معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله
منذ 2007-09-23
السؤال: معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله
الإجابة: وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق
محبتها للّه وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس:
يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة
الخفية.
قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟قال: حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال، والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته للّه، ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص للّه السوء والفحشاء، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 42].
فإن المخلص للّه ذاق من حلاوة عبوديته للّه ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته للّه ما يمنعه عن محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب لا أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته للّه، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى اللّه فيصير القلب منيباً إلى اللّه خائفاً منه راغباً راهباً، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33]، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد اللّه ومحبه إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57].
وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص للّه، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله.
فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له، لكان ذلك عيباً ونقصاً وذماً.
وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من اللّه.
ومن لم يكن خالصاً للّه عبداً له قد صار قلبه معبداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون اللّه أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً و إلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا اللّه، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على اللّه معرضاً عما سواه و إلا كان مشركاً، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30ـ32].
وقد جعل اللّه سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة اللّه وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم.
قال تعالى في إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 72- 73]، وقال في فرعون وقومه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ . وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 41- 42].
ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى ألا يميزوا بين ما يحبه اللّه ويرضاه، وبين ما قدر اللّه وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم: الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي.
وأما إبراهيم، وآل إبراهيم الحنفاء، والأنبياء فهم يعلمون أنه لابد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية.
وأن العبد كلما ازداد تحقيقاً ازدادت محبته للّه وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره.
وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين اللّه وبين خلقه.
والخليل يقول: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77]، ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشائخ كما فعلت النصارى.
مثال ذلك اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع: نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين، ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين.
فأما الأول: فهو الفناء عن إرادة ما سوى اللّه، بحيث لا يحب إلا اللّه، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال: أريد ألا أريد إلا ما يريد.
أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده اللّه ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه اللّه كالملائكة والأنبياء والصالحين.
وهذا معنى قولهم في قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] قالوا: هو السليم مما سوى اللّه، أو مما سوى عبادة اللّه، أو مما سوى إرادة اللّه، أو مما سوى محبة اللّه، فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم، هو أول الإسلام وآخره.
وباطن الدين وظاهره.
وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر اللّه وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير اللّه، بل ولا يشعرون، كما قيل في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]، قالوا: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف. وإما رجاء يبقى قلبه منصرفاً عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره.
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها.
وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر: أن رجلاً ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني .
وهذا الموضع زل فيه أقوام، وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا.
ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى، ويسخط ما يسخط، ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟قال: حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال، والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته للّه، ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص للّه السوء والفحشاء، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 42].
فإن المخلص للّه ذاق من حلاوة عبوديته للّه ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته للّه ما يمنعه عن محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب لا أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته للّه، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى اللّه فيصير القلب منيباً إلى اللّه خائفاً منه راغباً راهباً، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33]، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد اللّه ومحبه إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57].
وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص للّه، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله.
فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له، لكان ذلك عيباً ونقصاً وذماً.
وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من اللّه.
ومن لم يكن خالصاً للّه عبداً له قد صار قلبه معبداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون اللّه أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً و إلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا اللّه، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على اللّه معرضاً عما سواه و إلا كان مشركاً، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30ـ32].
وقد جعل اللّه سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة اللّه وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم.
قال تعالى في إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 72- 73]، وقال في فرعون وقومه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ . وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 41- 42].
ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى ألا يميزوا بين ما يحبه اللّه ويرضاه، وبين ما قدر اللّه وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم: الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي.
وأما إبراهيم، وآل إبراهيم الحنفاء، والأنبياء فهم يعلمون أنه لابد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية.
وأن العبد كلما ازداد تحقيقاً ازدادت محبته للّه وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره.
وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين اللّه وبين خلقه.
والخليل يقول: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77]، ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشائخ كما فعلت النصارى.
مثال ذلك اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع: نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين، ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين.
فأما الأول: فهو الفناء عن إرادة ما سوى اللّه، بحيث لا يحب إلا اللّه، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال: أريد ألا أريد إلا ما يريد.
أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده اللّه ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه اللّه كالملائكة والأنبياء والصالحين.
وهذا معنى قولهم في قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] قالوا: هو السليم مما سوى اللّه، أو مما سوى عبادة اللّه، أو مما سوى إرادة اللّه، أو مما سوى محبة اللّه، فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم، هو أول الإسلام وآخره.
وباطن الدين وظاهره.
وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر اللّه وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير اللّه، بل ولا يشعرون، كما قيل في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]، قالوا: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف. وإما رجاء يبقى قلبه منصرفاً عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره.
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها.
وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر: أن رجلاً ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني .
وهذا الموضع زل فيه أقوام، وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا.
ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى، ويسخط ما يسخط، ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
- التصنيف: