلحة عياله الذي يرضى
الله منه، ويريده منه أم لا؟ وهل إصراره على ذلك موجب لمقت الله
تعالى حيث يلقى نفسه إلى التهلكة بشيء لم يجب عليه؟ وإن كان مشروعا
في السنة، فهل هو مشروع مطلقا لكل أحد؟ أم هو مخصوص بمن لا يتضرر
به؟ يسأل كشف هذه المسألة وحلها فقد أعيا هذا الشخص الأطباء، وأحزن
العقلاء لدخوله في السلوك بالجهل، غافلاً عن مراد ربه، ونسأل تقييد
الجواب، وإعضاده بالكتاب والسنة، ليصل إلى قلبه ذلك، آجركم الله تعالى
ومتع المسلمين بطول بقاكم، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم، ورضي الله
عن أصحابه أجمعين.
فعقد مع الله أن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فعل ذلك
سنة أو أكثر، وهو متأهل له عيال، وهو ذو سبب يحتاج إلى نفسه في حفظ
صحته، فحدثت عنده بعد ذلك همة في
الإجابة: الحمد لله، جواب هذه المسألة مبني على أصلين:
أحدهما: موجب الشرع.
والثاني: مقتضى العهد، والنذر.
أما الأول: فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصاد في العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال وكلاهما في الصحيح.
وقال أبي بن كعب: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة.
فمتى كانت العبادة توجب له ضررا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها، كانت محرمة، مثل أن يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم.
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم، والنساء، وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح، ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم، والعدوان.
وفي الصحيحين عن أنس: أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال .
وفي الصحاح من غير وجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه كان قد جعل يصوم النهار، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن في كل ثلاث، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال أي: غارت العين وملت النفس، وسئمت وقال له .
فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن عليك أمورًا واجبة من حق النفس، والأهل، والزائرين، فليس لك أن تفعل ما يشغلك عن أداء هذه الحقوق الواجبة، بل آت كل ذي حقه حقه. ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقال وأمره أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، ولم يزل يزايده، حتى قال " .
وكان عبد الله بن عمرو لما كبر يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ربما عجز عن صوم يوم، وفطر يوم، فكان يفطر أيامًا، ثم يسرد الصيام أيامًا بقدرها، لئلا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم على حال ثم ينتقل عنها؛ وهذا لأن بدنه كان يتحمل ذلك، وإلا فمن الناس من إذا صام يوما، وأفطر يوما، شغله عما هو أفضل من ذلك، فلا يكون الصوم أفضل في حقه.
وكـان النبي صلى الله عليه وسلم هكـذا،فإنـه كان أفضل مـن صـوم داود، ومع هـذا، فقـد ثبت عنـه في الصحيح أنه سئل عمن يصوم الدهر فقال ، وسئل عمن يصوم يومين، ويفطر يوما، فقال ،، وسئل عمن يصوم يومـا، ويفطر يومين، فقال" ، وسـئل عمن يصـوم يومـا ويفطر يوما،فقال" ،فأخبر أنه ود أن يطيق صوم ثلث الدهر؛لأنه كان له من الأعمال التي هي أوجب عليه، وأحب إلى الله ما لا يطيق معه صوم ثلث الدهر.
وكذلك ثبت عنه في الصحيح: أنه لما قرب من العدو في غزوة الفتح في رمضان، أمر أصحابه بالفطر، فبلغه أن قوما صاموا فقال وصلى على ظهر دابته مرة، وأمر من معه أن يصلوا على ظهور دوابهم، فوثب رجل عن ظهر دابته فصلى على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمت حتى ارتد عن الإسلام وقال ابن مسعود: إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلىَّ. وهذا باب واسع قد بسط في غير هذا الموضع.
وأما الأصل الثاني: وهـو أنـه إذا عاهـد الله على ذلك ونذره، فالأصل فيه ما أخرجـا في الصحيحين عـن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فـإذا كـان المنذور الذي عاهد الله يتضمن ضررا غير مـباح، يفضي إلى ترك واجب، أو فعـل محرم؛ كان هذا معصية لا يجب الوفاء به، بل لو نذر عبادة مكروهة مثل قيام الليل كله، وصيام النهار كله، لم يجب الوفاء بهذا النذر.
ثم تنازع العلماء: هل عليه كفارة يمين؟ على قولين: أظهرهما: أن عليه كفارة يمين؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال وقـال وفي السنن عنه ، وقد ذكرنا سبب نزول الآية.
ومثل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس ، فلما نذر عبادة غير مشروعة من الصمت والقيام والتضحية أمره بفعل المشروع وهو الصوم في حقه، ونهاه عن فعل غير المشروع.
وأما إذا عجز عن فعل المنذور، أو كان عليه فيه مشقة، فهنا يكفر، ويأتي ببدل عن المنذور، كما في حديث عقبة بن عامر: أن أخته لما نذرت أن تحج ماشية، قال النبي صلى الله عليه وسلم وروي: (ولتصم).
فهذا الرجـل الذي عقـد مـع الله تعالى صـوم نصف الدهر، وقد أضر ذلك بعقلـه، وبدنـه عليـه أن يفطـر ويتناول مـا يصلـح عقلـه وبدنـه، ويكفر كفـارة يمين، ويكـون فطره قـدر ما يصلح به عقله وبدنه،على حسب ما يحتمله حاله إما أن يفطر ثلثي الدهـر، أو ثلاثـة أرباعـه، أو جميعـه، فإذا أصلح حالـه، فإن أمكـنه العـود إلى صوم يـوم، وفطر يوم بلا مضرة، وإلا صام ما ينفعه من الصوم، ولا يشغله عما هو أحب إلى الله منـه، فـالله لا يحب أن يترك الأحب إليـه بفعـل مـا هـو دونـه، فكيـف يوجـب ذلك؟!
وأمـا النـور الذي وجـده بهـذا الصوم، فمعلـوم أن جنس العبادات ليس شرًا محضًـا، بل العبادات المنهي عنها تشتمل على منفعة ومضرة، ولكـن لما ترجح ضررها على نفعها نهى عنها الشارع، كما نهى عن صـيام الدهر، وقيـام الليل كله دائما، وعن الصـلاة بعـد الصبح، وبعد العصر، مع أن خلقا يجدون في المواصلة الدائمة نورا بسبب كثرة الجـوع، وذلك مـن جنس مـا يجـده الكفار مـن أهـل الكتاب والأميين، مثل الرهبان، وعباد القبـور، لكن يعـود ذلك الجوع المفرط الزائد على الحد المشروع يوجب لهم ضررا في الدنيا والآخـرة، فيكـون إثمـه أكثر مـن نفعـه، كما قـد رأينا مـن هـؤلاء خلـقا كثيرا آل بهم الإفراط فيما يعانونه من شدائد الأعمال إلى التفريط والتثبيط، والملل والبطالة، وربما انقطعوا عن الله بالكلية، أو بالأعمال المرجوحة عن الراجحة، أو بذهاب العقل بالكلية، أو بحصول خلل فيه؛ وذلك لأن أصل أعمالهم وأساسها على غير استقامة ومتابعة.
وأما قوله: أريد أن أقتل نفسي في اللّه. فهذا كلام مجمل، فإنه إذا فعل ما أمره اللّه به، فأفضى ذلك إلى قتل نفسه، فهذا محسن في ذلك، كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين، وقد اعتقد أنه يُقتل، فهذا حسن. وفي مثله أنزل اللّه قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى الخَلاَّلُ بإسناده عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً حمل على العدو وحده، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا، ولكنه ممن قال اللّه فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} وأما إذا فعل ما لم يؤمر به، حتى أهلك نفسه، فهذا ظالم متعدٍ بذلك، مثل أن يغتسل من الجنابة في البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه أنه يقتله، أو يصوم في رمضان صوماً يفضي إلى هلاكه، فهذا لا يجوز، فكيف في غير رمضان ؟!
وقد روى أبو داود في سننه، في قصة الرجل الذي أصابته جراحة، فاستفتى من كان معه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة، فاغتسل، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك روى حديث عمرو بن العاص، لما أصابته الجنابة في غزوة ذات السلاسل، وكانت ليلة باردة فتيمم، وصلى بأصحابه بالتيمم، ولما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] فهذا عمرو قد ذكر أن العبادة المفضية إلى قتل النفس بلا مصلحة مأمور بها، هي من قتل النفس المنهي عنه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقتل الإنسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والإجماع، كما ثبت عنه في الصحاح أنه قال ، وفي الحديث الآخر ،، وحديث القاتل الذي قتل نفسه لما اشتدت عليه الجراح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه من أهل النار، لعلمه بسوء خاتمته، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يصلى على من قتل نفسه؛ ولهذا قال سمرة بن جندب عن ابنه لما أخبر أنه بُشِمَ، فقال: لو مات لم أصل عليه.
فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهي اللّه عنه من قصد الإنسان قتل نفسه، أو تسببه في ذلك، وبين ما شرعه اللّه من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} [البقرة: 207] أي: يبيع نفسه.
والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة، لا بما يستحسنه المرء أو يجده، أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة، بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز: من عَبَدَ اللّه بجهل، أفسد أكثر مما يصلح.
ومما ينبغي أن يعرف: أن اللّه ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس، وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته،وعلى قدر طاعة أمر اللّه ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع، كان أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل.
ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي: أنه أمرها بالهدى، وروي: بالصوم وكذا حديث جويرية في تسبيحها بالحصى، أو النوى، وقد دخل عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال وقوله لها .
وأصل ذلك: أن يعلم العبد أن اللّه لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا؛ولهذا يثنى اللّه على العمل الصالح، ويأمر بالصلاح والإصلاح،وينهي عن الفساد.
فاللّه سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة، كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة، ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع وأما إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته، فهذا فساد، واللّه لا يحب الفساد.
ومثال ذلك منافع الدنيا، فإن من تحمل مشقة لربح كثير، أو دفع عدو عظيم، كان هذا محموداً، وأما من تحمل كلفاً عظيمة، ومشاقاً شديدة، لتحصيل يسير من المال، أو دفع يسير من الضرر، كان بمنزلة من أعطى ألف درهم، ليعتاض بمائة درهم أو مشى مسيرة يوم، ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في بلده.
فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل، والاقتصاد، والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها كالفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، فمن كان كذلك، فمصيره إليه إن شاء اللّه تعالى.
هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها، مثل الجوع، والسهر، والمشي.
وأما ما يقصد لنفسه مثل معرفة اللّه، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، فهذه يشرع فيها الكمال، لكن يقع فيها سرف، وعدوان، بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل، أو يدخل استحلال المحرمات، وترك المشروعات في المحبة، فهذا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس والعشرون (الفقه - باب الصيام)
أحدهما: موجب الشرع.
والثاني: مقتضى العهد، والنذر.
أما الأول: فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصاد في العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال وكلاهما في الصحيح.
وقال أبي بن كعب: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة.
فمتى كانت العبادة توجب له ضررا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها، كانت محرمة، مثل أن يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم.
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم، والنساء، وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح، ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم، والعدوان.
وفي الصحيحين عن أنس: أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال .
وفي الصحاح من غير وجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه كان قد جعل يصوم النهار، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن في كل ثلاث، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال أي: غارت العين وملت النفس، وسئمت وقال له .
فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن عليك أمورًا واجبة من حق النفس، والأهل، والزائرين، فليس لك أن تفعل ما يشغلك عن أداء هذه الحقوق الواجبة، بل آت كل ذي حقه حقه. ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقال وأمره أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، ولم يزل يزايده، حتى قال " .
وكان عبد الله بن عمرو لما كبر يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ربما عجز عن صوم يوم، وفطر يوم، فكان يفطر أيامًا، ثم يسرد الصيام أيامًا بقدرها، لئلا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم على حال ثم ينتقل عنها؛ وهذا لأن بدنه كان يتحمل ذلك، وإلا فمن الناس من إذا صام يوما، وأفطر يوما، شغله عما هو أفضل من ذلك، فلا يكون الصوم أفضل في حقه.
وكـان النبي صلى الله عليه وسلم هكـذا،فإنـه كان أفضل مـن صـوم داود، ومع هـذا، فقـد ثبت عنـه في الصحيح أنه سئل عمن يصوم الدهر فقال ، وسئل عمن يصوم يومين، ويفطر يوما، فقال ،، وسئل عمن يصوم يومـا، ويفطر يومين، فقال" ، وسـئل عمن يصـوم يومـا ويفطر يوما،فقال" ،فأخبر أنه ود أن يطيق صوم ثلث الدهر؛لأنه كان له من الأعمال التي هي أوجب عليه، وأحب إلى الله ما لا يطيق معه صوم ثلث الدهر.
وكذلك ثبت عنه في الصحيح: أنه لما قرب من العدو في غزوة الفتح في رمضان، أمر أصحابه بالفطر، فبلغه أن قوما صاموا فقال وصلى على ظهر دابته مرة، وأمر من معه أن يصلوا على ظهور دوابهم، فوثب رجل عن ظهر دابته فصلى على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمت حتى ارتد عن الإسلام وقال ابن مسعود: إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلىَّ. وهذا باب واسع قد بسط في غير هذا الموضع.
وأما الأصل الثاني: وهـو أنـه إذا عاهـد الله على ذلك ونذره، فالأصل فيه ما أخرجـا في الصحيحين عـن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فـإذا كـان المنذور الذي عاهد الله يتضمن ضررا غير مـباح، يفضي إلى ترك واجب، أو فعـل محرم؛ كان هذا معصية لا يجب الوفاء به، بل لو نذر عبادة مكروهة مثل قيام الليل كله، وصيام النهار كله، لم يجب الوفاء بهذا النذر.
ثم تنازع العلماء: هل عليه كفارة يمين؟ على قولين: أظهرهما: أن عليه كفارة يمين؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال وقـال وفي السنن عنه ، وقد ذكرنا سبب نزول الآية.
ومثل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس ، فلما نذر عبادة غير مشروعة من الصمت والقيام والتضحية أمره بفعل المشروع وهو الصوم في حقه، ونهاه عن فعل غير المشروع.
وأما إذا عجز عن فعل المنذور، أو كان عليه فيه مشقة، فهنا يكفر، ويأتي ببدل عن المنذور، كما في حديث عقبة بن عامر: أن أخته لما نذرت أن تحج ماشية، قال النبي صلى الله عليه وسلم وروي: (ولتصم).
فهذا الرجـل الذي عقـد مـع الله تعالى صـوم نصف الدهر، وقد أضر ذلك بعقلـه، وبدنـه عليـه أن يفطـر ويتناول مـا يصلـح عقلـه وبدنـه، ويكفر كفـارة يمين، ويكـون فطره قـدر ما يصلح به عقله وبدنه،على حسب ما يحتمله حاله إما أن يفطر ثلثي الدهـر، أو ثلاثـة أرباعـه، أو جميعـه، فإذا أصلح حالـه، فإن أمكـنه العـود إلى صوم يـوم، وفطر يوم بلا مضرة، وإلا صام ما ينفعه من الصوم، ولا يشغله عما هو أحب إلى الله منـه، فـالله لا يحب أن يترك الأحب إليـه بفعـل مـا هـو دونـه، فكيـف يوجـب ذلك؟!
وأمـا النـور الذي وجـده بهـذا الصوم، فمعلـوم أن جنس العبادات ليس شرًا محضًـا، بل العبادات المنهي عنها تشتمل على منفعة ومضرة، ولكـن لما ترجح ضررها على نفعها نهى عنها الشارع، كما نهى عن صـيام الدهر، وقيـام الليل كله دائما، وعن الصـلاة بعـد الصبح، وبعد العصر، مع أن خلقا يجدون في المواصلة الدائمة نورا بسبب كثرة الجـوع، وذلك مـن جنس مـا يجـده الكفار مـن أهـل الكتاب والأميين، مثل الرهبان، وعباد القبـور، لكن يعـود ذلك الجوع المفرط الزائد على الحد المشروع يوجب لهم ضررا في الدنيا والآخـرة، فيكـون إثمـه أكثر مـن نفعـه، كما قـد رأينا مـن هـؤلاء خلـقا كثيرا آل بهم الإفراط فيما يعانونه من شدائد الأعمال إلى التفريط والتثبيط، والملل والبطالة، وربما انقطعوا عن الله بالكلية، أو بالأعمال المرجوحة عن الراجحة، أو بذهاب العقل بالكلية، أو بحصول خلل فيه؛ وذلك لأن أصل أعمالهم وأساسها على غير استقامة ومتابعة.
وأما قوله: أريد أن أقتل نفسي في اللّه. فهذا كلام مجمل، فإنه إذا فعل ما أمره اللّه به، فأفضى ذلك إلى قتل نفسه، فهذا محسن في ذلك، كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين، وقد اعتقد أنه يُقتل، فهذا حسن. وفي مثله أنزل اللّه قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى الخَلاَّلُ بإسناده عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً حمل على العدو وحده، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا، ولكنه ممن قال اللّه فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} وأما إذا فعل ما لم يؤمر به، حتى أهلك نفسه، فهذا ظالم متعدٍ بذلك، مثل أن يغتسل من الجنابة في البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه أنه يقتله، أو يصوم في رمضان صوماً يفضي إلى هلاكه، فهذا لا يجوز، فكيف في غير رمضان ؟!
وقد روى أبو داود في سننه، في قصة الرجل الذي أصابته جراحة، فاستفتى من كان معه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة، فاغتسل، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك روى حديث عمرو بن العاص، لما أصابته الجنابة في غزوة ذات السلاسل، وكانت ليلة باردة فتيمم، وصلى بأصحابه بالتيمم، ولما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] فهذا عمرو قد ذكر أن العبادة المفضية إلى قتل النفس بلا مصلحة مأمور بها، هي من قتل النفس المنهي عنه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقتل الإنسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والإجماع، كما ثبت عنه في الصحاح أنه قال ، وفي الحديث الآخر ،، وحديث القاتل الذي قتل نفسه لما اشتدت عليه الجراح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه من أهل النار، لعلمه بسوء خاتمته، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يصلى على من قتل نفسه؛ ولهذا قال سمرة بن جندب عن ابنه لما أخبر أنه بُشِمَ، فقال: لو مات لم أصل عليه.
فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهي اللّه عنه من قصد الإنسان قتل نفسه، أو تسببه في ذلك، وبين ما شرعه اللّه من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} [البقرة: 207] أي: يبيع نفسه.
والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة، لا بما يستحسنه المرء أو يجده، أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة، بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز: من عَبَدَ اللّه بجهل، أفسد أكثر مما يصلح.
ومما ينبغي أن يعرف: أن اللّه ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس، وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته،وعلى قدر طاعة أمر اللّه ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع، كان أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل.
ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي: أنه أمرها بالهدى، وروي: بالصوم وكذا حديث جويرية في تسبيحها بالحصى، أو النوى، وقد دخل عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال وقوله لها .
وأصل ذلك: أن يعلم العبد أن اللّه لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا؛ولهذا يثنى اللّه على العمل الصالح، ويأمر بالصلاح والإصلاح،وينهي عن الفساد.
فاللّه سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة، كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة، ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع وأما إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته، فهذا فساد، واللّه لا يحب الفساد.
ومثال ذلك منافع الدنيا، فإن من تحمل مشقة لربح كثير، أو دفع عدو عظيم، كان هذا محموداً، وأما من تحمل كلفاً عظيمة، ومشاقاً شديدة، لتحصيل يسير من المال، أو دفع يسير من الضرر، كان بمنزلة من أعطى ألف درهم، ليعتاض بمائة درهم أو مشى مسيرة يوم، ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في بلده.
فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل، والاقتصاد، والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها كالفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، فمن كان كذلك، فمصيره إليه إن شاء اللّه تعالى.
هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها، مثل الجوع، والسهر، والمشي.
وأما ما يقصد لنفسه مثل معرفة اللّه، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، فهذه يشرع فيها الكمال، لكن يقع فيها سرف، وعدوان، بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل، أو يدخل استحلال المحرمات، وترك المشروعات في المحبة، فهذا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس والعشرون (الفقه - باب الصيام)
- التصنيف: