فصلٌ فيما إذا قرن الإسلام بالإيمان

منذ 2007-01-12
السؤال: فصلٌ فيما إذا قرن الإسلام بالإيمان
الإجابة: فَصْــل:

وأما إذا قُيِّدَ الإيمان، فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس، وهل يراد به أيضاً المعطوف عليه، ويكون من باب عطف الخاص على العام، أو لا يكون حين الاقتران داخلاً في مسماه‏؟‏ بل يكون لازماً له، على مذهب أهل السنة، أو لا يكون بعضاً ولا لازماً، هذا فيه ثلاثة أقوال للناس، كما سيأتي إن شاء اللّه، وهذا موجود في عامة الأسماء يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد، مثال ذلك اسم المعروف والمنكر إذا أطلق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏110‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏71‏]‏، يدخل في المعروف كل خير، وفي المنكر كل شر‏.

‏‏ ثم قد يقرن بما هو أخص منه كقوله‏:‏ ‏{‏‏لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏114‏]‏،فغاير بين المعروف وبين الصدقة والإصلاح بين الناس كما غاير بين اسم الإيمان والعمل، واسم الإيمان والإسلام وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء‏}‏‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏45‏]‏، غاير بينهما وقد دخلت الفحشاء في المنكر في قوله‏:‏ ‏{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‏}‏‏ ثم ذكر مع المنكر اثنين في قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏90‏]‏، جعل البغي هنا مغايراً لهما، وقد دخل في المنكر في ذينك الموضعين‏.‏

ومن هذا الباب لفظ ‏[‏العبادة‏]‏ فإذا أمر بعبادة اللّه مطلقاً دخل في عبادته كل ما أمر اللّه به، فالتوكل عليه مما أمر به والاستعانة به مما أمر به، فيدخل ذلك في مثل قوله‏:‏‏{‏‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏‏وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏36‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏21‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏2‏]‏،‏{‏‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏64‏]‏ ثم قد يقرن بها اسم آخر، كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقول نوح‏:‏‏{‏‏اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ‏}‏‏ ‏[‏نوح‏:‏3‏]‏، وكذلك إذا أفرد اسم ‏[‏طاعة اللّه‏]‏ دخل في طاعته كل ما أمر به وكانت طاعة الرسول داخلة في طاعته، وكذا اسم ‏[‏التقوى‏]‏ إذا أفرد دخل فيه فعل كل مأمور به وترك كل محظور، قال طَلْقُ بن حبيب‏:‏ التقوى‏:‏ أن تعمل بطاعة اللّه على نور من اللّه، ترجو رحمة اللّه، وأن تترك معصية اللّه على نور من اللّه، تخاف عذاب اللّه، وهذا كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ‏}‏‏ ‏[‏القمر‏:‏54- 55‏]‏‏.‏

وقد يقرن بها اسم آخر، كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2- 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏1‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏70‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏119‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏102‏]‏، وأمثال ذلك‏.

‏‏ فقوله‏:‏‏{‏‏اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً‏}‏‏‏[‏الأحزاب‏:‏70‏]‏، مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فعطف قولهم على الإيمان، كما عطف القول السديد على التقوى، ومعلوم أن التقوى إذا أطلقت دخل فيها القول السديد، وكذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه السمع والطاعة للّه وللرسول، وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏، وإذا أطلق الإيمان باللّه في حق أمة محمد دخل فيه الإيمان بالرسول، وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏‏، وإذا أطلق الإيمان باللّه دخل فيه الإيمان بهذه التوابع، وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏136‏]‏‏.

‏‏ وإذا قيل‏:‏‏{‏‏فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ‏}‏‏‏[‏الأعراف‏:‏185‏]‏،دخل في الإيمان برسوله الإيمان بجميع الكتب والرسل والنبيين، وكذلك إذا قيل‏:‏‏{‏‏وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏28‏]‏، وإذا قيل‏:‏ ‏{‏‏آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏7‏]‏، دخل في الإيمان باللّه ورسوله الإيمان بذلك كله، والإنفاق يدخل في قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏‏آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏ كما يدخل القول السديد في مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏131‏]‏‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏البر‏]‏ إذا أطلق تناول جميع ما أمر اللّه به كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏13- 14‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏189‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، فالبر إذا أطلق كان مسماه مسمى التقوى، والتقوى إذا أطلقت كان مسماها مسمى البر، ثم قد يجمع بينهما كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏2‏]‏‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏الإثم‏]‏ إذا أطلق دخل فيه كل ذنب، وقد يقرن بالعدوان، كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏2‏]‏، وكذلك لفظ ‏[‏الذنوب‏]‏ إذا أطلق دخل فيه ترك كل واجب وفعل كل محرم، كما في قوله‏:‏‏{‏‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، ثم قد يقرن بغيره كما في قوله‏{‏‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏147‏]‏، وكذلك لفظ ‏[‏الهدى‏]‏ إذا أطلق تناول العلم الذي بعث اللّه به رسوله والعمل به جميعاً، فيدخل فيه كل ما أمر اللّه به، كما في قوله‏:‏‏{‏‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6‏]‏،والمراد طلب العلم بالحق والعمل به جميعاً،وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏2‏]‏، والمراد به أنهم يعلمون ما فيه ويعملون به؛ولهذا صاروا مفلحين، وكذلك قول أهل الجنة‏:‏ ‏{‏‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏43‏]‏، وإنما هداهم؛ بأن ألهمهم العلم النافع، والعمل الصالح‏.

‏‏ ثم قد يقرن الهدى إما بالاجتباء كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 87‏]‏، وكما في قوله‏:‏ {شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏121‏]‏، ‏{‏‏اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ‏}‏‏ ‏[‏الشورى‏:‏13‏]‏، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ‏}‏‏ ‏[‏الصف‏:‏9‏]‏، والهدى هنا هو الإيمان ودين الحق هو الإسلام، وإذا أطلق الهدى كان كالإيمان المطلق يدخل فيه هذا وهذا‏.

‏‏ ولفظ ‏[‏الضلال‏]‏ إذا أطلق تناول من ضل عن الهدى، سواء كان عمداً أو جهلاً، ولزم أن يكون معذباً كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏‏ ‏[‏الصافات‏:‏69-70‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏67- 68‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏123‏]‏ ثم قد يقرن بالغي والغضب، كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏2‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏‏غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ‏}‏‏ ‏[‏القمر‏:‏47‏]‏‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏الغي‏]‏ إذا أطلق تناول كل معصية للّه كما في قوله عن الشيطان‏:‏ ‏{‏‏وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏‏ ‏[‏الحجر‏:‏39- 40‏]‏، وقد يقرن بالضلال كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏‏ وكذلك اسم ‏[‏الفقير‏]‏ إذا أطلق دخل فيه المسكين، وإذا أطلق لفظ ‏[‏المسكين‏]‏ تناول الفقير، وإذا قرن بينهما فأحدهما غير الآخر، فالأول كقوله‏:‏‏{‏‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏271‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏، والثاني كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏60‏]‏ وهذه الأسماء التي تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران، تارة يكونان إذا أفرد أحدهما أعم من الآخر، كاسم ‏[‏الإيمان‏]‏ و‏[‏المعروف‏]‏ مع العمل ومع الصدق، وكـ ‏[‏المنكر‏]‏ مع الفحشاء ومع البغي ونحو ذلك‏.‏ وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص، كلفظ ‏[‏الإيمان‏]‏، و‏[‏البر‏]‏، و‏[‏التقوى‏]‏، ولفظ‏[‏الفقير‏]‏، و‏[‏المسكين‏]‏‏.‏ فأيها أطلق تناول ما يتناوله الآخر، وكذلك لفظ ‏[‏التلاوة‏]‏، فإنها إذا أطلقت في مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏121‏]‏، تناولت العمل به كما فسره بذلك الصحابة والتابعون مثل ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم، قالوا‏:‏ ‏{‏‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏‏ يتبعونه حق إتباعه، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، وقيل‏:‏ هو من التلاوة بمعنى الإتباع، كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا‏}‏‏ ‏[‏الشمس‏:‏2‏]‏، وهذا يدخل فيه من لم يقرأه، بل من تمام قراءته أن يفهم معناه ويعمل به، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن‏:‏ عثمان ابن عفان، وعبد اللّه بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تَعَلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً‏.

‏‏ وقوله‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏121‏]‏ قد فسر بالقرآن وفسر بالتوراة، وروى محمد بن نصر بإسناده الثابت عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏‏ قال‏:‏ يتبعونه حق إتباعه‏.‏

وروي أيضاً عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏‏ قال‏:‏ يحلون حلاله، ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه، وعن قتادة‏:‏ ‏{‏‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏‏ قال‏:‏ أولئك أصحاب محمد آمنوا بكتاب اللّه وصدقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول‏:‏ إن حق تلاوته‏:‏ أن يحل حلاله ويحرم حرامه، وأن نقرأه كما أنزل اللّه، ولا نحرفه عن مواضعه، وعن الحسن‏:‏ ‏{‏‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏‏ قال‏:‏ يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويَكِلُون ما أشكل عليهم إلى عالمه، وعن مجاهد‏:‏ يتبعونه حق إتباعه، وفي رواية‏:‏ يعملون به حق عمله‏.

‏‏ ثم قد يقرن بالتلاوة غيرها كقوله‏:‏ ‏{‏‏اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‏}‏‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏45 ‏]‏‏.

‏‏ قال أحمد بن حنبل وغيره‏:‏ تلاوة الكتاب‏:‏ العمل بطاعة اللّه كلها، ثم خص الصلاة بالذكر، كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ‏}‏‏‏[‏الأعراف‏:‏170‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏‏.

‏‏ وكذلك لفظ ‏(‏إتباع ما أنزل اللّه‏)‏ يتناول جميع الطاعات كقوله‏:‏ {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏‏‏[‏الأعراف‏:‏3‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏‏فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏153‏]‏، وقد يقرن به غيره كقوله‏{‏‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏155‏]‏، وقوله‏:‏ ‏ {‏‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏106‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏يونس‏:‏109‏]‏‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏الأبرار‏]‏ إذا أطلق دخل فيه كل تقي من السابقين والمقتصدين، وإذا قرن بالمقربين كان أخص، قال تعالى في الأول‏:‏‏{‏‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏}‏‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏13- 14‏]‏، وقال في الثاني‏:‏ ‏{‏‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏‏‏[‏المطففين‏:‏18‏- 22‏]‏، وهذا باب واسع يطول استقصاؤه‏.

‏‏ ومن أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقاً وخصوصاً ألفاظُ الكتاب والسنة، وبه تزول شبهات كثيرة كثر فيها نزاع الناس، من جملتها ‏[‏مسألة الإيمان والإسلام‏]‏، فإن النزاع في مسماهما أول اختلاف وقع، افترقت الأمة لأجله وصاروا مختلفين في الكتاب والسنة، وكَفَّر بعضهم بعضاً، وقاتل بعضهم بعضاً كما قد بسطنا هذا في مواضع أخرإذ المقصود هنا بيان شرح كلام اللّه ورسوله على وجه يبين أن الهدى كله مأخوذ من كلام اللّه ورسوله بإقامة الدلائل الدالة، لا بذكر الأقوال التي تقبل بلا دليل وترد بلا دليل، أو يكون المقصود بها نصر غير اللّه والرسول، فإن الواجب أن يقصد معرفة ما جاء به الرسول وأتباعه بالأدلة الدالة على ما بينه اللّه ورسوله‏.

‏‏ ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في ‏[‏تفسير الإيمان‏]‏، فتارة يقولون‏:‏ هو قول وعمل‏.‏

وتارة يقولون‏:‏ هو قول وعمل ونية‏.

‏‏ وتارة يقولون قول وعمل ونية وإتباع السنة‏.

‏‏ وتارة يقولون‏:‏ قول باللسان، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح‏.‏ فإذا قالوا‏:‏ قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق‏.

‏‏ والناس لهم في مسمى ‏[‏الكلام‏]‏ و‏[‏القول‏]‏عند الإطلاق أربعة أقوال، فالذي عليه السلف والفقهاء والجمهور أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن جميعاً‏.

‏‏ وقيل‏:‏ بل مسماه هو اللفظ، المعنى ليس جزء مُسَمَّاه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وطائفة من المنتسبين إلى السنة، وهو قول النحاة؛ لأن صناعتهم متعلقة بالألفاظ‏.

‏‏ وقيل‏:‏ بل مسماه هو المعنى وإطلاق الكلام على اللفظ مجاز لأنه دال عليه، وهذا قول ابن كُلاَّب ومن اتبعه، وقيل‏:‏ بل هو مشترك بين اللفظ والمعنى، وهو قول بعض المتأخرين من الكُلابية، ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام اللّه حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف الكلام القرآني، فإنه لا يقوم عنده باللّه، فيمتنع أن يكون كلامه، ولبسط هذا موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا أن من قال من السلف‏:‏ الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأي أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال‏:‏ قول وعمل ونية، قال‏:‏ القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد إتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً للّه إلا بإتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا‏:‏ بل هو قول وعمل، والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم، كما سئل سَهْل بن عبد اللّه التَّسْتُرِي عن الإيمان ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كُفْر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.