حكم من أكل وشرب ظانًّا أن الفجر لم يطلع فتبيَّن خطؤه

منذ 2012-07-26

شروطَ المفطِّرات ثلاثة: العلْم، والذِّكْر، والعمْد، وضدُّه غير العامد، وهو نوعانِ، أحدُهُما: أن يَحصُل المفطِّر بغيْرِ اختِياره بلا إكْراه، مثل أن يتمضْمض، فيدخل الماءُ بطْنَه بغير قصْدٍ، فلا يفطِر

السؤال:

كنتُ مسافرًا ليلاً من الدَّمَّام إلى الرِّياض، ودخلتُ الرياضَ مع الفَجْرِ، ولَم أعرفْ وقتَ الأذان، ولَم أسْمعِ الأذان، فقُمْتُ بشُرْب الماء السَّاعةَ ( 4.19 )، علماً بأنَّه اتَّضح لي في اليوم التَّالي: أنَّ وقت الأذان في تمام السَّاعة ( 4.14 )، فهل صيامي صحيح؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ شروطَ المفطِّرات ثلاثة: العلْم، والذِّكْر، والعمْد، وضدُّه غير العامد، وهو نوعانِ، أحدُهُما: أن يَحصُل المفطِّر بغيْرِ اختِياره بلا إكْراه، مثل أن يتمضْمض، فيدخل الماءُ بطْنَه بغير قصْدٍ، فلا يفطِر؛ قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].

والثاني: أن يكره على الإفطار.

والظَّاهر: أنَّ السائلَ الكريم قد تناول الماءَ بعد أذان الفجْر خطأً وليس عمْدًا؛ فيكون صِيامه صحيحًا - إن شاء الله تعالى - لأنَّ المكلَّف إذا اجتهد فأخطأ، فلا حرجَ عليه، قد دلَّ على ذلك أدلَّة كثيرة عامَّة وخاصَّة؛ ففي الصَّحيحين عن عديِّ بن حاتمٍ - رضِي الله عنْه - أنه لمَّا نزلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187]، قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، إنِّي أجعَلُ تَحت وسادَتِي عقالَيْنِ: عقالاً أبيضَ، وعقالاً أسود؛ أعرِف اللَّيلَ من النَّهار، فقال رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: "إنَّ وسادَك لعريضٌ، إنَّما هو سوادُ الليل، وبياضُ النَّهار"، وليس فيه أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أمره بالإعادة.

وروى البُخاري وأبو داودَ، عن أسماءَ بنتِ أبِي بكر رضِيَ الله عنهُما قالت: "أفطرْنا على عهْد النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم يومَ غيمٍ ثُمَّ طلعتِ الشَّمس".

قال الحافظ شمس الدين ابن القيِّم رحِمه الله: "واختلف النَّاس، هل يَجب القضاءُ في هذه الصورة؟ فقال الأكثرون: يَجب، وذهبَ إسحاق بن راهويه، وأهلُ الظَّاهر إلى: أنَّه لا قضاءَ عليهم، وحُكْمهم حكمُ مَن أكل ناسيًا، وحُكِيَ ذلك عن الحسَن ومُجاهد، واختُلِف فيه على عمر، فروى زيدُ بن وهب قال: "كنتُ جالسًا في مسجدِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان، في زمن عُمر، فأُتِينا بكأسٍ فيها شرابٌ من بيْتِ حفصةَ، فشرِبْنا ونَحنُ نرى أنَّه من اللَّيل، ثُمَّ انكشف السَّحاب، فإذا الشمسُ طالعة، قال: فجعل النَّاس يقولون: نقضي يومًا مكانَه، فسَمع بذلك عمرُ، فقال: والله لا نَقضيه، وما تَجانُفًا لإثم"؛ رواه البيهقيُّ وغيرُه.

وقد روى مالكٌ في "الموطَّأ" عن زيْد بن أسلم: أنَّ عمر بن الخطاب أفطر ذات يومٍ في رمضان، في يومٍ ذي غيْم، ورأى أنَّه قد أمسى وغابتِ الشمس، فجاءه رجلٌ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، قدْ طلعتِ الشَّمس، فقال عمر: الخَطْبُ يسير، وقد اجتهدْنا" قال مالكٌ: "يريد بقوله: "الخطب يسير" القضاءَ فيما نرى"، والله أعلم.

وكذلك قال الشافعي.

وهذا لا يُناقِض الأثَر المتقدِّم، وقوله: "وقد اجتهدنا": مؤْذِن بعدم القضاء، وقوله: "الخطب يسير": إنَّما هو تَهوين لِما فعلوه وتيسيرٌ لأمْره.

وقد روى البيهقيُّ بإسنادٍ فيه نظرٌ عن صُهَيب: أنَّه أمر أصحابَه بالقضاء في قصَّة جرتْ لَهم مثل هذه، فلو قدِّر تعارُض الآثار عن عمر، لكانَ القِياس يقتضي سقوطَ القَضاء؛ لأنَّ الجهل بِبَقاء اليوم كنِسْيان نفس الصوم، ولو أكلَ ناسيًا لصوْمِه، لم يَجب عليْه قضاؤُه، والشريعة لم تفرِّق بين الجاهل والنَّاسي، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهما قد فعل ما يعتقِدُ جوازَه، وأخطأَ في فعْلِه، وقد استَوَيا في أكثَرِ الأحكام، وفي رفْع الآثار، فما المُوجب للفَرْقِ بينهما في هذا الموضع؟! وقد جعل أصحابُ الشافعيِّ وغيرهم الجاهلَ المخطئَ - أوْلى بالعُذْر من الناسي في مواضعَ متعدِّدة.

وبالجملة: فلم يفرَّق بينهما في الحجِّ، ولا في مُفْسِدات الصَّلاة، كحمْل النَّجاسة وغير ذلك.

فلمَّا اتَّفقوا على أنَّ الإثم موضوعٌ عنْه، دلَّ على أنَّ فِعْلَه غيرُ منسوبٍ فيه إلى تفْريط، والسَّبب الَّذي دعاهُ إلى الفِطْر غير منسوب إليْه في الصُّورتين، وهو النِّسيان في مسألة النَّاسي، وظهور الظُّلمة وخَفاء النَّهار في صورة المخطئ، فهذا أطْعمه الله وسقاه بالنِّسيان، وهذا أطعمَه الله وسقاه بإخْفاء النَّهار".اهـ، مُختصرًا.

وقال الشيخ العثيمين في "الشَّرح المُمتِع على زاد المستقْنع": "إن أتى مفطرًا، وهو شاكٌّ في طلوع الفجر - فصوْمُه صحيح؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وضدُّ التبيُّن الشَّكُّ والظَّن، فما دمْنا لم يتبيَّن الفجر لنا، فلنا أن نأكُل ونشرب؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهذا من الخطأ".

وقال: "وهل يقيَّد هذا فيما إذا لم يتبيَّن أنَّه أكل بعد طلوع الفجر؟ الرَّاجح: أنَّه لا يقيَّد، حتَّى لو تبيَّن له بعد ذلك أنَّ الفجر قد طلع، فصوْمُه صحيح؛ بناءً على العُذْر بالجهل في الحال".

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام