ما هو التحقيق إجمالاً في مسألة العذر بالجهل؟

منذ 2007-01-04
السؤال: ما هو التحقيق إجمالاً في مسألة العذر بالجهل؟
الإجابة: إن ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العلم متفاوت في الدرجة، فمنه ما لا يُسلم الإنسان إلا بمعرفته كأركان الإيمان وأركان الإسلام إجمالاً فهذه لا يمكن أن يُتصور أن إنساناً مؤمناً وهو لا يعرف أن الصلاة واجبة أو لا يعرف وجوب صيام رمضان أو لا يعرف وجوب الحج، وكذلك الأركان السلبية أي النفسية كحرمة الزنا وحرمة شرب الخمر وحرمة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فهذه لا يمكن أن يتصور أن مسلماً يجهلها، فهذا النوع لا يُعذر فيه بالجهل إلا في بداية إسلام الشخص، عندما يدخل الإنسان في الإسلام في بداية أمره يعذر بجهل كل شيء، ولذلك فإن الشاب الذي عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام سأله أن يستثني له الزنا، وكذلك الأعشى فإنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه وقال في قصيدته
رسول الإله حين أوصى وأشهدا *** أجدك لم تسمع وصاة محمد
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا *** إذا أنت لم ترحل بزاد من التقوى
فترصد للموت الذي كان أصدا *** ندمت على أن لا تكون كمهله
و لا تاخن عظماً حديداً لتصفدا *** فإياك والميثاث لا تقربنها
لا تعبد الشيطان والله فاعبدا *** ومن ينصب المنصوب لا تعبدنه

و لكنه لم يكن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحرم الخمر وكان مولعاً بالخمر، فرجع سنة يريد أن يتزود من الخمر مع أنه قد اقتنع بالإسلام فمات في تلك السنة نسأل الله السلامة والعافية.

فلذلك لا بد أن يعلم أن أركان الإيمان وأركان الإسلام هي من المعلوم بالدين بالضرورة الذي يعذر بجهله، ومن أنكر ذلك جهلاً أو غير ذلك كفر به، فمن أنكر وجوب الصلاة أو أنكر وجوب الصوم أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج أو أنكر حرمة الزنا أو حرمة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق فهو كافر كفراً أكبر مخرج من الملة لأنه لا يتصور أن يكون مسلماً وهو يجهل هذه الأمور.

أما النوع الثاني: فهو ما دون هذا من المعلومات فهذه يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً: فتفصيلات أركان الإيمان وأركان الإسلام وما يتعلق بها يجهلها كثير من عوام المسلمين، وكثير منها لا تجب معرفته على الأعيان، فكثير من تفاصيل العقائد لا يجب على الأعيان معرفته، فيمكن أن يعيش المسلم ويموت ويدخل الجنة وهو لا يعرف من العقيدة إلا أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقدر خيره وشره، فمن آمن بذلك ومات دخل الجنة، فإذا جهل التفاصيل الأخرى ولم يعرف رد الشبهات ولم يعرف كثيراً من الحق في المسائل الخلافية فهو معذور في جهل، لكنه لا يجب على الأعيان معرفته.

ولهذا فإن كثيراً منه لم يأتِ بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأت في القرآن ولم يأت في تواتر السنة، وإنما جاء في أخبار الآحاد، ولهذا عذر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها في جهلها بعذاب القبر، فعذاب القبر من مشاهد القيامة في الواقع، لأن القيامة قيامتان: قيامة كبرى، وهي النفخ في الصور وما يلي ذلك من المشاهد. وقيامة صغرى وهي موت ابن آدم، إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، فالقيامة الصغرى من مشاهدها عذاب القبر وضمَّة القبر وسؤال الملكين وغير ذلك مما في القيامة الصغرى، ثم القيامة الكبرى مشاهدها بالحشر من القبور إلى الله سبحانه وتعالى وتبديل الأرض غير الأرض وتشقق السماوات وطيها والحشر إلى الساهرة والاجتماع فيها، والمجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، إلى آخر مشاهد القيامة الكبرى.

فهذه التفصيلات يشملها الإيمان باليوم الآخر إجمالاً ولكن أعيانها وأفرادها كثير منها يجهله كثير من عوام المسلمين، فلذلك يُعذر جاهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث عائشة أنها دخل عليها عجوزان من اليهود فذكرتا عذاب القبر، قالت: فكذبتهما، ولم أنعم أصدقهما، أي لم أطمئن أن أصدقهما، فلما خرجتا دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فسألته: أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: "عائذاً بالله من عذاب القبر" ثم لم أزل بعد أسمعه يستعيذ بالله من عذاب القبر، فبيَّن لها النبي صلى الله عليه وسلم عذاب القبر وبيَّن لها أنه ينبغي الاستعاذة منه دائماً، فلذلك لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم عقد نكاحها من إنكارها لعذاب القبر وتكذيبها لليهوديتين فيه، وأنها لم ينعم صدرها بذلك حتى أخبرها به النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا فإن من لم يتعلم شيئاً من هذه التفصيلات في أحكام الدين لابد أن يعذر بجهالته بها، لأن الأصل أن الإنسان خلق جاهلاً كما قال الله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا}، ولا يزال يزداد علماً مع زيادة إيمانه وتقدم عمره وزيادته في الطلب، فلذلك لابد من العذر بهذا.

ولابد هنا من التنبيه إلى أن تكفير المعين أمر عظيم، فإن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم فهو مسلم كان على ذلك ما كان، لأن الله يقول لملائكته يوم القيامة: "أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله"، ويقول لملائكته: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان"، وفي رواية: "من خير"، وكلتاهما في صحيح البخاري، فلذلك لابد أن نعلم أن حصن لا إله إلا الله حصن عظيم، وأن كل من قال هذه الكلمة العظيمة كلمة الحق وشهد هذه الشهادة الكبيرة فقد دخل في حصنٍ لا ينبغي الإعتداء عليه فيه، ومن هنا فتكفير المعين له سبعة شروط في الفقه.

الشرط الأول: أن لا يكون مُكرهاً، فإذا كفر الإنسان -قال كفراً أو فعله- ولكنه كان مكرهاً عليه تحت الخوف فهو معذور في كفره، لقول الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}.

الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً به فيما ليس معلوماً من الدين بالضرورة، فإذا كان الإنسان جاهلاً بأمر من أمور الدين وأمور الإعتقاد فأنكرها أو كذبها وهو لا يقصد بذلك تكذيب القرآن -لا يعلم أنها في القرآن- أو لا يقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها فإنه لا يكفر بذلك لأن هذا النوع من الجهل، وقد أخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه سلم إلى جهة حنين ونحن حدثاء عهد بجاهلية فمررننا بشجرة كان أهل الجاهلية يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: "الله أكبر، إنها السنن فلأنتم والذي نفس محمد بيده كما قال أصحاب موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}، ولم يُكفِّر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم لأنهم كانوا حديثي عهد بجاهلية ولم يعرفوا أن تعلق القلب بغير الله سبحانه وتعالى مما كان أهل الجاهلية يتعلقون به هو من الشرك، وهو شرك المحبة، وأنتم تعلمون أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أربعة أنواع:
النوع الأول: منه الشرك في ربوبية الله سبحانه وتعالى أن يزعم الإنسان مدبراً للكون أو خالقاً لشيء منافي أو متصرفاً فيه غير الله فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.
والنوع الثاني: هو الشرك في الدعوة والاستغاثة، أن يظن أن الإنسان أن له متوكلاً أو معتمداً غير الله تعالى يمكن أن يرفع إليه أيدي الضراعة فينقذه أو يرفع عنه بلاء أو يجلب إليه نفعاً فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وقد قال الله تعالى: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} فسمي ذلك شركاً بصريح القرآن.
والنوع الثالث: هو الشرك في التشريع وهو تحليل ما حرمه الله أو تحريم ما أحله الله بتغيير حكم الله سبحانه وتعالى، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، ولذلك قال الله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} فجعل ذلك شركاً لأنه قال: {أم لهم شركاء}.
النوع الرابع: هو الشرك في المحبة، أن يحب الإنسان ويتعلق قلبه بغير الله تعلقاً من حقوق الألوهية لا يمكن أن يكون إلا لله، وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله}، وهذا النوع هو الذي وقع فيه هؤلاء القوم وقد عذرهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه لحداثة عهدهم في بالجاهلية وهذا النوع أيضا هو الذي عذر فيه أصحاب موسى فقد قال الله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون}، ولم يقل: "إنكم قوم تكفرون" فنسب فعلهم إلى الجهل فعذرهم بذلك، ومن هذا القبيل ما كان سائداً في الجاهلية من كثير من الأمور التي يقع فيها أصحابها عن جهالة فينكرها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ومع ذلك لا يُكفِّرهم، فقد أتاه رجل من الأعراب فقال: "يا رسول الله، إنا لنشفع بك على الله، وبالله عليك" فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله لا يستشفع عليه بأحد من خلقه"، وبيَّن له أن هذا النوع من الشرك لكن لم يكفره، ومثل ذلك أن كثيراً منهم كانوا يسجدون له تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تعودوا من أمر الجاهلية على السجود لكل معظم فكان ينكر ذلك عليهم، ولما سجد رجل بين يديه قال: "هوِّن عليك فإني لست بملك إنما أنا عبد الله ورسوله"، وأنكر عليهم مثل هذه التصرفات التي هي من أمر الجاهلية ولكن لم يُكفِّرهم بها فدل هذا على أن هذا النوع من الجهل يعذر به.

والشرط الثالث: أن يكون الإنسان قاصداً للكفر، أراد أن يكفر، أراد أن يخرج من الإسلام وإن الإرادة هي النية، وهي التي يرتبط بها العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ولذلك إذا نطق الإنسان بالكفر أو فعل ما هو كفر وهو لا يقصد الكفر ولكن غلط لسانه أو وقع في وهل فتأثر به فهذا النوع الذي لا يقصد به صاحبه الكفر يعذر فيه صاحبه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا باللات ولا بالعزى فمن قال ذلك فليقل آمنت بالله"، فقد كان الناس يحلفون باللات والعزى في الجاهلية فلما أسلموا جرى ذلك على ألسنتهم فنهاهم عنه وعلمهم الأدب الشرعي إذا حصل ذلك لكن لم يكفرهم به، ومثل ذلك قوله لعمر رضي الله عنه: "لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك"، ومثله قوله للرجل الذي تعلق كعب أرنب، فقال: "ما هذه؟" فقال: أتداوى بها من الواهنة، فقال: "أما إنها لا تزيدك إلا وهناً"، فقال: "فمن تعلق شيئاً وكِّلَ إليه"، وقال: "من تعلق تميمة وكل إليها"، وقال: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"، فبيَّن لهم أن هذا من الشرك ولكنه لم يكفرهم به، ومثل هذا أيضاً ما كان من غلط اللسان كما ثبت في الصحيح أن آخر من يدخل الجنة يقول: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح وهو قد دخل الجنة، وكذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للهُ أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من أحدكم يكون على راحلته ومعه زاده ومتاعه بفلاة من الأرض، فتنفر منه راحلته فبخرج في طلبها حتى إذا أيس من نفسه رأى شجرة، فقال: لعلي أموت عندها، فبينما هو على ذلك إذا راحلته عنده وأمسك بخطامها -أو بزمامها- وهو يقول: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح"، فبيَّن أن هذا الخطأ اللساني الذي لا يوافقه الإعتقاد ولا يقصد به الإنسان الكفر أن الإنسان معذور فيه، فكثيراً ما يجري على الإنسان الغلط كما تغلط في قراءة القرآن وتغلط في قراءة الحديث بتبديل لفظ أو حرف أو غير ذلك من غير قصد، فهذا النوع هو مما رفع الإثم فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

والشرط الرابع: أن لا يكون الإنسان متأولاً فإذا كان الإنسان متأولاً معناه طالباً للحق واجتهد والذي أداه إليه اجتهاده كان كفراً لكنه هو لا يعلم أنه كفر فهو معذور بذلك، لأن الإنسان يجب عليه بذل جهده في الفهم والتلقي عن الله، فإذا بذل جهده من المعلوم أن العقول متفاوتة الدرجات وأن الإنسان قد يوصله عقله إلى خطأ كما قد يوصله إلى الصواب فإذا كان ذلك في محل اجتهاد فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر كما صح في حديث عمرو ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر"، ومحل هذا في غير المعلوم من الدين بالضرورة فيما هو محل الإجتهاد، فإذا اجتهد العالم فأوَّل صفة من صفات الباري سبحانه وتعالى أو أنكرها متأولاً فإنه لا يكفر بذلك، ولهذا فإن كثيراً من أهل الأهواء والبدع لم يكفرهم الأئمة الكبار، وقد قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء بعد أن ذكر بشر المريسي وذم العلماء له وتكفير كثير منهم له، قال: "ولكن أبى الله أن يكون من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وصلى الخمس إلى القبلة وزكى وصام وحج البيت كمن لم يفعل شيئاً من ذلك ونعوذ بالله من البدعة وأهلها" فهذا كلام منصف عجيب!! يقول: "ولكن أبى الله أن يكون من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت كمن لم يفعل شيئاً من ذلك" ولذلك فإن الذي يقع في تقليد مذهب من المذاهب ويكون مقلداً لإمام من الأئمة أو عالم من العلماء في أمر زلت القدم فيه فهو معذور في ذلك لأن التقليد لا يكون إلا عن جهل فهو بمثابة المتأول ولهذا يقول البحتري:
وقال الجهال بالتقليد *** عرف العالمون فضلك بالعلم

فالتقليد لا يكون إلا عن جهل.

الشرط الخامس من هذه الشروط: أن يكون الإنسان كامل العقل غير مضغوط عليه بما يؤثر على عقله، لأن العقل مناط التكليف، فإن كان الإنسان فاقد العقل بسبب سُكر أو مرض أو خوف أو أمر يؤثر في عقله فهو معذور في ما ينطق به من الكفر، ولذلك فإنه إذا راجع عقله أنكر أن يكون قال ذلك، ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلاً كان في من قبلنا كان عاصياً لله تعالى، فلما أدركه الموت جمع أهله فأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات أن يحرقوا جثته وأن يقسموا رماده نصفين، فيذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: "فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين" قال ذلك الذي يدل على شكه في قدرة الله، لأنه قال: "فلئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين" فلما مات فعلوا به ما أوصى، فأمر الله البر فجمع ما فيه والبحر، فقال: "أي عبدي، ما حملك على ما صنعت؟" قال: "خشيتك يا رب" فغفر له، هذا الرجل غطي على عقله من الخشية لأنه تذكر ما فرط فيه في جنب الله وما فعل من المعاصي وهو قادم على الله لا محالة فخاف الله خوفاً شديداً أدى إلى تغطية عقله فقال هذا الكلام، ولذلك قال: "خشيتك يا رب" فغفر له، وهنا هذا الحديث ظاهره أن المغفرة شملت كل أعماله بما فيها المعاصي السابقة لأنه قال: "فغفر له" وهذا فعل، والفعل من قبيل المطلق فيشمل كل ما فعل من قبل.

والشرط السادس من هذه الشروط: هو أن تقوم عليه الحجة، فالإنسان الذي قال ما هو كفر واعتقد ما هو أو فعل ما هو كفر لا يمكن أن يكفر قبل أن تقام عليه الحجة، لأنه يمكن أن يكون متأولاً ويمكن أن يكون جاهلاً، ويمكن أن يقع في خلل من الشروط السابقة، وقد قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فالرسل إقامةٌ للحجة على الناس، كما قال الله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، وقيام الحجة شرطٌ، فمن مات ولم تبلغه الدعوة أصلاً -لم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث- فهو معذور، ويبقى تصور إقامة الحجة، فنحن نعلم أن كثيراً من الكافرين اليوم سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يسمعوا به إلا بالتشويه كثير من الشعوب العربية في أروبا وأمريكا، لم يسمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسول الخاتم للرسل وأن الدين الذي جاء به هو الناسخ لكل الأديان، لكن مع ذلك سمعوا به، فلذلك اختلف العلماء في مثل هذا الحال: هل هو يعذر به صاحبه لأنه في الواقع لم تقم عليه الحجة الكافية؟ أو أن سماعهم به كافٍ في إقامة الحجة عليهم لأن من سمع به يجب عليه أن يبحث عنه وأن يتحرى حتى يصل إلى قناعته؟ فهذا محل بحث فالذين يرون أن الحجة لم تقم عليهم بعد يستدلون بقوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}، وأهل الجاهلية كثير منهم سمعوا عن إبراهيم وإسماعيل وسمعوا بموسى وسمعوا بعيسى ابن مريم، وقد قال الله تعالى في مشركي مكة: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالوا أءالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}، فإذا كانوا يعلمون بالمسيح ابن مريم عليه السلام لكن كان سماعهم به لا يعلمون به أنه نبي جاء بالتوحيد وبنبذ الشر.
والذين يرون أن الحجة قد قامت على الكفار جميعاً اليوم بالنبي صلى الله عليه وسلم يستدلون بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار"، فهنا شرط النبي صلى الله عليه وسلم مجرد السماع، فقال: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار"، فهنا شرط النبي صلى الله عليه وسلم مجرد السماع فقال: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا يصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار"، وهم سمعوا به، ولو كان هذا السماع بالتشويه فأنتم قطعاً تجزمون أن كثيراً من الكفار اليوم لا يسمعون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا كما يسمعون ببوذا أو كما يسمعون بكل من ماركس وفيربخ وكما يسمعون بهيكل وكما يسمعون بأي زعيم من هؤلاء الزعماء، فلذلك يبقى هذا محل بحث، وفي القيامة يفصل الخصام في يوم القيامة، يفصل الخصام بينهم فالله سبحانه وتعالى أسرع الحاسبين.

أما الشرط السابع من هذه الشروط فهو: الثبوت، فإن الكفر حكم والحكم لا يمكن أن يتم إلا بالشهادة، لابد فيه من بينة، ولذلك فإن البينة من شرطها العلم كما قال الله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين}، وكما قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} فالبينة من شرطها العلم، ولذلك فإن الإنسان إذا نسب له الكفر ولم يثبت عليه ذلك، كما أنه لا يقام عليه إذا زنا ما لم يثبت بشهادة أربع عدول، إذا شهد عليه ثلاث عدول بالزنا وهم عدولٌ موثقون ولكن لم يأتِ الشاهد الرابع أو جاء الشاهد الرابع وتردد في شهادته أو اختلفوا في الصفة أو اختلفوا في الوقت فإنه يرفع عنه الحد، ولا يقام عليه حد الزنى، فكذلك الحال بالنسبة للكفر إذا شهد مشاهد واحد على إنسان بأنه قال كفر أو فعله فلا يكفر بذلك ما لم يثبت عليه بنصاب الشهادة المعتبرة شرعاً، لأن هذا من الأحكام القضائية فإذا هذه شروط تكفير المعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.

محمد الحسن الددو الشنقيطي

أحد الوجوه البارزة للتيار الإسلامي وأحد أبرز العلماء الشبان في موريتانيا و مدير المركز العلمي في نواكشوط.