صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال

منذ 2007-01-06
السؤال: صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال
الإجابة: ولهذا صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال‏:‏

فالمرجئة يقولون‏:‏ الإسلام أفضل؛ فإنه يدخل فيه الإيمان‏.

‏‏ وآخرون يقولون‏:‏ الإيمان والإسلام سواء، وهم المعتزلة والخوارج، وطائفة من أهل الحديث والسنة وحكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، وليس كذلك، والقول الثالث‏:‏أن الإيمان أكمل وأفضل، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.

‏‏ ثم هؤلاء منهم من يقول‏:‏ الإسلام مجرد القول‏.‏

والأعمال ليست من الإسلام، والصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها، وأحمد إنما منع الاستثناء فيه على قول الزهري‏:‏ هو الكلمة‏.

‏‏ هكذا نقل الأثرم،والميموني وغيرهما عنه، وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال‏:‏ الإسلام الكلمة، فيستثنى في الإسلام كما يستثنى في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه قد فعل كل ما أمر به من الإسلام، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده‏"‏‏،و‏ "‏‏بني الإسلام على خمس‏"‏‏، فجزمه بأنه فعل الخمس بلا نقص كما أمر كجزمه بإيمانه، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏208‏]‏ أي الإسلام كافة، أي في جميع شرائع الإسلام‏.

‏‏ وتعليل أحمد وغيره من السلف ما ذكروه في اسم الإيمان يجيء في اسم الإسلام، فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه، كما نص عليه أحمد وغيره، وإذا أريد به من فعل الواجبات الظاهرة كلها، فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان، ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى، تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه؛ فلهذا قال الزهري‏:‏ الإسلام الكلمة، وعلى ذلك وافقه أحمد وغيره، وحين وافقه لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها، فإن الزهري أجل من أن يخفى عليه ذلك؛ ولهذا أحمد لم يجب بهذا في جوابه الثاني خوفاً من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة، ولهذا لما قال الأثرم لأحمد‏: ‏فإذا قال‏:‏أنا مسلم فلا يستثني‏؟‏ قال نعم‏:‏لايستثنى إذا قال‏:‏أنا مسلم، فقلت له أقول‏:‏هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏" وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري قال‏:‏فنري أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل‏.

‏‏ فبين أحمد أن الإسلام إذا كان هو الكلمة فلا استثناء فيها، فحيث كان هو المفهوم من لفظ الإسلام فلا استثناء فيه، ولو أريد بالإيمان هذا، كما يراد ذلك في مثل قوله‏:‏‏{‏‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏، فإنما أريد من أظهر الإسلام، فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة؛ ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏اعتقها فإنها مؤمنة‏"‏‏ أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار، وهذا هو المؤمن المطلق في كتاب الله، وهو الموعود بالجنة بلا نار إذا مات على إيمانه؛ ولهذا كان ابن مسعود وغيره من السلف يلزمون من شهد لنفسه بالإيمان أن يشهد لها بالجنة، يعنون إذا مات على ذلك، فإنه قد عرف أن الجنة لا يدخلها إلا من مات مؤمناً‏.

‏‏ فإذا قال الإنسان‏:‏ أنا مؤمن قطعاً، وأنا مؤمن عند الله‏.‏

قيل له‏:‏ فاقطع بأنك تدخل الجنة بلا عذاب إذا مت على هذا الحال، فإن الله أخبر أن المؤمنين في الجنة‏.

‏‏ وأنكر أحمد ابن حنبل حديث ابن عَمِيرة أن عبد الله رجع عن الاستثناء؛ فإن ابن مسعود لما قيل له‏:‏ إن قوماً يقولون‏:‏ إنا مؤمنون، فقال‏:‏ أفلا سألتوهم أفي الجنة هم‏؟‏ وفي رواية‏:‏ أفلا قالوا‏:‏ نحن أهل الجنة، وفي رواية قيل له‏:‏ إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال‏:‏ فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار‏؟‏ فسألوه فقال‏:‏ الله أعلم، فقال له عبد الله‏:‏ فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية‏؟‏ من قال‏:‏ أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال‏:‏ أنا عالم فهو جاهل، ومن قال‏:‏ هو في الجنة فهو في النار، يروى عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلاً من حديث قتادة ونعيم ابن أبي هند وغيرهما‏.

‏‏ والسؤال الذي تورده المرجئة على ابن مسعود ويقولون‏:‏ إن يزيد بن عميرة أورده عليه حتى رجع، جعل هذا أن الإنسان يعلم حاله الآن، وما يدري ماذا يموت عليه؛ ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون‏:‏ المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر، وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه‏.‏

ولكن أحمد وغيره من السلف لم يكن هذا مقصودهم، وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله‏:‏ أنا مؤمن، كقوله‏:‏ أنا ولي الله، وأنا مؤمن تقي، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك‏.

‏وابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً، وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت فإن ابن مسعود أجل قدراً من هذا، وإنما أراد‏:‏ سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال‏؟‏ كأنه قال‏:‏ سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال‏؟‏ فلما قال‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية‏؟‏ يقول‏:‏ هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفس، بلفعل الواجبات وترك المحرمات‏.

‏‏ فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك؛ ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحال الحاض، بلل للموافاة، لا يقطعون بأن الله يقبل توبة تائب، كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنباً، فإنهم لو قطعوا بقبول توبته، لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار، إلا من قطع له النص‏.

‏‏ وإذا قيل‏:‏ الجنة هي لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات‏.

‏‏ قالوا‏:‏ ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة، وهم لا يستثنون في الأحوال، بل يجزمون بأن المؤمن مؤمن تام الإيمان، ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافي به، فمن قطعوا له بأنه مات مؤمناً لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة، وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح، وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً، قبل الله توبته‏.‏

وجماع الأمر‏:‏ أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به،فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام،وهذا في كلام العرب وسائر الأمم؛ لأن المعنى مفهوم‏.

‏‏ مثال ذلك‏:‏ المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال‏:‏ ما هم منهم، قال الله تعالى‏:‏‏{‏‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏18- 19‏]‏، فهنالك جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدو، الناكلين عن الجهاد، الناهين لغيرهم، الذامين للمؤمنين منهم، وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏‏وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏56- 57‏]‏، وهؤلاء ذنبهم أخف، فإنهم لم يؤذوا المؤمنين لا بنهي ولا سلق بألسنة حداد، ولكن حلفوا بالله أنهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنون أنهم منهم في الظاهر، فكذبهم الله وقال‏:‏‏{‏‏وَمَا هُم مِّنكُمْ‏}‏‏ وهناك قال‏:‏‏{‏‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ‏}‏‏‏.

‏‏ فالخطاب لمن كان في الظاهر مسلماً مؤمناً وليس مؤمناً، بأن منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمناً بل أحبط الله عمله، فهو منكم في الظاهر لا الباطن‏.

‏‏ ولهذا لما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل بعض المنافقين قال‏ "‏‏لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه‏"‏‏؛ فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق كالذين علموا سنته الناس وبلغوها إليهم وقاتلوا المرتدين بعد موته، والذين بايعوه تحت الشجرة وأهل بدر وغيرهم، بل الذين كانوا منافقين غمرتهم الناس‏.

‏‏ وكذلك الأنساب، مثل كون الإنسان أباً لآخر أو أخاه، يثبت في بعض الأحكام دون بعض، فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زَمْعَة بن الأسود، في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية وولدت منه ولداً، فقال عتبة لأخيه سعد‏:‏ إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني، فاختصم فيه هو وعبد بن زمعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد‏ " يا رسول الله، ابن أخي عتبة عهد إلىَّ أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة‏؟‏ فقال عبد‏:‏ يا رسول الله، أخي وابن وليدة أبي؛ ولد على فراش أبي، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شبهاً بيناً بعتبة فقال‏:‏‏‏هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة‏"‏‏ لما رأى من شبهه البين بعتبة‏.

‏‏ فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم ابن زمعة لأنه ولد على فراشه، وجعله أخاً لولده بقوله ‏‏ "فهو لك يا عبد بن زمعة‏"‏‏، وقد صارت سودة أخته يرثها وترثه؛ لأنه ابن أبيها زمعة ولد على فراشه، ومع هذا فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحتجب منه لما رأى من شبهه البين بعتبة، فإنه قام فيه دليلان متعارضان‏:‏ الفراش والشبه، والنسب في الظاهر لصاحب الفراش أقوى، ولأنها أمر ظاهر مباح والفجور أمر باطن لا يعلم ويجب ستره لا إظهاره، كما قال "‏‏للعاهر الحجر‏"‏‏ كما يقال‏:‏ بِفيِكَ الكَثْكَث وبفيك الأثْلَب، أي‏:‏ عليك أن تسكت عن إظهار الفجور، فإن الله يبغض ذلك، ولما كان احتجابها منه ممكناً من غير ضرر، أمَرها بالاحتجاب لما ظهر من الدلالة على أنه ليس أخاها في الباطن‏.

‏‏ فتبين أن الاسم الواحد ينفى في حكم ويثبت في حكم، فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية، وكذلك ولد الزنا عند بعض العلماء، وابن الملاعنة عند الجميع إلا من شذ، ليس بولد في الميراث ونحوه، وهو ولد في تحريم النكاح والمحرمية‏.

‏‏ ولفظ النكاح وغيره في الأمر، يتناول الكامل، وهو العقد والوطء كما في قوله‏:‏ ‏ {‏‏‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏ {‏‏‏حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏230‏]‏، وفي النهي يعم الناقص والكامل، فينهى عن العقد مفرداً وإن لم يكن وطء كقوله‏:‏ ‏ {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏22‏]‏؛ وهذا لأن الآمر مقصوده تحصيل المصلحة، وتحصيل المصلحة إنما يكون بالدخول كما لو قال‏:‏ اشتر لي طعاماً، فالمقصود ما يحصل إلا بالشراء والقبض، والناهي مقصوده دفع المفسدة، فيدخل كل جزء منه؛ لأن وجوده مفسدة وكذلك النسب والميراث معلق بالكامل منه، والتحريم معلق بأدنى سبب حتى الرضاع‏.

‏‏ وكذلك كل ما يكون له مبتدأ وكمال، ينفى تارة باعتبار انتفاء كماله، ويثبت تارة باعتبار ثبوت مبدئه، فلفظ الرجال يعم الذكور وإن كانوا صغاراً في مثل قوله‏:‏ ‏ {‏‏وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏176‏]‏، ولا يعم الصغار في مثل قوله‏:‏‏{‏‏وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏75‏]‏، فإن باب الهجرة والجهاد عمل يعمله القادرون عليه، فلو اقتصر على ذكر المستضعفين من الرجال لظن أن الولدان غير داخلين؛ لأنهم ليسوا من أهله وهم ضعفاء، فذكرهم بالاسم الخاص ليبين عذرهم في ترك الهجرة ووجوب الجهاد، وكذلك الإيمان له مبدأ وكمال، وظاهر وباطن، فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم والمال والمواريث، والعقوبات الدنيوية، علقت بظاهره لا يمكن غير ذلك، إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر، وإن قدر أحياناً فهو متعسر علما وقدرة، فلا يعلم ذلك علماً يثبت به في الظاهر، ولا يمكن عقوبة من يعلم ذلك منه في الباطن‏.‏

وبهذين المثلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع من عقوبة المنافقين، فإن فيهم من لم يكن يعرفهم كما أخبر الله بذلك، والذين كان يعرفهم لو عاقب بعضهم لغضب له قومه، ولقال الناس‏:‏ إن محمداً يقتل أصحابه، فكان يحصل بسبب ذلك نفور عن الإسلام، إذ لم يكن الذنب ظاهراً، يشترك الناس في معرفته، ولما هم بعقوبة من يتخلف عن الصلاة، منعه من في البيوت من النساء والذرية، وأما مبدؤه فيتعلق به خطاب الأمر والنهي، فإذا قال الله‏:‏ ‏ {‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ‏}‏‏ ‏[‏المائد‏:‏6‏]‏ ونحو ذلك، فهو أمر في الظاهر لكل من أظهره، وهو خطاب في الباطن لكل من عرف من نفسه أنه مصدق للرسول، وإن كان عاصياً، وإن كان لم يقم بالواجبات الباطنة، والظاهرة، وذلك أنه إن كان لفظ‏:‏ ‏ {‏‏الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏‏ يتناولهم فلا كلام، وإن كان لم يتناولهم فذاك لذنوبهم، فلا تكون ذنوبهم مانعة من أمرهم بالحسنات التي إن فعلوها كانت سبب رحمتهم، وإن تركوها كان أمرهم بها، وعقوبتهم عليها عقوبة على ترك الإيمان، والكافر يجب عليه أيضاً، لكن لا يصح منه حتى يؤمن، وكذلك المنافق المحض لا يصح منه في الباطن حتى يؤمن‏.

‏‏ وأما من كان معه أول الإيمان، فهذا يصح منه؛ لأن معه إقراره في الباطن بوجوب ما أوجبه الرسول، وتحريم ما حرمه، وهذا سبب الصحة، وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة والنصرة والسلامة من النار، فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور، ومن فعل بعضا وترك بعضاً، فيثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، فلا يدخل هذا في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء، دون الذم والعقاب، ومن نفى عنه الرسول الإيمان، فنفى الإيمان في هذا الحكم؛ لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد‏.

‏‏ والوعيد إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب، ويدفع العقاب؛ ولهذا ما في الكتاب والسنة من نفي الإيمان عن أصحاب الذنوب، فإنما هو في خطاب الوعيد والذم، لا في خطاب الأمر والنهي، ولا في أحكام الدنيا‏.‏

واسم الإسلام والإيمان والإحسان هي أسماء ممدوحة مرغوب فيها لحسن العاقبة لأهلها،فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العاقبة الحسنة لمن اتصف بهـا على الـوجـه الـذي بينـه ولهـذا كان مـن نفـى عنهم الإيمان أو الإيمـان والإسلام جميعاً ولـم يجعلهم كفارا،إنمــا نفى ذلك فــي أحكام الآخرة، وهو الثواب، لم ينفه في أحكام الدنيا، لكن المعتزلة ظنت أنه إذا انتفى الاسم انتفت جميع أجزائه، فلم يجعلوا معهم شيئاً من الإيمان والإسلام، فجعلوهم مخلدين في النار، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، ولو لم يكن معهم شيء من الإيمان والإسلام، لم يثبت في حقهم شيء من أحكام المؤمنين والمسلمين، لكن كانوا كالمنافقين، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع التفريق بين المنافق الذي يكذب الرسول في الباطن، وبين المؤمن المذنب،فالمعتزلة سووا بين أهل الذنوب وبين المنافقين في أحكام الدنيا والآخرة في نفي الإسلام والإيمان عنهم، بل قد يثبتونه للمنافق ظاهراً، وينفونه عن المذنب باطناً وظاهراً‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ فإذا كان كل مؤمن مسلماً، وليس كل مسلم مؤمناً الإيمان الكامل كما دل عليه حديث جبريل وغيره من الأحاديث مع القرآن، وكما ذكر ذلك عمن ذكر عنه من السلف؛ لأن الإسلام الطاعات الظاهرة، وهو الاستسلام والانقياد؛ لأن الإسلام في الأصل هو الاستسلام والانقياد، وهذا هو الانقياد والطاعة، والإيمان فيه معنى التصديق والطمأنينة، وهذا قدر زائد، فما تقولون فيمن فعل ما أمره الله وترك ما نهى الله عنه مخلصاً لله تعالى ظاهراً وباطناً‏؟‏ أليس هذا مسلماً باطناً وظاهراً، وهو من أهل الجنة، وإذا كان كذلك فالجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، فهذا يجب أن يكون مؤمناً‏.

‏‏ قلنا‏:‏ قد ذكرنا غير مرة، أنه لابد أن يكون معه الإيمان الذي وجب عليه‏.‏

إذ لو لم يؤد الواجب لكان معرضاً للوعيد، لكن قد يكون من الإيمان ما لا يجب عليه إما لكونه لم يخاطب به، أو لكونه كان عاجزاً عنه، وهذا أولى؛ لأن الإيمان الموصوف في حديث جبريل والإسلام، لم يكونا واجبين في أول الإسلام، بل ولا أوجبا على من تقدم قبلنا من الأمم إتباع الأنبياء أهل الجنة، مع أنهم مؤمنون مسلمون، ومع أن الإسلام دين الله الذي لا يقبل ديناً غيره، وهو دين الله في الأولين والآخرين، لأن الإسلام عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر فقد تتنوع أوامره في الشريعة الواحدة، فضلاً عن الشرائع، فيصير في الإسلام بعض الإيمان بما يخرج عنه في وقت آخر، كالصلاة إلى الصخرة، كان من الإسلام حين كان الله أمر به، ثم خرج من الإسلام لما نهى الله عنه‏.

‏‏ ومعلوم أن الخمس المذكورة في حديث جبريل، لم تجب في أول الأمر، بل الصيام والحج وفرائض الزكاة، إنما وجبت بالمدينة، والصلوات الخمس إنما وجبت ليلة المعراج، وكثير من الأحاديث ليس فيها ذكر الحج لتأخر وجوبه إلى سنة تسع أو عشر على أصح القولين، ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان من اتبعه وآمن بما جاء به مؤمناً مسلماً، وإذا مات كان من أهل الجنة ثم إنه بعد هذا زاد ‏[‏الإيمان، والإسلام‏]‏ حتى قال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏، وكذلك الإيمان، فإن هذا الإيمان المفصل الذي ذكره في حديث جبريل، لم يكن مأموراً به في أول الأمر لما أنزل الله سورة العلق والمدثر، بل إنما جاء هذا في السور المدنية، كالبقرة، والنساء، وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون هذا الإيمان المفصل واجباً، على من تقدم قبلنا‏.

‏‏ وإذا كان كذلك، فقد يكون الرجل مسلماً يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ومعه الإيمان الذي فرض عليه، وهو من أهل الجنة وليس معه هذا الإيمان المذكور في حديث جبريل، لكن هذا يقال‏:‏ معه ما أمر به من الإيمان والإسلام، وقد يكون مسلماً يعبد الله كما أمر، ولا يعبد غيره ويخافه، ويرجوه، ولكن لم يخلص إلى قلبه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من جميع أهله وماله، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يخاف الله لا يخاف غيره، وألا يتوكل إلا على الله، وهذه كلها من الإيمان الواجب، وليست من لوازم الإسلام، فإن الإسلام هو الاستسلام وهو يتضمن الخضوع لله وحده، والانقياد له، والعبودية لله وحده، وهذا قد يتضمن خوفه ورجاءه، وأما طمأنينة القلب بمحبته وحده، وأن يكون أحب إليه مما سواهما، وبالتوكل عليه وحده، وبأن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، فهذه من حقائق الإيمان التي تختص به، فمن لم يتصف بها، لم يكن من المؤمنين حقاً وإن كان مسلماً، وكذلك وجل قلبه إذا ذكر الله، وكذلك زيادة الإيمان إذا تليت عليه آياته‏.‏

فإن قيل‏:‏ ففوات هذا الإيمان من الذنوب أم لا‏؟‏ قيل‏:‏ إذا لم يبلغ الإنسان الخطاب الموجب لذلك، لا يكون تركه من الذنوب، وأما إن بلغه الخطاب الموجب لذلك فلم يعمل به كان تركه من الذنوب إذا كان قادراً على ذلك، وكثير من الناس أو أكثرهم ليس عندهم هذه التفاصيل التي تدخل في الإيمان، مع أنهم قادمون بالطاعة الواجبة في الإسلام، وإذا وقعت منهم ذنوب تابوا واستغفروا منها، وحقائق الإيمان التي في القلوب لا يعرفون وجوبها، بل ولا أنها من الإيمان بل كثير ممن يعرفها منهم، يظن أنها من النوافل المستحبة إن صدق بوجوبها‏.‏

فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان، وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقاً، تاركون فريضة ظاهرة، ولا مرتكبون محرماً ظاهراً، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علماً وعملاً بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين‏.

‏‏ وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم، فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق، وبعد هذا ما ميز الله به المقربين على الأبرار أصحاب اليمين من إيمان وتوابعه، وذلك قد يكون من باب المستحبات، وقد يكون أيضاً مما فضل به المؤمن إيمان وإسلام مما وجب عليه، ولم يجب علي غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏‏"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏ وفي الحديث الآخر "‏‏ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل‏"‏‏، فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من الإيمان حبة خردل؛ ولهذا قال‏ "‏‏ليس وراء ذلك‏"‏‏، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم، كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.