نقل الميت بعد دفنه
توُفِّي والدِي منذ 8 أشْهُر، وكان لنا مقابرُ في بلْدتِنا في الأقاليم، وكان والدي أعدَّها وجهَّزها، فقَبْل وفاتِه بأيَّام تكلَّمتُ معه في أن نأخذ مقبرة هنا في القاهرة، وكان غير موافق، وبعد ذلك وافقَ وبدأنا نستعد لهذا؛ ولكن كان القدَر أسرع، فقد توفي في حادثٍ.
وكان لخالي مقبرة هُنا، فاقْترحت أن ندفِنَه مع خالي إلى أن يتمَّ تَجهيز المدفن الخاصِّ بنا، وتمَّ تَجهيز المدْفَن بعد شَهْر من تاريخ وفاته. وكان رأي التُّرَبي أنَّه لا يصحُّ هذا في الوقت الحالي، لا يصح قبل سنة على الأقل.
ومن يوم الوفاة رأيتُ أكثر من رؤيا أنه غاضب منِّي بشكْلٍ كبير، مع العِلم أنَّه كان لا يُحبُّ زوجة خالي المدفون معه، وهي المسؤولة الآن عن المقبرة، فلا أعْرِف ماذا أفعل، أأنقله إلى المقبرة التي تمَّ تَجهيزُها في القاهرة، أم إلى المقبرة الموجودة في الأقاليم، أم أتركه؟
ولكن من يوم أن مات وأنا لا أرى أي رؤيا غيرَ أنه غاضب منِّي جدًّا، ويأتي إلى أخواتي البنات في حالات "مليح" جدًّا، ويُطمئِنُهم عليْه. فأرجو إفادتي: ماذا أفعل؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدِ اتَّفق الفُقهاء على منْع نبْش القَبر إلاَّ لعُذْر وغرضٍ صحيح، ومنْهُم من مَنَع مِن النبش مطلقًا، واتَّفقوا على أنَّ مِن الأعْذار الَّتي تُجيز نبْش القبر: كوْنَ الأرْض مغصوبة، أو الكفَن مغصوبًا، أو سَقَط مالٌ في القبر، واحتجُّوا بِحديث جابرٍ رضِي الله عنْه قال: "دُفِن مع أبي رجُلٌ، فلَم تطِبْ نفسي حتَّى أخرجتُه، فجعلته في قبرٍ على حدة" (رواه البخاري).
وقال السَّرخْسي - الحنفي - في "المبسوط": "وإنْ دُفِن قبل الصَّلاة عليْه صُلِّي على القبر، وأنَّه لا يخرج من القبْر؛ لأنَّه قد سُلِّم إلى الله تعالى وخرج من أيدِيهم، وجاء عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "". اهـ.
قال في "الدُّر المختار": "ولا يخرج منه بعد إهالة التراب (إلا) لحق آدمي كـ (أن تكون الأرْض مغصوبةً أو أخذت بشفعة)، ويُخيَّر المالك بين إخراجِه ومساواته بالأرْض، كما جاز زرْعه والبناء عليْه إذا بلِي وصار ترابًا".
وقال ابن عابدين في حاشية "رد المحتار على الدر المختار": "احتِراز عن حق الله تعالى كما إذا دُفِن بلا غُسل أو صلاة، أو وضْعٍ على غيْر يَمينِه، أو إلى غير القبلة، فإنَّه لا ينبش عليْه بعد إهالة التُّراب كما مرَّ قوله: كأن تكون الأرض مغصوبة، وكما إذا سقط في القبرِ متاع، أو كُفِّن بثوب مغصوب، أو دفن معه مال، قالوا: ولو كان المال دِرْهَمًا. اهـ.
وقال الحطَّاب -المالكي- في "مواهِب الجليل"، على قول خليل في مختصره: (والقبر حبس، لا يُمْشى عليه، ولا يُنْبَش؛ إلاَّ أن يشحَّ ربُّ كفنٍ غصبه) قال الحطاب: "وكذلك إذا احتيج للمقْبرة لِمصالح المسلمين؛ كما فعل معاوية - رضِي الله عنه - في شُهَداء أحد.
وقال الدَّردير في "شرح أقرب المسالك": "والقَبْرُ حبسٌ على الميِّت لا يُنبش؛ أي: يحرم نبْشُه مادام الميِّت فيه، إلاَّ لضرورة شرعيَّة". اهـ.
وقال الباجي في "المنتقى على الموطأ": "ولا بأْس بحفر القبْر وإخراج الميت منه، إن كان ذلك لوجْه مصلحة، ولم يكن في ذلك إضْرار، وليس من هذا الباب نبْش القبور، فإن ذلك لوجه الضَّرر أو لغير منفعة". اهـ.
قال الإمام النَّووي - الشَّافعي - في "المجموع": "وأمَّا نبش القبْر، فلا يَجوز لِغير سببٍ شرْعي باتِّفاق الأصْحاب، ويجوز بالأسباب الشَّرعيَّة ... ومختصرُه: أنَّه يَجوز نبْش القبرِ إذا بلِي وصار ترابًا، وحينئذٍ يَجوزُ دفْن غيرِه فيه، ويَجوز زرْع تلك الأرْض، وسائر وجوه الانتِفاع ... إلى أن قال: وهذا كلُّه إذا لم يبقَ للميِّت أثرٌ من عظْمٍ وغيره، إلاَّ أنَّه إذا دعت ضرورةٌ لإدْخال ميِّت على آخَر قبل بلاء الأوَّل، جاز".
قال الإمام البغوي: "ولا يَجوز نبش قبور المسلمين لغير حاجة؛ روت عمْرَة عن عائشة، قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: "" ... فإن وقعت الحاجة فقد رُوِي عن جابر قال: دُفِن مع أبي رجلٌ وكان في نفسي من ذلك حاجة، فأخرجته بعد ستة أشهر".
ذكر أبو يعلى - الحنبلي - في "الأحكام السلطانيَّة" عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب، في الميت يخرج من قبْرِه إلى غيره: "إن كان من شيءٍ يؤذيه، قد حوِّل طلحة"، وفي رواية المرُّوذي في قوم دفنوا في بساتين، ومواضع رديَّة، فقال: قد نَبَش معاذ امرأته، وكانت قد كفنت في خلقان، فكفَّنها ولم يَرَ بأسًا أن يحوِّلها".
وسُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" عن الميت: هل يجوز نقله أم لا؟ فأجاب: لا ينبش الميت من قبره إلاَّ لحاجة؛ مثل أن يكون المدْفن الأوَّل فيه ما يؤذي الميِّت فينقل إلى غيره، كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك".
وقال في "الإقناع": "ويَجوز نبش القبْر لغرضٍ صحيح كتحْسِينِ كفنِه".
وقال علماء اللَّجنة الدَّائمة: "نقْل الميت من قبرِه إلى قبرٍ آخَر يُدْفَن فيه لا يجوز؛ إلاَّ لضرورةٍ تقْتضي ذلك شرعًا".
وممَّا سبق؛ يتبيَّن أنَّه لا يَجوز لكَ نبْش القبر ونقل والدَك من تلك المقبرة إلاَّ لغرض شرعيٍّ صحيح، أو حاجة ملحَّة؛ لأنَّ نبشه إهانة وامتهان واعتداء، ولأنَّه قد يؤدِّي إلى كسْر عظامه، وأما رؤياك فلا يصلح الاعتماد عليها لنقل والدك؛ لأن الرؤيا ليست دليلاً شرعيًّا، فقد تكون حديث نفس بسبب شعورك بالوضع الذي اكتنف قبر والدك وعدم ارتياحك له، ولو كانت الرؤيا صادقة فقد يكون غضب الوالد بسبب شيء آخر، فاحرص على طلب المغفرة له، والصدقة عنه وغير ذلك مما دلّ الدليل على وصوله للميت،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: