الدِّفاع عنِ النَّفس
هَلْ يَحرُم الدِّفاع عنِ النَّفس لِقَوْلِ ابْنِ آدم: {} [المائدة:28]؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدْ حَقَنَ الإسلامُ الدِّماء وحرَّم سفْكَها إلاَّ بإذنٍ من الشَّارع، وتوعَّد سبحانه مَن يتعدَّى بالعذاب العظيمِ؛ فقال تَعالى: {} [النساء: 93]، وقال صلى الله عليه وسلَّم: "" (رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ).
أمَّا الدِّفاعُ عنِ النَّفْسِ منَ الظُّلم، ودفْعُ الصَّائل فمشروعٌ بالإجْماع، واختُلِفَ في وُجوبِه على ثلاثَةِ أقوال:
الأوَّل: وُجُوب دَفْعِ الصَّائل على النَّفسِ وما دونَها، ولا فَرْقَ بَيْنَ أن يَكُونَ الصائِلُ كافرًا أَوْ مُسلمًا، عاقِلاً أو مَجنونًا، بالغًا أو صغيرًا، معصومَ الدَّم أو غيْرَ مَعصومِ الدَّم، آدميًّا أوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الحنفيَّة والمالكيَّة في الأصحِّ، وقولٌ عند الشافعيَّة، واحتجُّوا بأدلَّة كثيرة، منها:
ما رَوَاهُ مسلمٌ وغيرُه: أنَّ رجُلاً قال: يا رسولَ الله، أرأَيْتَ إنْ جاءَ رجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مالِي؟ قال: ""، قال: أرأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قال: ""، قال: أرَأَيْتَ إن قَتَلَنِي؟ قال: ""، قال: أرأيْتَ إن قتلتُه؟ قال: "".
وفي الصحيحَيْنِ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنْهُما قالَ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: "".
ومنها قولُه تَعالى: {} [البقرة: 195]، وموضع الحجة في الآية أن الاستِسْلامُ للصَّائل إلقاءٌ بالنَّفْسِ للتَّهْلُكة، فيكونُ الدِّفاع عنْها واجبًا، ولأنَّه يَحْرُم عليه قَتْلُ نفسِه فكذلك يَحْرُم عليْهِ إباحةُ قتْلِها بِالاسْتِسلام لِلقاتِل.
ومنها أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أحلَّ فَقْء عيْنِ مَنِ اطَّلع في بَيْتِ قومٍ بِغَيْرِ إذْنِهم؛ ففي الصَّحيحيْنِ عن أبي هُريْرة: "".
وفيهِما عن سهل بن سعد، قال: اطَّلع رجلٌ من جُحْر في حُجَرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ به رأْسَهُ فقال: "" فجعل نفس النَّظَرِ مُبيحًا لِلطَّعْنِ في العين.
ومنها: أن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ بِمُقاتلَةِ مَن أصرَّ على المُرورِ بَيْنَ يدَيِ المُصَلِّي كما ثَبَتَ في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخُدْريِّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "".
قال شيْخُ الإسْلام ابنُ تيمية: "فقَدْ دخلَ اللِّصُّ على عبدالله بْنِ عُمَرَ فأصْلَتَ له السَّيْفَ، قالوا: فلوْلا أنَّا نَهيْناهُ عنْهُ لضَرَبَهُ، وقدِ استدلَّ أحْمَدُ بنُ حنبلٍ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَر هذا مع ما تقدَّم من الحديثَيْنِ وأخَذَ بذلك".
الثاني: أنَّه يَجب دفْعُ الصَّائِلِ الكافِر، أمَّا الصَّائلُ المُسلِم فَيَجُوزُ دفْعُه عن نَفْسِه ولكنْ لا يَجِبُ بلْ يَجوزُ الاسْتِسلامُ له، وسواءٌ أمكَنَ دفْعُه بغَيْرِ قتلِه أم لَمْ يُمكن، وهو الأظهر عند الشافعيَّة؛ لقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: "" (رواه الترمذي)، ولِما وَرَدَ عنِ الأحنف بن قَيْسٍ قال: خرجْتُ بِسلاحي لياليَ الفِتْنة، فاستَقْبَلَنِي أبو بَكْرَة، فقال: أين تُريد؟ قلت: أُرِيدُ نُصْرَة ابْنِ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "" قيل: فهذا القاتِلُ، فما بالُ المقتولُ؟ قال: "" (متفق عليه).
ولأنَّ عُثمانَ رضي الله عنه تَرَكَ القِتالَ مع القُدْرَةِ عليه، ومع عِلْمِه بأنَّهم يُريدون نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حرَّاسه من الدِّفاعِ عَنْهُ وصَبَر على ذلك، وأقرَّه الصَّحابةُ على ذلك، ولو لَم يَجُز لأَنْكَروا عليْهِ ذلك.
الثَّالثُ: وجوبُ دَفْعِ الصَّائِل عنِ النَّفس في غَيْرِ وَقْتِ الفِتْنَة، وهُو مَذْهَبُ الحنَابِلة، واحتجُّوا على الوجوب بأدلَّة القول الأوَّل، وعلى تَرْكِه في زمانِ الفِتْنة بأدلَّة القَوْلِ الثَّاني، وهذا القول هو الرَّاجِحُ لموافقتِه لجميع أدلَّة الباب، وعدم تعارُضِه مع شيء منها.
قال في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق": "(ومَنْ شَهَرَ على المسلمين سيفًا وَجَبَ قتْلُه ولا شيءَ بِقَتْلِه)؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: "" -أي أهدره- ولأنَّ دفعَ الضَّررِ واجب، فوَجَبَ عليْهِم قتلُه إذا لم يُمْكِن دفعُه إلاَّ به، ولا يَجِبُ على القاتل شيءٌ لأنَّه صار باغيًا بذلك، وكذا إذا شَهَرَ على رجُلٍ سلاحًا فقَتَلَهُ أو قَتَلَهُ غيرُه دفعًا عنْهُ فلا يَجِبُ بقَتْلِه شيء لما بيَّنَّا".
وقال في "كشاف القناع": "(وإن كان الدافع) للصَّائل (عَنْ نِسائِه فهو لازم) أي واجبٌ لِما فيه من حقِّه وحقِّ الله وهو منعُه من الفاحشة (وإن كان) الدَّفْعُ (عن نفْسِه في غَيْرِ فِتْنَةٍ فكذلِكَ) أي فالدَّفع لازمٌ؛ لقوله تعالى: {} وكما يَحْرُم عليه قتلُ نفسِه يَحْرُم عليه إباحةُ قتلِها، ولأنَّه قَدَرَ على إحياءِ نفسِه فَوَجَبَ عليْهِ فِعْلُ ما يتَّقي به كالمضْطَرِّ للميتة، فإنْ كان في فتنةٍ لم يلزمه الدَّفْعُ".
أما الأدلة الواردة في مشروعية ترك الدفاع عن النفس كقوله تعالى {} [المائدة:28]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ""، وفي لفظ: ""، فكلُّ هذا في القِتال في الفتنة؛ قال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "" (رواه أبو داود).
وروى أحمدُ من حديث ابْنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ الله قال: "" ... : فبِمَ تأمرُنِي إن أدركتُ ذلك الزمان؟ قال: "" قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن دُخِلَ عليَّ داري؟ قال: "" قال: قلت: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن دُخِلَ عليَّ بيتي؟ قال: "".
فكلُّ هذه الأدلَّة وغيرُها لا تُعارضُ ما صحَّ من وُجوب الدِّفاع عن النفس والمال والعِرْض والذُّرِّية؛ لأنَّها - كما هو ظاهرٌ- خاصَّة بزمانِ الفِتَن وانتِشار القتل.
قال أبو مُحمد ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": ونَحنُ نقول: إنَّ لكل حديثٍ موضعًا غيْرَ موضِع الآخَر، فإذا وُضِعَا بِمَوْضِعَيْهما زال الاختلافُ؛ لأنَّه أراد بقولِه: "" مَن قاتل اللصوص عن ماله حتى يُقْتَل في منزلِه وفي أسفاره، ولذلك قِيلَ في حديثٍ آخَر: "" يُريد: تقدم عليه بالسلاح فهذا موضع الحديث الأول، وأراد بقوله: ""؛ أي افعل هذا في زَمَنِ الفتنة، واختلاف النَّاس على التأويل وتنازُع سلطانَيْنِ كل واحدٍ منْهُما يطلُب الأمْرَ ويدَّعيهِ لنفْسِه بِحُجَّة، يقول: فَكُنْ حِلْسَ بيتك في هذا الوقت ولا تَسُلَّ سيْفًا ولا تَقْتُلْ أحدًا؛ فإنَّك لا تدري مَنِ المُحِقُّ من الفَريقَيْنِ ومَن المُبْطِل واجعَلْ دَمَكَ دُونَ دينِكَ، وفي مثل هذا الوقت قال: ""، فأما قوله تعالى: {} [الحجرات: 9]، فإنَّه أمَرَ بذلك الجميع منَّا بعد الإصلاح وبعْدَ البَغْيِ، وأمر الواحد والاثنين والثلاثة، إذا لم يَجْتَمِع مَلَؤُنا على الإصلاح بينهما، أن نَلْزَمَ منازِلَنا، ونَقِيَ أديانَنَا بأموالنا وأنفسنا،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: