فصل: حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن [الإسلام] و[الإيمان] و‏[الإحسان]

منذ 2007-01-04
السؤال: فصل: حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن [الإسلام] و[الإيمان] و‏[الإحسان]
الإجابة: فصــل:

تضمن حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ‏[‏الإسلام‏]‏ و‏[‏الإيمان‏]‏ و‏[‏الإحسان‏]‏ وجوابه عن ذلك، وقوله في آخر الحديث "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم‏"‏‏‏.

‏‏ فجعل هذا كله من الدين‏.‏

وللناس في ‏[‏الإسلام‏]‏، و‏[‏الإيمان‏]‏ من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن تبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها‏.

‏‏ فنقول‏:‏ ما علم من الكتاب، والسنة، والإجماع، وهو من المنقول نقلاً متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام دين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا على عهده بالمدينة ثلاثة أصناف‏:‏ مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق ظاهره الإسلام وهو في الباطن كافر‏.

‏‏ ولهذا التقسيم أنزل الله في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين‏.

‏‏ فقوله تعالى‏:‏‏ {‏‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏ }‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏2‏-‏ 5‏]‏ في صفة المؤمنين‏.

‏‏ وقوله‏:‏‏ {‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏ الآيتين‏[‏البقرة‏:‏6- 7‏]‏ في صفة الكفار الذين يموتون كفاراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏ {‏‏‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏‏الآيات‏[‏البقرة‏:‏8‏-20‏]‏ في صفة المنافقين، إلى أن ضرب لهم مثلين‏:‏أحدهما بالنار، والآخر بالماء، كما ضرب المثل بهذين للمؤمنين في قوله تعالى‏:‏‏ {‏‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏‏ الآية ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏ وأما قبل الهجرة فلم يكن الناس إلا مؤمن أو كافر، لم يكن هناك منافق فإن المسلمين كانوا مستضعفين، فكان من آمن آمن باطناً وظاهراً، ومن لم يؤمن فهو كافر‏.‏

فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وصار للمؤمنين بها عز وأنصار، ودخل جمهور أهلها في الإسلام طوعاً واختياراً، كان بينهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم من أظهر الإسلام موافقة، ورهبة أو رغبة وهو في الباطن كافر‏.

‏‏ وكان رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول، وقد نزل فيه وفي أمثاله من المنافقين آيات‏.

‏‏ والقرآن يذكر المؤمنين والمنافقين في غير موضع، كما ذكرهم في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وسورة العنكبوت، والأحزاب‏.‏

وكان هؤلاء في أهل المدينة والبادية، كما قال تعالى‏:‏‏{‏‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏101‏]‏‏.

‏‏ وكان في المنافقين من هو في الأصل من المشركين، وفيهم من هو في الأصل من أهل الكتاب‏.

‏‏ وسورة الفتح، والقتال، والحديد، والمجادلة، والحشر، والمنافقين، بل عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقين‏.‏

قال تعالى في سورة آل عمران‏:‏ ‏ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏‏ {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}‏‏ الآيات ‏[‏آل عمران‏:‏165- 167‏]‏، وقال فيها أيضاً‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ‏}‏‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏118‏- 120‏]‏‏.

‏‏ وقال تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏ {‏‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏ {‏‏‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏60- 65‏]‏، وقال‏:‏‏ {‏‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ‏}‏‏ الآيات ‏[‏النساء‏:‏88‏-90‏]‏ وقال‏:‏‏{‏‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏ {‏‏‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 138‏-146‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة المائدة‏:‏ ‏ {‏‏‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}‏‏ إلى قوله‏:‏‏ {‏‏‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ‏}‏‏‏:‏ ‏[‏المائدة‏:‏51‏-‏ 53‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏ {‏‏وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 61-62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏ {‏‏‏تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏77- 81‏]‏‏.‏

وأما سورة براءة، فأكثرها في وصف المنافقين وذمهم؛ ولهذا سميت‏:‏ الفاضحة، والمبعثرة، وهي نزلت عام تبوك، وكانت تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت غزوة تبوك آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، التي غزاها بنفسه، وتميز فيها من المنافقين من تميز، فذكر الله من صفاتهم ما ذكره في هذه السورة، وقد قال تعالى في سورة النور‏:‏‏ {‏‏‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏‏{‏‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏الآيات ‏[‏النور‏:‏ 47،5‏]‏وقال تعالى في سورة العنكبوت‏:‏ ‏ {‏‏‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ‏}‏‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏10- 11‏]‏‏.
}‏‏ وقال تعالى في سورة الأحزاب‏:‏ ‏ {‏‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏ }‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏1‏]‏ وذكر فيه شأنهم في الأحزاب، وذكر من أقوال المنافقين وجبنهم وهلعهم، كما قال تعالى‏:‏‏ {‏‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏ {‏‏‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏12-20‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏ {‏‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60-‏ 73‏]‏‏.

‏‏ وقال تعالى في سورة القتال‏:‏ ‏{‏‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏29- 30‏]‏ إلى ما في السورة من نحو ذلك‏.

‏‏ وقال تعالى في سورة الفتح‏:‏‏ {‏‏هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏4- 6‏]‏، وقال تعالى في سورة الحديد‏:‏ ‏ {‏‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ‏}‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏12‏-‏ 15‏]‏‏.

‏‏ وقال في سورة المجادلة‏:‏‏ {‏‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏ {‏‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏ إلى آخر السورة ‏[‏المجادلة‏:‏7-16‏]‏، وقوله‏:‏‏ {‏‏‏مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ‏}‏‏كقوله‏:‏‏ {‏‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏143‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏ مثل المنافق كمثل الشاة العَائِرَة بين الغَنَمَيْن، تَعِيرُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة‏"‏‏‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏ {‏‏‏أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ‏}‏‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏11‏- 13‏]‏، وقد ذكر في سورة المنافقين في قوله‏:‏ ‏ {‏‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏ إلى آخر السورة ‏[‏المنافقون‏:‏1‏-11‏]‏‏.‏

والمقصود بيان كثرة ما في القرآن من ذكر المنافقين وأوصافهم‏.

‏ والمنافقون‏:‏ هم في الظاهر مسلمون، وقد كان المنافقون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمون أحكام الإسلام الظاهرة لاسيما في آخر الأمر ما لم يلتزمه كثير من المنافقين الذين من بعدهم؛ لعز الإسلام وظهوره إذ ذاك بالحجة والسيف، تحقيقاً لقوله تعالى‏:‏‏ {‏‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏‏ ‏[‏الصف‏:‏9‏]‏، ولهذا قال حذيفة بن اليمان وكان من أعلم الصحابة بصفات المنافقين وأعيانهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إليه عام تبوك أسماء جماعة من المنافقين بأعيانهم، فلهذا كان يقال‏:‏ هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره‏.‏

ويروى أن عمر ابن الخطاب لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة؛ لئلا يكون من المنافقين الذين نهى عن الصلاة عليهم، قال حذيفة رضي الله عنه‏:‏ النفاق اليوم أكثر منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.

‏‏ وفي رواية‏:‏ كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسرونه، واليوم يظهرونه‏.‏

وذكر البخاري في صحيحه عن ابن أبي مُلَيْكَة قال‏:‏ أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم يصلون ويزكون وأنه لا يقبل ذلك منهم‏.‏

وقال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏ }‏‏ ‏[‏النساء‏:‏142‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏53-54‏]‏، وقد كانوا يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم مغازيه كما شهد عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين الغزوة التي قال فيها عبد الله بن أبي‏:‏‏ {‏‏‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ‏}‏‏ ‏[‏المنافقون‏:‏8‏]‏ وأخبر بذلك زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبه قوم، حتى أنزل الله القرآن بتصديقه‏.

‏‏ والمقصود أن الناس ينقسمون في الحقيقة إلى‏:‏ مؤمن، ومنافق كافر في الباطن مع كونه مسلماً في الظاهر، وإلى كافر باطناً وظاهراً‏.

‏‏ ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ الزنديق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق‏:‏ هل تقبل توبته‏؟‏ في الظاهر‏:‏ إذا عرف بالزندقة، ودفع إلى ولي الأمر قبل توبته، فمذهب مالك وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة‏:‏ أن توبته لا تقبل‏.

‏‏ والمشهور من مذهب الشافعي‏:‏ قبولها، كالرواية الأخرى عن أحمد، وهو القول الآخر في مذهب أبي حنيفة، ومنهم من فصل‏.

‏‏ والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن ديناً من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم أو كان معطلاً جاحداً للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة‏.

‏‏ ومن الناس من يقول‏:‏الزنديق‏:‏هو الجاحد المعطل‏.‏

وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس، ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه‏:‏ هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره، وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله‏:‏ ‏ {‏‏‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏37‏]‏ وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله‏:‏ ‏ {‏‏‏الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏88‏]‏‏.

‏‏ فهذا أصل ينبغي معرفته، فإنه مهم في هذا الباب‏.

‏‏ فإن كثيراً ممن تكلم في مسائل الإيمان والكفر لتكفير أهل الأهواء لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبر هذا، علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقاً زنديقاً يظهر خلاف ما يبطن‏.

‏‏ وهنا أصل آخر، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان، فقال تعالى‏:‏‏ {‏‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏ }‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وقال تعالى في قصة قوم لوط‏:‏ ‏ {‏‏فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏35- 36‏]‏ وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين، وليس كذلك، بل هذه الآية توافق الآية الأولى؛ لأن الله أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمناً، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين‏.

‏‏ وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا؛ بل كانت من الغابرين، الباقين في العذاب، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، وفي الباطن مع قومها علي دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، كما قال الله تعالى فيها‏:‏ ‏{‏‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا‏}‏‏ ‏[‏التحريم‏:‏10‏]‏‏.

‏‏ وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش فإنه ما بغت امرأة نبي قط؛ إذ نكاح الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع وهن الكتابيات، وأما نكاح البغي فهو دِيَاثَة، وقد صان الله النبي عن أن يكون دَيُّوثاً؛ ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب‏.‏

والمقصود أن امرأة لوط لم تكن مؤمنة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله‏:‏‏ {‏‏فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏35‏]‏، وكانت من أهل البيت المسلمين وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏‏{‏‏فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏36‏]‏، وبهذا تظهر حكمة القرآن؛ حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود‏.‏

وأيضاً فقد قال تعالى‏:‏‏ {‏‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏35‏]‏‏.‏

ففرق بين هذا وهذا‏.

‏‏ فهذه ثلاثة مواضع في القرآن‏.

‏‏ وأيضاً، فقد ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا، ولم يعط رجلا‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله أعطيت فلاناً وتركت فلاناً، وهو مؤمن فقال‏:‏ ‏‏أو مسلم‏؟‏‏‏ قال‏:‏ ثم غلبني ما أجد، فقلت‏:‏ يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً، وتركت فلاناً وهو مؤمن‏.‏فقال ‏‏أو مسلم‏؟‏‏‏ مرتين أو ثلاثاً"، وذكر في تمام الحديث أنه يعطي رجالا، ويدع من هو أحب إليه منهم؛ خشية أن يكبهم الله في النار على مناخرهم‏.

‏‏ قال الزهري‏:‏ فكانوا يرون أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، فأجاب سعداً بجوابين، أحدهما‏:‏ أن هذا الذي شهدت له بالإيمان قد يكون مسلماً لا مؤمناً‏.

‏‏ الثاني‏:‏ إن كان مؤمناً، وهو أفضل من أولئك فأنا قد أعطى من هو أضعف إيماناً؛ لئلا يحمله الحرمان على الردة، فيكبه الله في النار على وجهه‏.

‏‏ وهذا من إعطاء المؤلفة قلوبهم‏.

‏‏ وحينئذ، فهؤلاء الذين أثبت لهم القرآن والسنة الإسلام دون الإيمان هل هم المنافقون الكفار في الباطن‏؟‏ أم يدخل فيهم قوم فيهم بعض الإيمان‏؟‏ هذا مما تنازع فيه أهل العلم على اختلاف أصنافهم‏.‏

فقالت طائفة من أهل الحديث والكلام وغيرهم‏:‏ بل هم المنافقون الذين استسلموا، وانقادوا في الظاهر ولم يدخل إلى قلوبهم شيء من الإيمان‏.

‏‏ وأصحاب هذا القول قد يقولون‏:‏ الإسلام المقبول هو الإيمان، ولكن هؤلاء أسلموا ظاهراً لا باطناً فلم يكونوا مسلمين في الباطن ولم يكونوا مؤمنين‏.

‏‏ وقالوا‏:‏ إن الله سبحانه يقول‏:‏‏ {‏‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏ بيانه‏:‏ كل مسلم مؤمن، فما ليس من الإسلام، فليس مقبولاً يوجب أن يكون الإيمان منه، وهؤلاء يقولون‏:‏ كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، إذا كان مسلماً في الباطن‏.

‏‏ وأما الكافر المنافق في الباطن، فإنه خارج عن المؤمنين المستحقين للثواب باتفاق المسلمين‏.‏

ولا يسمون بمؤمنين عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا عند أحد من طوائف المسلمين، إلا عند طائفة من المرجئة، وهم الكَرّامية الذين قالوا‏:‏ إن الإيمان هو مجرد التصديق في الظاهر، فإذا فعل ذلك كان مؤمناً وإن كان مكذباً في الباطن، وسلموا أنه معذب مخلد في الآخرة، فنازعوا في اسمه لا في حكمه، ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة، وهو غلط عليهم‏.

‏‏ ومع هذا فتسميتهم له مؤمناً بدعة ابتدعوها، مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية، دون سائر مقالاتهم‏.

‏‏ قال الجمهور من السلف والخلف‏:‏ بل هؤلاء الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان، قد لا يكونون كفاراً في الباطن، بل معهم بعض الإسلام المقبول‏.‏

وهؤلاء يقولون‏:‏ الإسلام أوسع من الإيمان؛ فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً‏.‏

ويقولون‏:‏ في قول النبي صلى الله عليه وسلم"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏"‏‏؛ أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام‏.‏

ودوروا للإسلام دارة، ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها، وقالوا‏:‏ إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر‏.

‏‏ ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال‏:‏ ‏ {‏‏‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏-17‏]‏‏.

‏‏ فقد قال تعالى‏:‏‏{‏‏لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏‏ وهذا الحرف أي ‏[‏لما‏]‏، ينفي به ما قرب وجوده، وانتظر وجوده، ولم يوجد بعد‏.

‏‏ فيقول لمن ينتظر غائباً أي‏:‏ ‏[‏لما‏]‏، ويقول‏:‏ قد جاء لما يجيء بعد‏.‏

فلما قالوا‏:‏ ‏ {‏‏آمنا‏}‏‏ قيل‏:‏ ‏ {‏‏لَّمْ تُؤْمِنُوا‏}‏‏ بعد، بل الإيمان مرجو منتظر منهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏‏وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم‏}‏‏ أي‏:‏ لا ينقصكم من أعمالكم المثبتة ‏{‏‏شّيًئْا‏}‏‏، أي‏:‏ في هذه الحال؛ فإنه لو أرادوا طاعة الله ورسوله بعد دخول الإيمان في قلوبهم لم يكن في ذلك فائدة لهم ولا لغيرهم؛ إذ كان من المعلوم أن المؤمنين يثابون على طاعة الله ورسوله وهم كانوا مقرين به‏.

‏‏ فإذا قيل لهم‏:‏ المطاع يثاب، والمراد به المؤمن الذي يعرف أنه مؤمن، لم يكن فيه فائدة جديدة‏.

‏‏ و أيضاً، فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم لما يدخل في قلوبهم وقيل لهم‏:‏ ‏ {‏‏وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً‏}‏‏فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب، فبين ذلك أنه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال تعالى‏:‏‏ {‏‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏، وهذا نعت محقق الإيمان، لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان، كما في قوله تعالى‏:‏‏ {‏‏‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً‏}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2- 4‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏ {‏‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏62‏]‏، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"‏‏‏.

‏‏ وأمثال ذلك‏.

‏‏ فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب، هو هذا الإيمان الذي نفى عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار، بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفى هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار‏.

‏‏ وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع، ويعلم أن في المسلمين قسماً ليس هو منافقاً محضاً في الدرك الأسفل من النار، وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم‏:‏ ‏{‏‏إ ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏ولامن الذين قيل فيهم‏ ‏‏{أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً‏}‏‏ فلاهم منافقون، ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقاً، ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب‏.

‏بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات‏.

‏‏ ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار‏.

‏‏ وهذا القسم قد يسميه بعض الناس‏:‏ الفاسق الملِّي، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه‏.

‏‏ والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين‏.

‏‏ فنقول‏:‏ لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وسار علي بن أبي طالب إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل، ثم يوم صِفِّين ما هو مشهور، خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم وذكر حكمهم، قال الإمام أحمد‏:‏ صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لأحمد، وروى البخاري منها عدة أوجه، وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر‏.

‏ ومن أصح حديثهم حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض، أحب إلى من أن أكذب عليه، وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خِدْعَة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏‏‏.

‏‏ وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال‏ " بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذُهَيْبَة في آدَمٍ مقروض، لم تُحَصَّلْ من ترابها فقال‏:‏ فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه‏:‏ كنا أحق بهذا من هؤلاء، قال‏:‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏‏‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً‏‏ قال‏:‏ فقام رجل غَائِر العينين، مُشْرِف الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزَ الجبهة، كَثَّ اللحية، محلوق الرأس، مُشَمِّر الإزار، فقال‏:‏ يا رسول الله اتق الله، فقال‏:‏‏ ‏ويلك ‏!‏ أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله‏؟‏‏!‏‏‏‏.‏ قال‏:‏ ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد‏:‏ يا رسول الله، ألا أضرب عنقه‏؟‏ فقال‏:‏‏‏لا،لعله أن يكون يصلي ‏‏قال خالد‏: ‏وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه‏.‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس؛ ولا أشق بطونهم‏‏، قال‏:‏ثم نظر إليه وهو مقف فقال‏:‏‏‏إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة‏‏ قال‏:‏ أظنه قال‏:‏ ‏‏لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏"‏‏‏.

‏‏ اللفظ لمسلم‏.‏

ولمسلم في بعض الطرق عن أبي سعيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق، ثم قال‏" ‏‏شر الخلق أو من شر الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق‏"‏‏‏.

‏‏ قال أبو سعيد‏:‏ أنتم قتلتموهم يا أهل العراق، وفي لفظ له‏ "تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق‏"‏‏، وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين‏"‏‏، فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة، وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله الحسن، كان أحب إلى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم من اقتتالهما، وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأموراً به، فعلي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وإن قتال الخوارج مما أمر به صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة‏.

‏‏ وهؤلاء الخوارج لهم أسماء، يقال لهم‏:‏ الحَرُورِيَّة لأنهم خرجوا بمكان يقال له‏:‏ حَرُوراء، ويقال لهم‏:‏ أهل النَّهْرَوَان؛ لأن علياً قاتلهم هناك‏.‏

ومن أصنافهم‏:‏ الأبَاضِيَّة أتباع عبد الله بن أباض، والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، والنَّجَدَات أصحاب نَجْدَة الحروري‏.‏

وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان‏"‏‏، وكفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ومن والاهما، وقتلوا علي ابن أبي طالب مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن مِلْجَم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة، فقال هؤلاء‏:‏ ما الناس إلا مؤمن أو كافر، والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر، مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك، فقالوا‏:‏ إن عثمان وعلياً ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفاراً‏.

‏‏ ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافراً مرتداً لوجب قتله؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏" ‏‏من بَدَّل دينه فاقتلوه"‏‏‏.‏

وقال‏ ‏‏"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏:‏ كُفْرٌ بعد إسلام، وزِناً بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل بها"‏‏ وأمر سبحانه بأن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما، وأمر سبحانه بأن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافراً لأمر بقتله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله، بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره، "أن رجلاً كان يشرب الخمر، وكان اسمه عبد الله حماراً، وكان يُضْحِك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتى به إليه جلده، فأتى به إليه مرة فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله‏"‏‏، فنهى عن لعنه بعينه وشهد له بحب الله ورسوله، مع أنه قد لعن شارب الخمر عموماً‏.‏

وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في الثالثة والرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتى به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن يقال‏:‏ يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ترجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة، كغيرها من أنواع التعزير، وكذلك صفة الضرب، فإنه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، بخلاف الزاني والقاذف فيجوز أن يقال‏:‏ قتله في الرابعة من هذا الباب‏.

‏‏ وأيضاً فإن الله سبحانه قال‏:‏‏ {‏‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9-10‏]‏ فقد وصفهم بالإيمان والأخوة، وأمرنا بالإصلاح بينهم‏.

‏‏ فلما شاع في الأمة أمر الخوارج، تكلمت الصحابة فيهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة، فجاءت بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري وهم‏:‏ عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء الغزال، وأتباعهما فقالوا‏:‏ أهل الكبائر مخلدون في النار، كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفاراً، بل فساق، ننزلهم منزلة بين منزلتين، وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج من النار بعد أن يدخلها‏.‏

قالوا‏:‏ ما الناس إلا رجلان‏:‏ سعيد لا يعذب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان‏:‏ كافر، وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفاراً‏.‏

وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما ردوا به على الخوارج‏.‏ فيقال لهم‏:‏ كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وكافر لا حسنة له، قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة وهو مخلد في النار، لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد، فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق‏.

‏‏ وقد قال تعالى في كتابه‏:‏ ‏ {‏‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، فجعل ما دون ذلك الشرك معلقاً بمشيئته‏.‏

ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، كما قال سبحانه في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏ فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏‏ ‏[‏فاطر‏:‏32‏- 35‏]‏ فقد قسم سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف‏:‏ ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل‏:‏‏[‏الإسلام‏]‏ و ‏[‏الإيمان‏]‏ و ‏[‏الإحسان‏]‏، كما سنذكره إن شاء الله‏.

‏‏ ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً، أو سابقاً، كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى‏:‏‏ {‏‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، فلابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر‏:‏ أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزي به، ويكفر عنه خطاياه، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزَن، ولا غَمٍّ، ولا أذًى، حتى الشوكة يُشَاكُهَا، إلا كَفَّر الله بها من خطاياه‏"‏‏، وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏ {‏‏مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏ قال أبو بكر ‏‏ "يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً، فقال‏:‏‏‏ يا أبا بكر، ألست تَنْصَب‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء ‏؟‏ فذلك مما تجزون به‏"‏‏‏.

‏‏ وأيضاً، فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار‏.

‏‏ وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين‏:‏ ‏[‏الوعيدية‏]‏ الذين يقولون‏:‏ من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى ‏[‏المرجئة الواقفة‏]‏ الذين يقولون‏:‏ لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد، أم لا‏؟‏‏!‏ كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره‏.‏

وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا‏:‏ لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فلا نعرف قائلاً مشهوراً من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول‏.‏

وأيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك‏.

‏‏ وأيضاً، فإن الذين قذفوا عائشة أم المؤمنين كان فيهم مُسْطَح بن أثاثَة، وكان من أهل بدر، وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر ألا يصله‏:‏‏ {‏‏وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏‏.

‏‏ وإن قيل‏:‏ إن مسطحاً وأمثاله تابوا، لكن الله لم يشرط في الأمر بالعفو عنهم، والصفح والإحسان إليهم التوبة‏.‏ وكذلك حَاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد عمر قتله، قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطَّلَعَ على أهل بدر، فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم‏"‏‏‏.

‏‏ وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال ‏‏" لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏"‏‏ وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ولم يشترط مع ذلك توبة، وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل‏.

‏‏ وإذا قيل‏:‏ إن هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن له إلا صغائر، لم يكن ذلك من خصائصه أيضاً‏.

‏‏ وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم، وأيضاً قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب‏:‏ أحدها‏:‏ التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، قال تعالى‏:‏{‏‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏104‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ‏}‏‏ ‏[‏الشورى‏:‏25‏]‏‏.

‏‏ وأمثال ذلك‏.

‏‏ السبب الثاني‏:‏ الاستغفار، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏‏"إذا أذنب عبد ذنباً فقال‏:‏ أي رب، أذنبت ذنباً فاغفر لي‏.‏ فقال‏:‏ علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي‏.‏ ثم أذنب ذنباً آخر، فقال‏:‏ أي رب، أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي، فقال ربه‏:‏علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء‏"‏‏، قال ذلك في الثالثة، أو الرابعة، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال "لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولَجَاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون فيغفر لهم‏"‏‏‏.

‏‏ وقد يقال على هذا الوجه‏:‏ الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث‏ "‏‏ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم مائة مرة‏"‏‏، وقد يقال‏:‏ بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين، الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب، كما في حديث البطاقة بأن قول‏:‏ لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقى الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير‏.

‏‏ السبب الثالث‏:‏ الحسنات الماحية، كما قال تعالى‏:‏ ‏ {‏‏‏وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏114‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفِّرَاتٌ لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر‏"‏‏، وقال "‏‏من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏، وقال "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"‏‏، وقال‏ ‏‏"من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"‏‏، وقال "‏‏فتنة الرجل في أهله وماله وولده، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏"‏‏‏.

‏‏ وقال‏ "‏‏من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه‏"‏‏‏.

‏وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح‏.‏

وقال "‏‏الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"‏‏‏.‏

وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا‏:‏ الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث‏ ‏‏"ما اجتنبت الكبائر‏"‏‏، فيجاب عن هذا بوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذا الشرط جاء في الفرائض، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصيام شهر رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏ {‏‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله سبحانه يقول‏:‏ ‏ {‏‏‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7- 8‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏ {‏‏"غفر له وإن كان فَرَّ من الزَّحْفِ‏"‏‏‏.

‏‏ وفي السنن‏:‏ أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب‏.‏

فقال ‏‏"اعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار‏" ‏.‏

وفي الصحيحين في حديث أبي ذر "وإن زنا، وإن سرق‏"‏‏‏.‏

الثالث‏:‏ أن قوله لأهل بدر ونحوهم‏" ‏‏اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏"‏‏ إن حمل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم‏.‏

فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر، لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر‏.

‏‏ الرابع‏:‏ أنه قد جاء في غير حديث "‏‏أن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل‏:‏ انظروا، هل له من تَطَوُّع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك‏"‏‏‏.

‏ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جُبْرَان، ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات‏.

‏‏ وهذا لا ينافي من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضاً للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر لعمر، وقد ذكره أحمد في ‏[‏رسالته في الصلاة‏]‏‏.

‏‏ وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها‏.

‏‏ ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً لها وإكمالا لها‏.‏

فلم يكن فيها ثواب نافلة، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله‏:‏‏ {‏‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ‏}‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏79‏]‏‏.

‏‏ وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقاً، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها، كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع، فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء‏.

‏‏ قيل‏:‏ هذا خطأ، فإن قيل‏:‏ هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال‏:‏ إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب، وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمى من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية‏.‏

والله عليم حكيم رحيم، أمرهم بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم؛ ولهذا قيل‏:‏ إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله؛ ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب، قال بعضهم لشيخه‏:‏ إني أذنب‏.‏

قال‏:‏ تب، قال‏:‏ ثم أعود، قال‏:‏ تب، قال‏:‏ ثم أعود، قال‏:‏ تب، قال‏:‏ إلى متى‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ إلى أن تُحزِن الشيطان‏.

‏‏ وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "‏‏إن الله يحب العبد المُفَتَّنَ التواب‏"‏‏‏.

‏‏ وأيضاً، فإن من نام عن صلاة، أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها، تبرأ بها الذمة من المطالبة ويرتفع عنه الذم والعقاب، ويستوجب بذلك المدح والثواب، وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك، ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات، ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجباً، فلا يكون تطوعاً والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله، كما قال تعالى في الحديث الصحيح‏ "‏‏ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‏"،، الحديث‏.

‏‏ فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر، لم يحصل له مقصود النوافل، ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلا محسنا،وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً،وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً،كان غالطا في جعله،بل يكون من الواجب الذي يستحقونه‏.‏

ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد، والعدل‏!‏ وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل، والإشراك، وأما العدل الذي وصف الله به نفسه، فهو ألا يظلم مثقال ذرة، وأنه‏:‏ من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطاً بذنب واحد من الكبائر، وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله‏.

‏ الخامس‏:‏أن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة‏.‏ والمعتزلة، مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، قال الله تعالى‏:‏‏ {‏‏‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏217‏]‏، فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، و المعلق بشرط يعدم عند عدمه، وقال تعالى‏:‏ {‏‏‏وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏5‏]‏، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء‏:‏‏ {‏‏وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏87- 88‏]‏، وقال‏: {‏‏‏‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏65‏]‏، مطابق لقوله تعالى‏:‏‏ {‏‏‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار، لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه، ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال، وقوله‏:‏ ‏{‏‏‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏28‏]‏، لأن ذلك كفر، وقوله تعالى‏:‏‏{‏‏لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏2‏]‏؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط، أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك؛ لأنه يفضي إلى الكفرالمقتضى للحبوط‏.‏

ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف‏:‏ المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏63‏]‏، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره أصابه عذاب أليم‏.‏

وقد احتجت الخوارج،والمعتزلة بقوله تعالى‏:‏‏{‏‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏27‏]‏، قالوا‏:‏ فصاحب الكبيرة ليس من المتقين، فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار، وقد أجابتهم المرجئة، بأن المراد بالمتقين، من يتقي الكفر، فقالوا لهم‏:‏ اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، كقوله تعالى‏:‏ ‏ {‏‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ‏}‏‏ ‏[‏القمر‏:‏54- 55‏]‏، وأيضا فابنا آدم حين قربا قربانا، لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافراً، وإنما كفر بعد ذلك، إذ لو كان كافراً لم يتقرب، وأيضاً فما زال السلف يخافون من هذه الآية ولو أريد بها من يتقى الكفر لم يخافوا،وأيضا فإطلاق لفظ المتقين، والمراد به من ليس بكافر، لا أصل له في خطاب الشارع، فلا يجوز حمله عليه‏.

‏‏ والجواب الصحيح‏:‏أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى‏:‏ ‏ {‏‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ قال‏:‏ أخلصه، وأصوبه، قيل‏:‏ يا أبا علي، ما أخلصه، وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه‏"‏‏‏.

‏‏ وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏ "‏‏لا يقبل الله صلاة بغير طُهُور، ولا صدقة من غلول‏"‏‏، وقال "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ‏"‏‏، وقال في الحديث الصحيح‏ "‏‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏‏ أي فهو مردود غير مقبول‏.‏

فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ لم يقبل منه، وإن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقياً في ذلك العمل، وإن كان متقيا للشرك‏.

‏‏ وقد قال تعالى‏:‏‏ {‏‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏6‏]‏، وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏ " يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق، ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذب ‏؟‏ قال‏:‏ ‏لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه‏".

‏‏ وخوف من خاف من السلف ألا يتقبل منه، لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان، وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم‏:‏ أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله؛ لخوف ألا يكون آتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق، لا يجوز أن يراد بالآية‏:‏ أن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له، امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير، لم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه‏.‏

وأيضاً، فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة، ثم تاب، لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة، وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقاً‏.‏

وأيضاً، فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل، وغصب، وقذف وكذلك الذمي إذا أسلم قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه، لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلداً، وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات، فيقبل إسلامهم، ويتوبون إلى الله سبحانه من التبعات‏.‏

كما ثبت في الصحيح‏:‏ أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وكان قد رافق قوماً في الجاهلية فغدر بهم، وأخذ أموالهم وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية، والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، دفعه المغيرة بالسيف فقال‏:‏ من هذا ‏؟‏ فقالوا‏:‏ ابن أختك المغيرة، فقال‏:‏ يا غُدَرُ، ألست أسعى في غَدْرتكَ ‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه في شيء‏"‏‏، وقد قال تعالى‏:‏‏ {‏‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏52‏]‏، وقالوا لنوح‏:‏ ‏ {‏‏‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏111- 113‏]‏، ولا نعرف أحداً من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له‏:‏ لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة‏.

‏‏ السبب الرابع الدافع للعقاب‏:‏ دعاء المؤمنين للمؤمن، مثل صلاتهم على جنازته، فعن عائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "‏‏ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه‏"‏‏‏.

‏‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه‏"‏‏ رواهما مسلم‏.

‏‏ وهذا دعاء له بعد الموت‏.‏

فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقى الذي اجتنب الكبائر، وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين‏.

‏‏ فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت‏.

‏‏ السبب الخامس‏:‏ ما يعمل للميت من أعمال البر، كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة، واتفاق الأئمة وكذلك العتق، والحج، بل قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏ ‏‏"من مات وعليه صيام صام عنه وليه‏"‏‏، وثبت مثل ذلك في الصحيح من صوم النذر من وجوه أخرى، ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله‏:‏ ‏ {‏‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏39‏]‏ لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه، كدعاء الملائكة، واستغفارهم له، كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏‏وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏103‏]‏، وقوله سبحانه‏:‏‏ {‏‏‏وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏99‏]‏، وقوله عز وجل‏:‏‏ {‏‏‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏19‏]‏، وكدعاء المصلين للميت، ولمن زاروا قبره من المؤمنين‏.

‏‏ الثاني‏:‏ أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه، وهذا حق، فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعى نفسه، وأما سعى غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم‏.‏

وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد؛ ليثيب أولئك على تلك الأسباب‏.

‏‏ فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "‏‏ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة، إلا وكل الله به ملكاً، كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به‏:‏ آمين، ولك بمثل‏"‏‏، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏ ‏‏"من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، أصغرهما مثل أحُد‏"‏‏، فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له‏.‏

السبب السادس‏:‏ شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة، كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏ "‏‏شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي‏"‏‏‏.

‏وقوله صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏خُيِّرْتُ بين أن يدخل نصف أمتي الجنة،وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر،أترونها للمتقين‏؟‏ لا، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين‏"‏‏‏.

‏‏ السبب السابع‏:‏ المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "‏‏ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ، ولا نصب، ولا هَمٍّ، ولا حَزَنٍ، ولا غَمٍّ، ولا أذًى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّر الله بها من خطاياه‏"‏‏‏.

‏‏ السبب الثامن‏:‏ ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا.

السبب التاسع‏:‏ أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها‏.‏

السبب العاشر‏:‏ رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد‏.

‏‏ فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم‏:‏ أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.