كبار الأولياء لم يقعوا في الفناء
منذ 2007-09-23
السؤال: كبار الأولياء لم يقعوا في الفناء
الإجابة: وأكابر الأولياء، كأبي بكر وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار، لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء،
وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة. وكذلك كل ما كان من هذا النمط
مما فيه غيبة العقل والتمييز، لما يرد على القلب من أحوال الإيمان،
فإن الصحابة رضي اللّه عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال
الإيمانية من أن تغيب عقولهم.
أو يحصل لهم غشى، أو صعق، أو سكر، أو فناء، أو وَلَهٌ، أو جنون. وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن. ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير. وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية، من يعرض له من الفناء والسكر، ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك، عن مثل أبى يزيد، وأبي الحسين النوري، وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم، ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيـها سوى محبة اللّه وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر اللّه مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكـرى، ويكون ما يشهـدونه من ذلك مؤيـداً، وممـداً لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له.
وهذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان.
ونبينا صلى الله عليه وسلم إمام هؤلاء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات، وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي صلى اللّه عليهم وسلم أجمعين.
وأما النوع الثالث: مما قد يسمى فناء فهو أن يشهد أن لا موجود إلا اللّه، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد.
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم: ما أرى غير اللّه، أولا أنظر إلى غير اللّه، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقاً غيره، ولا مدبراً غيره، ولا إلها غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له، أو خوفاً منه، أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئاً، أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له، ولا رجاء له، ولا خوف منه، ولا بغض له، ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقاً، رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطاً، ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به.
والمشائخ الصالحون رضي اللّه عنهم يذكرون شيئاً من تجريد التوحيد، وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتاً إلى غير اللّه ولا ناظراً إلى ما سواه: لاحباً له، ولا خوفاً منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغاً من المخلوقات خالياً منها لا ينظر إليها إلا بنور اللّه، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه اللّه، ويبغض منها ما يبغضه اللّه، ويوالي منها ما والاه اللّه، ويعادي منها ما عاداه اللّه، ويخاف اللّه فيها، ولا يخافها في اللّه، ويرجو اللّه فيها، ولا يرجوها في اللّه، فهذا هو القلب السليم، الحنيف، الموحد، المسلم، المؤمن، العارف، المحقق، الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم.
وأما النوع الثالث: وهو الفناء في الموجود، فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء هو الفناء المحمود، الذي يكون صاحبه به ممن أثنى اللّه عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين.
وليس مراد المشائخ، والصالحين، بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات، هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل، وإما فساد الاعتقاد.
فهو متردد بين الجنون والإلحاد.
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق.
وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا.
وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسموات، لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء.
وهم قد يتكلمون في الفرق، والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقاً بها، متشتتاً ناظراً إليها متعلقاً بها، إما محبة، وإما خوفاً، وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد اللّه وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى اللّه بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق.
فقد يكون مجتمعاً على الحق معرضاً عن الخلق نظراً وقصداً وهو نظير النوع الثاني من الفناء.
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة باللّه، مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية اللّه سبحانه وتعالى وأنه سبحانه رب المصنوعات، وإلهها وخالقها، ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على اللّه إخلاصاً له ومحبة وخوفاً ورجاء واستعانة وتوكلا على اللّه وموالاة فيه، ومعاداة فيه وأمثال ذلك ناظراً إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزاً بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات، وكثرتها مع شهادته أن اللّه رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو اللّه لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب، في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، في حال القلب، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على اللّه، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقاً في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالماً باللّه تعالى ذاكراً له عارفاً به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محباً للّه، معظماً له، عابداً له، راجياً له خائفاً منه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً عليه، ممتنعاً عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية اللّه سبحانه وتعالى.
وإقراره بألوهية اللّه تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، فحينئذ يكون موحداً للّه.
ويبين ذلك أن أفضل الذكر: لا إله إلا اللّه، كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا، وغيرهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد اللّه بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة، هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون.
واحتجاج بعضهم على ذلك، بقوله: {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام.
وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ، فالاسموَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى،فالاسم مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول: من جاره، فيقول زيد.
وأما الاسم المفرد، مظهراً، أو مضمراً، فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالاً نافعاً، وإنما يعطيه تصوراً مطلقاً، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معـرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه و إلا لم يكن فيه فائدة.
والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات.
حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به.
إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا اللّه، وقال ولو كان ما ذكره محذوراً لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتاً غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة،وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان،فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو هو.
ونحو ذلك لم يكن الضمير عائداً إلا إِلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنف صاحب [الفصوص] كتاباً سماه كتاب [الهو] وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو [الهو]، وقيل: هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئاً من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت: [وما يعلم تأويل هو] منفصلة.
ثم كثيراً ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: [اللّه] بقوله: {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} ويظن أن اللّه أمر نبيه بأن يقول: الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله: {قٍلٌ بلَّهٍ} معناه: اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ} [الأنعام: 91]، أي: اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثم قال: {قُلْ اللَّهُ} أنزله {ثُمَّ ذَرْهُمْ}هؤلاء المكذبين {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.
ومما يبين ما تقدم: ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاماً، لا يحكون به ما كان قولاً، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلية؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، واللّه تعالى لا يأمر أحداً بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسماً مفرداً مجرداً، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: [أشهد أن محمداً رسول اللّه] بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟
وما في القرآن من قوله: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]، وقوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15]، وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96]، ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفرداً، بل في السنن أنه لما نزل قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96]، قال ولما نزل قوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال .
فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه وفي سجوده وهذا هو معنى قوله
أو يحصل لهم غشى، أو صعق، أو سكر، أو فناء، أو وَلَهٌ، أو جنون. وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن. ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير. وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية، من يعرض له من الفناء والسكر، ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك، عن مثل أبى يزيد، وأبي الحسين النوري، وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم، ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيـها سوى محبة اللّه وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر اللّه مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكـرى، ويكون ما يشهـدونه من ذلك مؤيـداً، وممـداً لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له.
وهذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان.
ونبينا صلى الله عليه وسلم إمام هؤلاء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات، وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي صلى اللّه عليهم وسلم أجمعين.
وأما النوع الثالث: مما قد يسمى فناء فهو أن يشهد أن لا موجود إلا اللّه، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد.
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم: ما أرى غير اللّه، أولا أنظر إلى غير اللّه، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقاً غيره، ولا مدبراً غيره، ولا إلها غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له، أو خوفاً منه، أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئاً، أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له، ولا رجاء له، ولا خوف منه، ولا بغض له، ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقاً، رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطاً، ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به.
والمشائخ الصالحون رضي اللّه عنهم يذكرون شيئاً من تجريد التوحيد، وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتاً إلى غير اللّه ولا ناظراً إلى ما سواه: لاحباً له، ولا خوفاً منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغاً من المخلوقات خالياً منها لا ينظر إليها إلا بنور اللّه، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه اللّه، ويبغض منها ما يبغضه اللّه، ويوالي منها ما والاه اللّه، ويعادي منها ما عاداه اللّه، ويخاف اللّه فيها، ولا يخافها في اللّه، ويرجو اللّه فيها، ولا يرجوها في اللّه، فهذا هو القلب السليم، الحنيف، الموحد، المسلم، المؤمن، العارف، المحقق، الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم.
وأما النوع الثالث: وهو الفناء في الموجود، فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء هو الفناء المحمود، الذي يكون صاحبه به ممن أثنى اللّه عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين.
وليس مراد المشائخ، والصالحين، بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات، هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل، وإما فساد الاعتقاد.
فهو متردد بين الجنون والإلحاد.
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق.
وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا.
وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسموات، لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء.
وهم قد يتكلمون في الفرق، والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقاً بها، متشتتاً ناظراً إليها متعلقاً بها، إما محبة، وإما خوفاً، وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد اللّه وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى اللّه بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق.
فقد يكون مجتمعاً على الحق معرضاً عن الخلق نظراً وقصداً وهو نظير النوع الثاني من الفناء.
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة باللّه، مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية اللّه سبحانه وتعالى وأنه سبحانه رب المصنوعات، وإلهها وخالقها، ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على اللّه إخلاصاً له ومحبة وخوفاً ورجاء واستعانة وتوكلا على اللّه وموالاة فيه، ومعاداة فيه وأمثال ذلك ناظراً إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزاً بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات، وكثرتها مع شهادته أن اللّه رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو اللّه لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب، في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، في حال القلب، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على اللّه، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقاً في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالماً باللّه تعالى ذاكراً له عارفاً به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محباً للّه، معظماً له، عابداً له، راجياً له خائفاً منه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً عليه، ممتنعاً عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية اللّه سبحانه وتعالى.
وإقراره بألوهية اللّه تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، فحينئذ يكون موحداً للّه.
ويبين ذلك أن أفضل الذكر: لا إله إلا اللّه، كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا، وغيرهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد اللّه بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة، هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون.
واحتجاج بعضهم على ذلك، بقوله: {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام.
وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ، فالاسموَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى،فالاسم مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول: من جاره، فيقول زيد.
وأما الاسم المفرد، مظهراً، أو مضمراً، فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالاً نافعاً، وإنما يعطيه تصوراً مطلقاً، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معـرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه و إلا لم يكن فيه فائدة.
والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات.
حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به.
إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا اللّه، وقال ولو كان ما ذكره محذوراً لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتاً غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة،وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان،فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو هو.
ونحو ذلك لم يكن الضمير عائداً إلا إِلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنف صاحب [الفصوص] كتاباً سماه كتاب [الهو] وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو [الهو]، وقيل: هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئاً من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت: [وما يعلم تأويل هو] منفصلة.
ثم كثيراً ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: [اللّه] بقوله: {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} ويظن أن اللّه أمر نبيه بأن يقول: الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله: {قٍلٌ بلَّهٍ} معناه: اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ} [الأنعام: 91]، أي: اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثم قال: {قُلْ اللَّهُ} أنزله {ثُمَّ ذَرْهُمْ}هؤلاء المكذبين {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.
ومما يبين ما تقدم: ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاماً، لا يحكون به ما كان قولاً، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلية؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، واللّه تعالى لا يأمر أحداً بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسماً مفرداً مجرداً، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: [أشهد أن محمداً رسول اللّه] بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟
وما في القرآن من قوله: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]، وقوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15]، وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96]، ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفرداً، بل في السنن أنه لما نزل قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96]، قال ولما نزل قوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال .
فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه وفي سجوده وهذا هو معنى قوله
- التصنيف: