رسالـة في حكم تارك الصلاة
منذ 2007-10-22
السؤال: رسالـة في حكم تارك الصلاة
الإجابة: من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم...حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...كتابكم الكريم المؤرخ / وصل، وفيه سؤالكم عن كفر تارك الصلاة، فهذه المسألة كبيرة وهامة، وظواهر الأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، لكن أدلة تكفيره الكفر الأكبر أقوى أثراً ونظراً:
أما الأثر فقد ساق ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب: "الصلاة" له من أدلة الكتاب والسنة ما فيه كفاية، وقد فهمت من كتابك أنك قرأتها، لكن ذكرت في كتابك أنه جرت مناظرة بين الإمام الشافعي والإمام أحمد في ذلك، وأن الشيخ سيد سابق ذكرها في فقه السنة مع أن ابن القيم نقل عن الطحاوي أنه حكى عن الشافعي نفسه تكفيره، فلينظر في صحة المناظرة المذكورة.
ومن أوضح الأدلة على أن كفر تارك الصلاة هو الكفر الأكبر المخرج عن الملة قوله صلى الله عليه وسلم: " " (رواه مسلم)، بل في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم" ص70 فقوله: " " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، إلى أن قال: "وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " "، وبين كفر منكر في الإثبات".أ.هـ.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي لفظ: " "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " "، فجعل الصلاة مانعة من قتالهم فمفهوم ذلك أنهم إذا لم يصلوا جاز قتالهم لزوال المانع، وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا ينازعوا الأمر أهله قال: " "، فإذا جمعنا هذا الحديث إلى الحديث الذي قبله حيث كان يجوز بمقتضاه قتالهم لتركهم الصلاة نتج عن ذلك أن الصلاة من الكفر البواح وهذا واضح لمن تأمله.
فالأدلة النقلية الأثرية تقتضي كفره كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
وأما الأدلة النظرية العقلية فيقال: كيف يكون شيء من الإيمان في قلب رجل يعلم أهمية الصلاة في الإسلام، ويعلم النصوص الواردة في فضلها، والنصوص الواردة في الوعيد على تاركها، ويعلم أن الذي فرضها وأكد فرضيتها من وجوه شتى هو الله تعالى، الذي يدعي هذا التارك لها أنه يؤمن به فأين الإيمان بالله تعالى؟ وأين ثمرته؟ بل أين بينته التي تشهد به، وقد ترك أصل الأعمال في الإسلام وعموده، وليس الإيمان بالله تعالى عند أهل السنة، ولا في حقيقة الشرع مجرد الإيمان بوجود الله تعالى، أو صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فرضية الصلاة والزكاة، فإن الإقرار بذلك موجود حتى من المشركين فها هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم يقر بالله ورسوله، وصحة رسالته، وصدقه، ومع ذلك فهو مخلد في النار عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
وأما احتجاج من حمل كفر تارك الصلاة على مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " "، فقد علمت ضعف حجته مما ذكره شيخ الإسلام في: "الاقتضاء" من الفرق بين: "كفر" المنكر و"الكفر" المُعرّف، ثم إن قتال المسلم فعل معصية، وترك الصلاة تفويت واجب، وتفويت الواجب من حيث هو أعظم من فعل المعصية كما قرر ذلك ابن القيم في كتاب: "الفوائد" بأكثر من خمسة وعشرين وجهاً.
وأما دخول من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه الجنة فالحديث مقيد بكونه خالصاً من قلبه، ولا يمكن لمن قالها خالصاً من قلبه أن يدع الصلاة أبداً، كما لا يمكن أن ينكر القرآن، أو اليوم الآخر، أو نحوه، ولو أخذنا بظاهر الحديث من غير أن نتفطن لقوله: " "، وما تتضمنه هذه الجملة من الإذعان والانقياد والقبول، لقلنا إن من قالها وأنكر القرآن واليوم الآخر ونحوهما يدخل الجنة ولا أحد من المسلمين يقول ذلك.
ومثله حديث: " " [أخرجه الترمذي: كتاب صفة جهنم/باب ما جاء أن للنار نفسين، وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد (2598 ) وقال: هذا حديث حسن صحيح]، فإننا نقول: ليس الإيمان مجرد التصديق، ولو كان كذلك لكان أبليس مؤمناً لأنه يصدق بالله، ولكان أبو طالب مؤمناً، ولكان كل من أقر بالله مؤمناً، ولكن الإيمان ما استلزم القبول والانقياد.
وأما ما نقلتَ عن ابن القيم رحمه الله من أنه كفرٌ عملي لا يخرجه من الإسلام فيعتبر كالزاني، والسارق، وشارب الخمر حين نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عنهم، فإن ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر في الحكم بين الفريقين أصولاً في فصول، فذكر في الفصل الأول: أن من شعب الإيمان القولية ما يزول بزوالها الإيمان، قال: "فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان"، وذكر نحوه في شعب الكفر.
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول، وعمل، والقول قسمان: قول القلب وقول اللسان، والعمل قسمان عمل القلب، وعمل الجوارح، قال: وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان به، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، قال: وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، قال: فإن الإيمان ليس مجرد التصديق وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد.
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وأن كفر الجحود يضاد الإيمان من كل وجه، قال: وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وما لا يضاده، وذكر أن ترك الصلاة من الكفر العملي، ثم قال في آخر الفصل: وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية.
ثم ذكر أصلاً آخر وهو: أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، إلى أن قال: "وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام".
ثم ذكر أصلاً آخر وهو: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافراً، ثم قال يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، وإن كان شرطاً لم ينفعه فيبقى النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان هذا سر المسألة، والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه، ومحال بقاء الربح بلا رأس مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، ثم قال: "ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم...، وبعضهم يقول مؤمن كامل الإيمان أفلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة".أ.هـ.
وهذا الكلام من ابن القيم رحمه الله يقتضي كفر تارك الصلاة، والمسألة التي فرضها لا تزيد الحكم عما لو تركها ولم يدع إليها على هذا الوجه، ألا ترى أنه لو دعي على هذا الوجه ليصوم رمضان فأبى حتى قتل فإنه لا يحكم بكفره، فالقاضي بكفر تارك الصلاة تركه إياها لا دعوته لها على هذا الوجه.
ثم ذكر بن القيم في المسألة الرابعة: أن ترك الصلاة بالكلية لا يقبل معه عمل، كما لا يقبل مع الشرك عمل، وهذا الحكم لا يثبت إلا إذا كان ترك الصلاة كفراً وردة، فإن الأعمال لا تحبط إلا بالردة لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقد صرح ابن القيم في هذا المبحث بأنه إذا ترك الصلاة تركاً كلياً لا يصليها أبداً فإن هذا الترك يحبط العمل جميعه، إلا أنه استدرك، وقال: فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، ثم حمل معنى الإحباط على المقابلة والمقاصة.
وإنما نقلت ملخص كلامه ليتبين أنه رحمه الله لم يعط كلاماً فصلاً في هذا الموضوع بل كلامه يشبه كلام المتردد.
ومهما يكن فالمرجع في هذه المسألة الكبيرة إلى ما تقتضيه الأدلة، ثم كلام السلف الصالح والأئمة، ومن تأمل الأدلة الواردة في تارك الصلاة وجد أنها تدل على أن كفره كفراً أكبر، إما بمقتضى اللفظ، أو بمقتضى الأحكام المرتبة على الترك، والتي لا تكون إلا لكافر، وأن بين إطلاق الكفر فيها وفي نحو: " " فرقاً بينا كما ذكره شيخ الإسلام في كتاب الاقتضاء، وكما هو معلوم من دلالات الألفاظ، وتأمل الدليل الثاني الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في أدلة المكفرين حيث يقول فيه: " "، ونحن نرى -حسب ما بلغنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة يترتب على كفره أحكام المرتدين الدنيوية والأخروية، وهذا قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين حتى نقل بعضهم الإجماع عليه، فقد نقل المنذري عن ابن حزم قوله: "وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة".أ.هـ، ترغيب وترهيب ص393 ج1ط مصطفى الحلبي، وقال بن رجب في شرح الأربعين النووية: "حكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه".
وعلى هذا فإننا نأمل أن تتأمل النصوص وتقارن بينها، وهل يعقل أن يترك مؤمن بالله ورسوله إيماناً حقيقياً الصلاة مع تأكدها وسهولة فعلها؟! لا أظن أن ذلك يقع، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين - المجلد الثاني عشر - باب الصلاة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...كتابكم الكريم المؤرخ / وصل، وفيه سؤالكم عن كفر تارك الصلاة، فهذه المسألة كبيرة وهامة، وظواهر الأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، لكن أدلة تكفيره الكفر الأكبر أقوى أثراً ونظراً:
أما الأثر فقد ساق ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب: "الصلاة" له من أدلة الكتاب والسنة ما فيه كفاية، وقد فهمت من كتابك أنك قرأتها، لكن ذكرت في كتابك أنه جرت مناظرة بين الإمام الشافعي والإمام أحمد في ذلك، وأن الشيخ سيد سابق ذكرها في فقه السنة مع أن ابن القيم نقل عن الطحاوي أنه حكى عن الشافعي نفسه تكفيره، فلينظر في صحة المناظرة المذكورة.
ومن أوضح الأدلة على أن كفر تارك الصلاة هو الكفر الأكبر المخرج عن الملة قوله صلى الله عليه وسلم: " " (رواه مسلم)، بل في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم" ص70 فقوله: " " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، إلى أن قال: "وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " "، وبين كفر منكر في الإثبات".أ.هـ.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي لفظ: " "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " "، فجعل الصلاة مانعة من قتالهم فمفهوم ذلك أنهم إذا لم يصلوا جاز قتالهم لزوال المانع، وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا ينازعوا الأمر أهله قال: " "، فإذا جمعنا هذا الحديث إلى الحديث الذي قبله حيث كان يجوز بمقتضاه قتالهم لتركهم الصلاة نتج عن ذلك أن الصلاة من الكفر البواح وهذا واضح لمن تأمله.
فالأدلة النقلية الأثرية تقتضي كفره كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
وأما الأدلة النظرية العقلية فيقال: كيف يكون شيء من الإيمان في قلب رجل يعلم أهمية الصلاة في الإسلام، ويعلم النصوص الواردة في فضلها، والنصوص الواردة في الوعيد على تاركها، ويعلم أن الذي فرضها وأكد فرضيتها من وجوه شتى هو الله تعالى، الذي يدعي هذا التارك لها أنه يؤمن به فأين الإيمان بالله تعالى؟ وأين ثمرته؟ بل أين بينته التي تشهد به، وقد ترك أصل الأعمال في الإسلام وعموده، وليس الإيمان بالله تعالى عند أهل السنة، ولا في حقيقة الشرع مجرد الإيمان بوجود الله تعالى، أو صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فرضية الصلاة والزكاة، فإن الإقرار بذلك موجود حتى من المشركين فها هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم يقر بالله ورسوله، وصحة رسالته، وصدقه، ومع ذلك فهو مخلد في النار عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
وأما احتجاج من حمل كفر تارك الصلاة على مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " "، فقد علمت ضعف حجته مما ذكره شيخ الإسلام في: "الاقتضاء" من الفرق بين: "كفر" المنكر و"الكفر" المُعرّف، ثم إن قتال المسلم فعل معصية، وترك الصلاة تفويت واجب، وتفويت الواجب من حيث هو أعظم من فعل المعصية كما قرر ذلك ابن القيم في كتاب: "الفوائد" بأكثر من خمسة وعشرين وجهاً.
وأما دخول من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه الجنة فالحديث مقيد بكونه خالصاً من قلبه، ولا يمكن لمن قالها خالصاً من قلبه أن يدع الصلاة أبداً، كما لا يمكن أن ينكر القرآن، أو اليوم الآخر، أو نحوه، ولو أخذنا بظاهر الحديث من غير أن نتفطن لقوله: " "، وما تتضمنه هذه الجملة من الإذعان والانقياد والقبول، لقلنا إن من قالها وأنكر القرآن واليوم الآخر ونحوهما يدخل الجنة ولا أحد من المسلمين يقول ذلك.
ومثله حديث: " " [أخرجه الترمذي: كتاب صفة جهنم/باب ما جاء أن للنار نفسين، وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد (2598 ) وقال: هذا حديث حسن صحيح]، فإننا نقول: ليس الإيمان مجرد التصديق، ولو كان كذلك لكان أبليس مؤمناً لأنه يصدق بالله، ولكان أبو طالب مؤمناً، ولكان كل من أقر بالله مؤمناً، ولكن الإيمان ما استلزم القبول والانقياد.
وأما ما نقلتَ عن ابن القيم رحمه الله من أنه كفرٌ عملي لا يخرجه من الإسلام فيعتبر كالزاني، والسارق، وشارب الخمر حين نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عنهم، فإن ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر في الحكم بين الفريقين أصولاً في فصول، فذكر في الفصل الأول: أن من شعب الإيمان القولية ما يزول بزوالها الإيمان، قال: "فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان"، وذكر نحوه في شعب الكفر.
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول، وعمل، والقول قسمان: قول القلب وقول اللسان، والعمل قسمان عمل القلب، وعمل الجوارح، قال: وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان به، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، قال: وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، قال: فإن الإيمان ليس مجرد التصديق وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد.
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وأن كفر الجحود يضاد الإيمان من كل وجه، قال: وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وما لا يضاده، وذكر أن ترك الصلاة من الكفر العملي، ثم قال في آخر الفصل: وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية.
ثم ذكر أصلاً آخر وهو: أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، إلى أن قال: "وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام".
ثم ذكر أصلاً آخر وهو: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافراً، ثم قال يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، وإن كان شرطاً لم ينفعه فيبقى النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان هذا سر المسألة، والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه، ومحال بقاء الربح بلا رأس مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، ثم قال: "ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم...، وبعضهم يقول مؤمن كامل الإيمان أفلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة".أ.هـ.
وهذا الكلام من ابن القيم رحمه الله يقتضي كفر تارك الصلاة، والمسألة التي فرضها لا تزيد الحكم عما لو تركها ولم يدع إليها على هذا الوجه، ألا ترى أنه لو دعي على هذا الوجه ليصوم رمضان فأبى حتى قتل فإنه لا يحكم بكفره، فالقاضي بكفر تارك الصلاة تركه إياها لا دعوته لها على هذا الوجه.
ثم ذكر بن القيم في المسألة الرابعة: أن ترك الصلاة بالكلية لا يقبل معه عمل، كما لا يقبل مع الشرك عمل، وهذا الحكم لا يثبت إلا إذا كان ترك الصلاة كفراً وردة، فإن الأعمال لا تحبط إلا بالردة لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقد صرح ابن القيم في هذا المبحث بأنه إذا ترك الصلاة تركاً كلياً لا يصليها أبداً فإن هذا الترك يحبط العمل جميعه، إلا أنه استدرك، وقال: فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، ثم حمل معنى الإحباط على المقابلة والمقاصة.
وإنما نقلت ملخص كلامه ليتبين أنه رحمه الله لم يعط كلاماً فصلاً في هذا الموضوع بل كلامه يشبه كلام المتردد.
ومهما يكن فالمرجع في هذه المسألة الكبيرة إلى ما تقتضيه الأدلة، ثم كلام السلف الصالح والأئمة، ومن تأمل الأدلة الواردة في تارك الصلاة وجد أنها تدل على أن كفره كفراً أكبر، إما بمقتضى اللفظ، أو بمقتضى الأحكام المرتبة على الترك، والتي لا تكون إلا لكافر، وأن بين إطلاق الكفر فيها وفي نحو: " " فرقاً بينا كما ذكره شيخ الإسلام في كتاب الاقتضاء، وكما هو معلوم من دلالات الألفاظ، وتأمل الدليل الثاني الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في أدلة المكفرين حيث يقول فيه: " "، ونحن نرى -حسب ما بلغنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة يترتب على كفره أحكام المرتدين الدنيوية والأخروية، وهذا قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين حتى نقل بعضهم الإجماع عليه، فقد نقل المنذري عن ابن حزم قوله: "وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة".أ.هـ، ترغيب وترهيب ص393 ج1ط مصطفى الحلبي، وقال بن رجب في شرح الأربعين النووية: "حكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه".
وعلى هذا فإننا نأمل أن تتأمل النصوص وتقارن بينها، وهل يعقل أن يترك مؤمن بالله ورسوله إيماناً حقيقياً الصلاة مع تأكدها وسهولة فعلها؟! لا أظن أن ذلك يقع، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين - المجلد الثاني عشر - باب الصلاة.
محمد بن صالح العثيمين
كان رحمه الله عضواً في هيئة كبار العلماء وأستاذا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
- التصنيف: