فصل: قال محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها

منذ 2007-01-11
السؤال: فصل: قال محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها
الإجابة: فَصْــل:

قال محمد بن نصر‏:‏ واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها عند ذكر تسمية اللّه الصلاة وسائر الطاعات إيماناً، واستدلوا أيضاً بما قص اللّه من إباء إبليس حين عصى ربه في سجدة واحدة أمر أن يسجدها لآدم فأباها‏.

‏‏ فهل جحد إبليس ربه وهو يقول‏:‏ ‏ {‏‏‏رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي‏ }‏‏ ‏[‏الحجر‏:‏39‏]‏ ويقول‏:‏‏ {‏‏‏رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏ }‏‏ ‏[‏الحجر‏:‏36‏]‏ إيماناً منه بالبعث، وإيماناً بنفاذ قدرته في إنظاره إياه إلى يوم يبعثون‏؟‏ وهل جحد أحداً من أنبيائه أو أنكر شيئاً من سلطانه وهو يحلف بعزته‏؟‏ وهل كان كفره إلا بترك سجدة واحدة أمر بها فأباها‏؟‏ قال‏:‏ واستدلوا أيضاً بما قص اللّه علينا من نبأ {‏‏إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ‏ }‏‏ إلى قوله‏:‏‏ {‏‏فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏ }‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏27- 30‏]‏، قالوا‏:‏ وهل جحد ربه‏؟‏ وكيف يجحده وهو يقرب القربان‏؟‏‏.

‏‏ قالوا‏:‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏ {‏‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏ }‏‏ ‏[‏السجدة‏:‏15‏]‏، ولم يقل‏:‏ إذا ذكروا بها أقروا بها فقط، وقال‏:‏ ‏ {‏‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏ }‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏121‏]‏ يعني‏:‏ يتبعونه حق إتباعه‏؟‏

فإن قيل‏:‏ فهل مع ما ذكرت من سنة ثابتة، تبين أن العمل داخل في الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله‏؟‏ قيل‏:‏ نعم، عامة السنن والآثار تنطق بذلك، منها حديث وفد عبد القيس، وذكر حديث شعبة وقرَّة بن خالد عن أبي جَمْرَة عن ابن عباس، كما تقدم، ولفظه "‏‏آمركم بالإيمان باللّه وحده‏"‏‏، ثم قال "هل تدرون ما الإيمان باللّه وحده‏؟‏‏‏، قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمس ما غنمتم‏"‏‏‏.‏

وذكر أحاديث كثيرة توجب دخول الأعمال في الإيمان مثل قوله في حديث‏.‏‏.‏‏.‏ لما سئل صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏‏.ثم قال أبو عبد اللّه محمد بن نصر‏:‏ اختلف أصحابنا في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"‏‏‏.‏

فقالت طائفة منهم‏:‏ إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إزالة اسم الإيمان عنه من غير أن يخرجه من الإسلام، ولا يزيل عنه اسمه، وفرقوا بين الإيمان والإسلام، وقالوا‏:‏ إذا زنى فليس بمؤمن وهو مسلم، واحتجوا لتفريقهم بين الإسلام والإيمان بقوله‏:‏ ‏ {‏‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا‏ }‏‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏ فقالوا‏:‏ الإيمان خاص يثبت الاسم به بالعمل مع التوحيد، والإسلام عام يثبت الاسم بالتوحيد والخروج من ملل الكفر واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص، وذكره عن سعد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً فقلت‏ ‏‏" يا رسول اللّه، أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلانا وهو مؤمن‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏‏‏أو مسلم‏" أعادها ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏ ‏‏‏"أو مسلم‏‏، ثم قال‏:‏ ‏إني لأعطي رجالاً وأمنع آخرين وهم أحب إلى منهم، مخافة أن يُكَبُّوا على وجوههم في النار‏" قال الزهري‏:‏ فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل‏.‏

قال محمد بن نصر‏:‏ واحتجوا بإنكار عبد اللّه بن مسعود على من شهد لنفسه بالإيمان فقال‏:‏ أنا مؤمن، من غير استثناء، وكذلك أصحابه من بعده، وجُلّ علماء الكوفة على ذلك‏.‏

واحتجوا بحديث أبي هريرة‏ " ‏يخرج منه الإيمان، فإن رجع رجع إليه‏"‏‏، وبما أشبه ذلك من الأخبار، وبما روي عن الحسن ومحمد بن سيرين أنهما كانا يقولان‏:‏ مسلم، ويهابان‏:‏ مؤمن، واحتجوا بقول أبي جعفر الذي حدثناه إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا وهب بن جرير بن حازم، حدثني أبي، عن فضيل بن بشار، عن أبي جعفر محمد ابن علي؛ أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"،، فقال أبو جعفر‏:‏هذا الإسلام ودور دارة واسعة، وهذا الإيمان ودور دارة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر باللّه، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص‏"،، حدثنا بذلك يحيى بن يحيى، حدثنا ابن لهيعة، عن شريح بن هانئ، عن عقبة بن عامر الجهني، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏ "‏‏أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص"‏‏‏.‏

وذكر عن حماد بن زيد أنه كان يفرق بين الإيمان والإسلام، فجعل الإيمان خاصاً والإسلام عاماً، قال‏:‏ فلنا في هؤلاء أسوة وبهم قدوة، مع ما يثبت ذلك من النظر، وذلك أن اللّّه جعل اسم المؤمن اسم ثناء وتزكية ومدحة، أوجب عليه الجنة، فقال‏:‏‏ {‏‏وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً‏ }‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏43- 44‏]‏، وقال‏:‏‏ {‏‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً‏ }‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏47‏]‏، وقال‏:‏‏ {‏‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏ }‏‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏‏ {‏‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم‏ }‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏12‏]‏ وقال‏:‏‏ {‏‏اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ‏ }‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏257‏]‏ وقال‏:‏ ‏ {‏‏وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏ }‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏9‏]‏‏.

‏‏ قال‏:‏ ثم أوجب اللّه النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان زائل عمن أتى كبيرة‏.

‏‏ قالوا‏:‏ ولم نجده أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام له ثابت على حاله، واسم الإيمان زائل عنه‏.‏

فإن قيل لهم في قولهم هذا، ولولاس الإيمان ضد الكفر، قالوا‏:‏ الكفر ضد لأصل الإيمان، لأن للإيمان أصلاً وفروعاً، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر، فإن قيل لهم‏:‏ فالذين زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنهم اسم الإيمان، هل فيهم من الإيمان شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم أصله ثاب، ولولاا ذلك لكفروا، ألم تسمع إلى ابن مسعود أنكر على الذي شهد أنه مؤمن ثم قال‏: ‏لكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يخبرك أنه قد آمن من جهة أنه صدق، وأنه لا يستحق اسم المؤمن إذا كان يعلم أنه مقصر، لأنه لا يستحق هذا الاسم عنده إلا من أدى ما وجب عليه وانتهى عما حرم عليه من الموجبات للنار التي هي الكبائر‏.

‏‏ قالوا‏:‏ فلما أبان اللّه أن هذا الاسم يستحقه من قد استحق الجنة، وأن اللّه قد أوجب الجنة عليه، وعلمنا أنا قد آمنا وصدقنا؛ لأنه لا يخرج من التصديق إلا بالتكذيب، ولسنا بشاكين ولا مكذبين، وعلمنا أنا عاصون له مستوجبون للعذاب وهو ضد الثواب الذي حكم اللّه به للمؤمنين على اسم الإيمان علمنا أنا قد آمنا وأمسكنا عن الاسم الذي أثبت اللّه عليه الحكم في الجنة وهو من اللّه اسم ثناء وتزكية، وقد نهانا اللّه أن نزكي أنفسنا، وأمرنا بالخوف على أنفسنا، وأوجب لنا العذاب بعصياننا، فعلمنا أنا لسنا بمستحقين بأن نتسمى مؤمنين؛ إذ أوجب اللّه على اسم الإيمان الثناء والتزكية والرأفة والرحمة والمغفرة والجنة، وأوجب على الكبائر النار، وهذان حكمان متضادان‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ فكيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان في قلوبكم وهو التصديق بأن اللّه حق، وما قاله صدق‏؟ ‏قالوا‏:‏إن اللّه ورسوله وجماهير المسلمين سموا الأشياء بما غلب عليها من الأسماء، فسموا الزاني فاسقاً، والقاذف فاسقاً وشارب الخمر فاسقاً، ولم يسموا واحداً من هؤلاء متقياً ولا ورعاً، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك، وقد يتقي أن يكفر أو يشرك باللّه شيئا، وكذلك يتقي اللّه أن يترك الغسل من الجنابة أو الصلاة، ويتقي أن يأتي أمه، فهو في جميع ذلك متق، وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنهم لا يسمونه متقياً ولا ورعاً إذا كان يأتي بالفجور، فلما أجمعوا أن أصل التقي والورع ثابت فيه، وأنه قد يزيد فيه فرعاً بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه متقياً ولا ورعاً مع إتيانه بعض الكبائر، بل سموه فاسقاً وفاجراً مع علمهم أنه قد أتى ببعض التقى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقي اسم ثناء وتزكية، وأن اللّه قد أوجب عليه المغفرة والجنة‏.‏

قالوا‏:‏ فلذلك لا نسميه مؤمناً ونسميه فاسقاً زانياً، وإن كان في قلبه أصل اسم الإيمان؛ لأن الإيمان اسم أثنى اللّه به على المؤمنين وزكاهم به وأوجب عليه الجنة، فمن ثم قلنا‏:‏ مسلم، ولم نقل‏:‏ مؤمن، قالوا‏:‏ ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق ألا يكون في قلبه إيمان ولا إسلام، لكان أحق الناس بذلك أهل النار الذين دخلوها، فلما وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن اللّه يقول‏" ‏‏أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏"‏‏، ثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان، ولما وجدنا الأمة تحكم عليه بالأحكام التي ألزمها اللّه للمسلمين ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة، ثبت أنهم مسلمون؛ إذ أجمعوا أن يمضوا عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين؛ إذ كان الإسلام يثبت للملة التي يخرج بها الإنسان من جميع الملل، فتزول عنه أسماء الملل إلا اسم الإسلام، وتثبت أحكام الإسلام عليه، وتزول عنه أحكام جميع الملل‏.‏

فإن قال لهم قائل‏:‏ لِمَ لَمْ تقولوا‏:‏ كافر إن شاء اللّه،تريدون به كمال الكفر، كما قلتم‏:‏ مؤمنون إن شاء اللّه تريدون به كمال الإيمان‏؟‏ قالوا‏:‏ لأن الكافر منكر للحق، والمؤمن أصل إيمانه الإقرار، والإنكار لا أول له ولا آخر فتنتظر به الحقائق، والإيمان أصله التصديق، والإقرار ينتظر به حقائق الأداء لما أقر، والتحقيق لما صدق، ومثل ذلك كمثل رجلين عليهما حق لرجل، فسأل أحدهما حقه، فقال‏:‏ ليس لك عندي حق، فأنكر وجحد فلم يبق له منزلة يحقق بها ما قال إذا جحد وأنكر، وسأل الآخر حقه فقال‏:‏ نعم لك علي كذا وكذا، فليس إقراره بالذي يصل إليه بذلك حقه دون أن يوفيه، فهو منتظر له أن يحقق ما قال بالأداء ويصدق إقراره بالوفاء، ولو أقر ثم لم يؤد إليه حقه كان كمن جحده في المعنى إذ استويا في الترك للأداء، فتحقيق ما قال أن يؤدي إليه حقه، فإن أدى جزءاً منه حقق بعض ما قال ووفى ببعض ما أقر به‏.‏

وكلما أدى جزءاً ازداد تحقيقاً لما أقر به، وعلى المؤمن الأداء أبداً بما أقر به حتى يموت‏.

‏‏ فمن ثم قلنا‏:‏ مؤمن إن شاء اللّه،ولم نقل‏:‏ كافر إن شاء اللّّه‏.

‏‏ قال محمد بن نصر‏:‏ وقالت طائفة أخرى من أصحاب الحديث بمثل مقالة هؤلاء، إلا أنهم سموه مسلماً لخروجه من ملل الكفر ولإقراره بالله وبما قال، ولم يسموه مؤمناً، وزعموا أنهم مع تسميتهم إياه بالإسلام كافر، لا كافر باللّه، ولكن كافر من طريق العمل، وقالوا‏:‏ كفر لا ينقل عن الملة، وقالوا‏:‏محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏‏"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"‏‏ والكفر ضد الإيمان، فلا يزول عنه اسم الإيمان إلا واسم الكفر لازم له؛ لأن الكفر ضد الإيمان، إلا أن الكفر كفران‏:‏ كفر هو جحد باللّه وبما قال فذاك ضده الإقرار باللّه والتصديق به وبما قال، وكفر هو عمل فهو ضد الإيمان الذي هو عمل، ألا ترى إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه‏"‏‏‏.

‏‏قالوا‏:‏ فإذا لم يؤمن فقد كفر، ولا يجوز غير ذلك إلا أنه كفر من جهة العمل؛ إذ لم يؤمن من جهة العمل؛ لأنه لا يضيع ما فرض عليه ويرتكب الكبائر إلا من قلة خوفه، وإنما يقل خوفه من قلة تعظيمه للّه ووعيده، فقد ترك من الإيمان التعظيم الذي صدر عنه الخوف والورع، فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن إذا لم يأمن جاره بوائقه‏.

‏‏ ثم قد روى جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "‏‏سباب المسلم فسوق،وقتاله كفر‏"‏‏،وأنه قال‏ "‏‏إذا قال المسلم لأخيه‏:‏ يا كافر، فلم يكن كذلك باء بالكفر‏"‏‏‏.

‏‏ فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بقتاله أخاه كافراً، وبقوله له‏:‏ يا كافر، كافراً، وهذه الكلمة دون الزنا، والسرقة، وشرب الخمر‏.

‏‏ قالوا‏:‏ فأما قول من احتج علينا فزعم أنا إذا سميناه كافراً لزمنا أن يحكم عليه بحكم الكافرين باللّه، فنستتيبه ونبطل الحدود عنه؛ لأنه إذا كفر فقد زالت عنه أحكام المؤمنين وحدودهم، وفي ذلك إسقاط الحدود وأحكام المؤمنين على كل من أتى كبيرة، فإنا لم نذهب في ذلك إلى حيث ذهبوا ولكنا نقول‏:‏ للإيمان أصل وفرع، وضد الإيمان الكفر في كل معنى، فأصل الإيمان الإقرار والتصديق، وفرعه إكمال العمل بالقلب والبدن، فضد الإقرار والتصديق الذي هو أصل الإيمان‏:‏ الكفر باللّه وبما قال، وترك التصديق به وله، وضد الإيمان الذي هو عمل، وليس هو إقرار، كفر ليس بكفر باللّه ينقل عن الملة، ولكن كفر تضييع العمل، كما كان العمل إيماناً، وليس هو الإيمان الذي هو إقرار باللّه، فلما كان من ترك الإيمان الذي هو إقرار باللّه كافراً، يستتاب، ومن ترك الإيمان الذي هو عمل مثل الزكاة والحج والصوم، أو ترك الورع عن شرب الخمر والزنا، قد زال عنه بعض الإيمان، ولا يجب أن يستتاب عندنا ولا عند من خالفنا من أهل السنة وأهل البدع ممن قال‏:‏ إن الإيمان تصديق وعمل، إلا الخوارج وحدها، فكذلك لا يجب بقولنا‏:‏ كافر من جهة تضييع العمل أن يستتاب، ولا تزول عنه الحدود، كما لم يكن بزوال الإيمان الذي هو عمل استتابة، ولا إزالة الحدود والأحكام عنه؛ إذ لم يزل أصل الإيمان عنه فكذلك لا يجب علينا استتابته وإزالة الحدود والأحكام عنه بإثباتنا له اسم الكفر من قبل العمل؛ إذ لم يأت بأصل الكفر الذي هو جحد باللّه أو بما قال‏.

‏‏ قالوا‏:‏ ولما كان العلم باللّه إيماناً، والجهل به كفراً، وكان العمل بالفرائض إيماناً، والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر؛ لأن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد أقروا باللّه أول ما بعث اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك، فلم يكن جهلهم بذلك كفراً، ثم أنزل اللّه عليهم الفرائض، فكان إقرارهم بها والقيام بها إيماناً، وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر اللّه، ولو لم يأت خبر من اللّه، ما كان بجهلها كافراً، وبعد مجيء الخبر، من لم يسمع بالخبر من المسلمين، لم يكن بجهلها كافراً، والجهل باللّه في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر‏.‏

قالوا‏:‏ فمن ثم قلنا‏:‏ إن ترك التصديق باللّه كفر، وإن ترك الفرائض مع تصديق اللّه أنه قد أوجبها كفر، ليس بكفر باللّه، إنما هو كفر من جهة ترك الحق كما يقول القائل‏:‏ كفرتني حقي ونعمتي، يريد‏: ‏ضيعت حقي وضيعت شكر نعمتي، قالوا‏:‏ ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً دون أصله، لا ينقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما أثبتوا للإيمان من جهة العمل فروعاً للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام، من ذلك قول ابن عباس في قوله‏:‏ ‏ {‏‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏ قال محمد بن نصر‏:‏ حدثنا ابن يحيى، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام يعني ابن عروة عن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس‏:‏ ‏ {‏‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏ }‏‏ ليس بالكفر الذي يذهبون إليه‏.‏

حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق،أنبأنا معمر،عن ابن طاوس،عن أبيه قال‏:‏سئل ابن عباس عن قول‏:‏‏{‏‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏‏قال‏:‏هي به كفر،قال ابن طاوس‏:‏وليس كمن كفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله‏.‏} حدثنا إسحاق، أنبأنا وكيع عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبه أنبأنا وكيع، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال‏:‏ قلت لابن عباس: ‏{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏ }‏‏ فهو كافر‏.‏

قال‏:‏هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله‏.

‏‏ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن سفيان،عن رجل،عن طاوس،عن ابن عباس قال‏:‏ كفر لا ينقل عن الملة‏.

‏‏ حدثنا إسحاق، أنبأنا وكيع، عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس قال‏:‏ ليس بكفر ينقل عن الملة‏.‏

حدثنا إسحاق، أنبأنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال‏:‏ كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق‏.‏

قال محمد بن نصر‏:‏ قالوا‏:‏ وقد صدق عطاء، قد يسمي الكافر ظالماً ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام، وظلم لا ينقل قال اللّه تعالى‏:‏ ‏ {‏‏‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ٍ‏ }‏‏‏[‏الأنعام‏:‏82‏]‏،وقال‏:‏‏ {‏‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏ }‏‏ ‏[‏لقمان‏:‏13‏]‏، وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏ {‏‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏ }‏‏، شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏ "‏‏ أينا لم يظلم نفسه ‏؟‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏: ‏‏ليس بذلك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏:‏‏ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏ إنما هو الشرك‏".

‏‏ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الحجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه، فدخل ذات يوم فقرأ، فأتى على هذه الآية‏:‏‏ {‏‏‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏ }‏‏ إلى آخر الآية، فانتعل وأخذ رداءه، ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال‏:‏ يا أبا المنذر، أتيت قبل على هذه الآية‏:‏‏ {‏‏‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏ }‏‏ وقد نرى أنا نظلم ونفعل‏.

‏‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس بذلك، يقول اللّه‏:‏ ‏ {‏‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏ }‏‏ إنما ذلك الشرك‏.

‏‏ قال محمد بن نصر‏:‏ وكذلك الفسق فسقان‏:‏ فسق ينقل عن الملة، وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقاً، والفاسق من المسلمين فاسقا، ذكر اللّه إبليس فقال‏:‏ ‏ {‏‏‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏ }‏‏ ‏[‏الكهف‏:‏50‏]‏، وكان ذلك الفسق منه كفراً، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏ {‏‏وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ‏} ‏ يريد الكفار، دل على ذلك قوله‏:‏ ‏ {‏‏كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏ }‏‏ ‏[‏السجدة‏:‏20‏]‏، وسمى الفاسق من المسلمين فاسقاً ولم يخرجه من الإسلام، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏ {‏‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏ }‏‏ ‏[‏النور‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏ {‏‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ‏ }‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏197‏]‏ فقالت العلماء في تفسير الفسوق هاهنا‏:‏ هي المعاصي‏.

‏‏ قالوا‏:‏ فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين، كذلك الكفر كفران‏:‏

أحدهما ينقل عن الملة، والآخر لا ينقل عن الملة، وكذلك الشرك ‏[‏شركان‏]‏‏:‏ شرك في التوحيد ينقل عن الملة، وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء، قال تعالى‏:‏‏ {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً‏}‏‏‏[‏الكهف‏:‏110‏]‏ يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏‏"الطيرة شرك‏"‏‏‏.‏

قال محمد بن نصر‏:‏ فهذان مذهبان هما في الجملة، محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث، حكى الشالنجي إسماعيل بن سعيد‏:‏ أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده،إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام، هل يكون مصراً من كانت هذه حاله‏؟‏ قال‏:‏ هو مصر، مثل قوله "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"‏‏ يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله ‏‏"لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن‏"،، ومن نحو قول ابن عباس في قوله‏:‏ ‏ {‏‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏ }‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏، فقلت له‏:‏ ما هذا الكفر‏؟‏ فقال‏:‏ كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، وكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه‏.

‏‏ وقال ابن أبي شيبة "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"‏‏‏‏ لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه، قال‏:‏ وسألت أحمد ابن حنبل عن الإسلام والإيمان، فقال‏:‏ الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال‏:‏ وبه قال أبو خيثمة، وقال ابن أبي شيبة‏:‏لا يكون الإسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم تمام الكلام بتلازمهما وإن كان مسمى أحدهما ليس هو مسمى الآخر، وقد حكي غير واحد إجماع أهل السنة والحديث على أن الإيمان قول وعمل‏.‏ قال أبو عمر ابن عبد البر في ‏[‏التمهيد‏]‏‏:‏ أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعة لا تسمى إيماناً، قالوا‏:‏إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد المعرفة وذكر ما احتجوا به‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم ، مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، والطبري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا‏:‏ الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة‏.‏قالوا‏:‏ وكل ما يطاع اللّه عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر‏.‏

ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏ "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"‏‏ الحديث، يريد‏:‏ مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر، إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام، من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال، واحتج على ذلك، ثم قال‏:‏ وأكثر أصحاب مالك على أن الإيمان والإسلام شيء واحد‏.

‏‏ قال‏:‏ وأما قول المعتزلة، فالإيمان عندهم جماع الطاعات، ومن قصر منها عن شيء فهو فاسق، لا مؤمن ولا كافر، وهؤلاء هم المتحققون بالاعتزال أصحاب المنزلة بين المنزلتين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وعليه جماعة أهل الآثار، والفقهاء من أهل الفتيا في الأمصار‏.‏ وروى ابن القاسم عن مالك‏:‏ أن الإيمان يزيد وتوقف في نقصانه‏.‏

وروي عنه عبد الرزاق، ومعن بن عيسى، وابن نافع‏:‏ أنه يزيد وينقص، وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث، والحمد للّه‏.

‏‏ ثم ذكر حجج المرجئة، ثم حجج أهل السنة، ورد على الخوارج التكفير بالحدود المذكورة للعصاة في الزنا والسرقة، ونحو ذلك، وبالموارثة وبحديث عبادة "من أصاب من ذلك شيئا، أيعوقب به في الدنيا فهو كفارة‏"‏‏، وقال‏:‏ الإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس ناقص الإيمان ككامل الإيمان‏.

‏‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏ {‏‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏ }‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]، أيي حقاً.

‏ولذلك قال‏:‏‏ {‏‏هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً‏ }‏‏‏[‏الأنفال‏:‏4‏]‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏ "المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏"‏‏ يعني‏:‏ حقاً ومن هذا قوله "أكمل المؤمنين إيماناً‏"‏‏‏.‏

ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص‏.

‏‏ وقوله "‏‏أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه والبغض في اللّه"‏‏، وقوله‏ ‏‏"لا إيمان لمن لا أمانة له‏"‏‏ يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض، وذكر الحديث الذي رواه الترمذي وغيره‏ "‏‏من أحب للّه وأبغض للّه‏"‏‏ الحديث‏.

‏‏ وكذلك ذكر أبو عمرو الطلمنكي إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية وإصابة السنة‏.

‏‏ وقال أبو طالب المكي‏:‏ مباني الإسلام الخمسة؛ يعني‏:‏ الشهادتين، والصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج‏.‏

قال‏:‏ وأركان الإيمان سبعة؛ يعني الخمسة المذكورة في حديث جبرائيل، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وكلاهما قد رويت في حديث جبريل،كما سنذكر إن شاء اللّه تعالى‏.

‏‏ قال‏:‏ والإيمان بأسماء اللّه تعالى وصفاته، والإيمان بكتب اللّه وأنبيائه، والإيمان بالملائكة والشياطين، يعني واللّه أعلم‏:‏الإيمان بالفرق بينهما، فإن من الناس من يجعلهما جنساً واحداً، لكن تختلف باختلاف الأعمال، كما يختلف الإنسان البر والفاجر، والإيمان بالجنة والنار، وأنهما قد خلقتا قبل آدم‏.

‏‏ والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بجميع أقدار اللّه خيرها وشرها وحلوها ومرها، أنها من اللّه قضاء وقدراً ومشيئة وحكما، وأن ذلك عدل منه وحكمة بالغة، استأثر بعلم غيبها ومعنى حقائقها‏.‏

قال‏:‏ وقد قال قائلون‏:‏ إن الإيمان هو الإسلام، وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات، وهذا يقرب من مذهب المرجئة‏.

‏‏ وقال آخرون‏:‏ إن الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير، وهذا قريب من قول الأباضية، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين أحدهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشترط اللّه للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك‏:‏ ‏ {‏‏فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ‏ }‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏94‏]‏، وقال في تحقيق الإيمان بالعمل‏:‏ ‏ {‏‏‏وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى }‏‏ ‏[‏طه‏:‏75‏]‏، فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمناً بالغيب مما أخبرت به الرسل عن اللّه عاملاً بما أمر اللّه، فهو مؤمن مسلم، ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز ألاّ يسمى مسلما، ولجاز أن المسلم لا يسمى مؤمناً باللّه‏.

‏‏ وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن باللّه وملائكته وكتبه، قال‏:‏ ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى منفصلان، ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة، لا يقال‏:‏ حبتان لتفاوت صفتهما‏.

‏‏ فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب‏.‏

وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏" ‏‏الإسلام علانية، والإيمان في القلب‏"‏‏ وفي لفظ‏ "الإيمان سر‏"‏‏ فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد‏.

‏‏ ومثل ذلك مثل العمل الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات‏"‏‏ أي‏:‏ لا عمل إلا بعقد وقصد؛ لأن ‏[‏إنما‏]‏ تحقيق للشيء ونفي لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات، وعمل القلوب من النيات، فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان لا يصح الكلام إلا بهما؛ لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان؛ ولذلك حين عدد اللّه نعمه على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله‏:‏‏ {‏‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ‏ }‏‏ ‏[‏البلد‏:‏8،9‏]‏ بمعنى‏:‏ألم نجعله ناظراً متكلما، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له وذكر الشفتين؛لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما‏.

‏‏ ومثل الإيمان والإسلام أيضاً كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلا به‏.‏

فقد احتاج الفسطاط إليها، إذ لا قوام له ولا قوة إلا بهما، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح لا قوام له إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلا بالإسلام، وهو صالح الأعمال‏.

‏‏ وأيضاً، فإن اللّه قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحداً، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعني ما كان ضدهما واحداً فقال‏:‏ ‏ {‏‏كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ‏ }‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86‏]‏، وقال‏:‏‏ {‏‏أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏ }‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏80‏]‏ فجعلَ ضدهما الكفر‏.

‏‏ قال‏:‏ وعلى مثل هذا أخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام من صنف واحد، فقال في حديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس‏"‏‏،وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان،لا ينفع أحدهما بدون صاحبه‏.‏

قال‏:‏ فأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام، فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني، التي وصفناها أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد، ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، قال‏:‏ ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه‏.

‏‏ قال‏:‏ وأيضاً، فإن الأمة مجتمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل من وصف الإيمان ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام أنه لا يسمى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة‏.

‏‏ قلت‏:‏ كأنه أراد بذلك إجماع الصحابة ومن اتبعهم، أو أنه لا يسمى مؤمناً في الأحكام، وأنه لا يكون مسلماً إذا أنكر بعض هذه الأركان، أو علم أن الرسول أخبر بها ولم يصدقه، أو أنه لم ير خلاف أهل الأهواء خلافاً،وإلا فأبو طالب كان عارفا بأقوالهم، وهذا واللّه أعلم مراده، فإنه عقد ‏[‏الفصل الثالث والثلاثين‏]‏ في بيان تفصيل الإسلام والإيمان، وشرح عقود معاملة القلب من مذهب أهل الجماعة، وهذا الذي قاله أجود مما قاله كثير من الناس، لكن ينازع في شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون معه الإيمان الواجب المفصل المذكور في حديث جبريل‏.

‏‏ والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يطلق مؤمناً دون مسلم،في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏أو مسلم‏" لكونه ليس من خواص المؤمنين وأفاضلهم، كأنه يقول‏:‏ لكونه ليس من السابقين المقربين، بل من المقتصدين الأبرار، فهذان مما تنازع فيهما جمهور العلماء، ويقولون‏:‏ لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل "أو مسلم‏"‏‏ لكونه لم يكن من خواص المؤمنين وأفاضلهم كالسابقين المقربين، فإن هذا لو كان كذلك لكان ينفي الإيمان المطلق عن الأبرار المقتصدين المتقين،الموعودين بالجنة بلا عذاب إذا كانوا من أصحاب اليمين، ولم يكونوا من السابقين والمقربين، وليس الأمر كذلك، بل كل من أصحاب اليمين مع السابقين المقربين،كلهم مؤمنون موعودون بالجنة بلا عذاب،وكل من كان كذلك فهو مؤمن باتفاق المسلمين من أهل السنة وأهل البدع،ولو جاز أن ينفي الإيمان عن شخص لكون غيره أفضل منه إيماناً نفى الإيمان عن أكثر أولياء اللّه المتقين،بل وعن كثير من الأنبياء،وهذا في غاية الفساد،وهذا من جنس قول من يقول‏:‏ نفى الاسم لنفي كماله المستحب‏.

‏‏ وقد ذكرنا أن مثل هذا لا يوجد في كلام اللّه ورسوله، بل هذا الحديث خص من قيل فيه‏:‏ مسلم وليس بمؤمن، فلابد أن يكون ناقصاً عن درجة الأبرار المقتصدين أهل الجنة، ويكون إيمانه ناقصاً عن إيمان هؤلاء كلهم، فلا يكون قد أتى بالإيمان الذي أمر به هؤلاء كله، ثم إن كان قادراً على ذلك الإيمان وترك الواجب، كان مستحقاً للذم، وإن قدر أنه لا يقدر على ذلك الإيمان الذي اتصف به هؤلاء، كان عاجزاً عن مثل إيمانهم، ولا يكون هذا وجب عليه، فهو وإن دخل الجنة لا يكون كمن قدر أنه آمن إيماناً مجملاً، ومات قبل أن يعلم تفصيل الإيمان وقبل أن يتحقق به ويعمل بشيء منه، فهو يدخل الجنة، لكن لا يكون مثل أولئك‏.

‏‏ لكن قد يقال‏:‏ الأبرار أهل اليمين هم أيضاً على درجات، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "‏‏المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير‏"‏‏ وقد قال الله تعالى‏:‏‏ {‏‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ‏ }‏‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏95‏]‏، فدرجة المؤمن القوي في الجنة أعلى، وإن كان كل منهما كمل ما وجب عليه، وقد يريد أبو طالب وغيره بقولهم‏:‏ ليس هذا من خواص المؤمنين هذا المعنى؛ أي‏:‏ ليس إيمانه كإيمان من حقق خاصة الإيمان، سواء كان من الأبرار أو من المقربين، وإن لم يكن ترك واجباً لعجزه عنه، أو لكونه لم يؤمر به، فلا يكون مذموماً، ولا يمدح مدح أولئك، ولا يلزم أن يكون من أولئك المقربين‏.

‏‏ فيقال‏:‏ وهذا أيضاً لا ينفي عنه الإيمان، فيقال‏:‏ هو مسلم لا مؤمن، كما يقال‏:‏ ليس بعالم ولا مفت، ولا من أهل الاجتهاد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏‏"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"‏‏‏.‏

وهذا كثير، فليس كل ما فضل به الفاضل يكون مقدوراً لمن دونه، فكذلك من حقائق الإيمان ما لا يقدر عليه كثير من الناس، بل ولا أكثرهم، فهؤلاء يدخلون الجنة، وإن لم يكونوا ممن تحققوا بحقائق الإيمان التي فضل اللّه بها غيرهم، ولا تركوا واجباً عليهم وإن كان واجباً على غيرهم؛ ولهذا كان من الإيمان ما هو من المواهب والفضل من اللّه فإنه من جنس العلم، والإسلام الظاهر من جنس العمل، وقد قال تعالى‏:‏ ‏ {‏‏‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏ }‏‏ ‏[‏محمد‏:‏17‏]‏، وقال‏:‏ ‏ {‏‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى‏ }‏‏ ‏[‏مريم‏:‏76‏]‏، وقال‏:‏ ‏ {‏‏هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏ }‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏4‏]‏‏.‏

ومثل هذه السكينة قد لا تكون مقدورة، ولكن اللّه يجعل ذلك في قلبه، فضلاً منه وجزاء على عمل سابق، كما قال‏:‏ ‏ {‏‏‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً‏ }‏‏ ‏[‏النساء‏:‏66‏- 68‏]‏، كما قال‏:‏ ‏ {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏ }‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏28‏]‏، وكما قال‏:‏‏ {‏‏‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏ }‏‏ ‏[‏المجادلة‏:‏22‏]‏؛ ولهذا قيل‏:‏ من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم، وهذا الجنس غير مقدور للعباد، وإن كان ما يقدرون عليه من الأعمال الظاهرة والباطنة هو أيضاً بفضل اللّه وإعانته وإقداره لهم، لكن الأمور قسمان‏:‏ منه ما جنسه مقدور لهم لإعانة اللّه لهم، كالقيام والقعود، ومنه ما جنسه غير مقدور لهم، إذا قيل‏:‏ إن اللّه يعطي من أطاعه قوة في قلبه وبدنه يكون بها قادراً على ما لا يقدر عليه غيره، فهذا أيضاً حق وهو من جنس هذا المعنى، قال تعالى‏:‏‏ {‏‏‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ‏ }‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏ {‏‏‏إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ‏ }‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏45‏]‏، فأمرهم بالثبات وهذا الثبات، يوحى إلى الملائكة أنهم يفعلونه بالمؤمنين‏.

‏‏ والمقصود أنه قد يكون من الإيمان ما يؤمر به بعض الناس ويذم على تركه، ولا يذم عليه بعض الناس ممن لا يقدر عليه، ويفضل اللّه ذاك بهذا الإيمان، وإن لم يكن المفضول ترك واجباً، فيقال‏:‏ وكذلك في الأعمال الظاهرة يؤمر القادر على الفعل بما لا يؤمر به العاجز عنه، ويؤمر بعض الناس بما لا يؤمر به غيره، لكن الأعمال الظاهرة قد يعطي الإنسان مثل أجر العامل إذا كان يؤمن بها ويريدها جهده، ولكن بدنه عاجز كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "‏‏إن بالمدينة لرجالاً ما سِرْتُم مَسِيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم‏‏ قالو‏:‏ وهم بالمدينة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏وهم بالمدينة حبسهم العذر‏"‏‏، وكما قال تعالي‏:‏ ‏ {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً‏ }‏‏ ‏[‏ النساء‏:‏95 ‏]‏ فاستثنى أولى الضرر‏.

‏‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا‏"‏‏‏.

‏وفي حديث أبي كَبْشَة الأنماري "هما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء‏"‏‏، رواه الترمذي وصححه ولفظه‏ "إنما الدنيا لأربعة‏:‏ رجل آتاه اللّه علماً ومالاً فهو يتقي في ذلك المال ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم للّه فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه اللّه علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول‏:‏ لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه اللّه مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم للّه فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه اللّه مالاً ولا علماً فهو يقول‏:‏ لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء‏"‏‏‏.

‏‏ ولفظ ابن ماجه "مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر‏:‏ رجل آتاه اللّه مالا وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه اللّه علماً ولم يؤته مالا فهو يقول‏:‏لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل‏"‏‏‏.

‏قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه اللّه مالاً ولم يؤته علماً،فهو يتخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته علماً ولا مالا وهو يقول‏:‏ لو كان لي مثل مال هذا عملت مثل الذي يعمل، فهما في الوزر سواء"‏‏‏.

‏‏ كالشخصين إذا تماثلا في إيمان القلوب معرفة وتصديقاً، وحباً وقوة وحالاً ومقاماً، فقد يتماثلان، وإن كان لأحدهما من أعمال البدن ما يعجز عنه بدن الآخر، كما جاء في الأثر‏:‏ ‏(‏إن المؤمن قوته في قلبه، وضعفه في جسمه، والمنافق قوته في جسمه، وضعفه في قلبه‏)‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏ "‏‏ليس الشديد ذو الصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب‏"‏‏، وقد قال "رأيت كأني أنزع على قَلِيبٍ، فأخذها ابن أبي قُحَافة، فنزع ذَنُوباً أو ذنوبين، وفي نَزْعِه ضعف، واللّه يغفر له، فأخذها ابن الخطاب فاستحالت في يده غَرْباً، فلم أر عبقرياً يَفْري فَرْيَه، حتى صَدَرَ الناس بعطن‏"،، فذكر أن أبا بكر أضعف، وسواء أراد قصر مدته أو أراد ضعفه عن مثل قوة عمر، فلا ريب أن أبا بكر أقوى إيماناً من عمر، وعمر أقوي عملاً منه، كما قال ابن مسعود‏:‏ ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر‏.‏

وقوة الإيمان أقوى وأكمل من قوة العمل، وصاحب الإيمان يكتب له أجر عمل غيره، وما فعله عمر في سيرته مكتوب مثله لأبي بكر فإنه هو الذي استخلفه‏.

‏‏ وفي المسند من وجهين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي وزن بالأمة فرجح، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، وكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موته يحصل لعمر بسبب أبي بكر من الإيمان والعلم ما لم يكن عنده، فهو قد دعاه إلى ما فعله من خير وأعانه عليه بجهده، والمعين على الفعل إذا كان يريده إرادة جازمة كان كفاعله، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من جَهَّز غازياً فقد غزاً، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏"،، وقال "من دل على خير فله مثل أجر فاعله‏"‏‏، وقال‏ ‏‏"من فطر صائماً فله مثل أجره‏"‏‏‏.

‏‏ وقد روى الترمذي "من عزى مصاباً فله مثل أجره‏"‏‏ وهذا وغيره مما يبين أن الشخصين قد يتماثلان في الأعمال الظاهرة، بل يتفاضلان ويكون المفضول فيها أفضل عند اللّه من الآخر؛ لأنه أفضل في الإيمان الذي في القلب، وأما إذا تفاضلا في إيمان القلوب فلا يكون المفضول فيها أفضل عند اللّه البتة، وإن كان المفضول لم يهبه اللّه من الإيمان ما وهبه للفاضل، ولا أعطى قلبه من الأسباب التي بها ينال ذلك الإيمان الفاضل ما أعطى المفضول؛ ولهذا فضل اللّه بعض النبيين على بعض، وإن كان الفاضل أقل عملاً من المفضول، كما فضل اللّه نبينا صلى الله عليه وسلم ومدة نبوته بضع وعشرون سنة على نوح وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفضل أمة محمد، وقد عملوا من صلاة العصر إلى المغرب، على من عمل من أول النهار إلى صلاة الظهر، وعلى من عمل من صلاة الظهر إلى العصر، فأعطى اللّه أمة محمد أجرين، وأعطى كلا من أولئك أجراً أجراً؛ لأن الإيمان الذي في قلوبهم كان أكمل وأفضل، وكان أولئك أكثر عملاً، وهؤلاء أعظم أجراً، وهو فضله يؤتيه من يشاء بالأسباب التي تفضل بها عليهم وخصهم بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.