نظراتٌ شرعيةٌ في مصطلح ”تجديد الخطاب الديني“

منذ 2014-05-25
السؤال:

تتداول وسائلُ الإعلام عبارة “تجديد الخطاب الديني” فما المقصود بذلك؟ 

الإجابة:

أولاً: مصطلح ”تجديد الخطاب الديني” أو”تطوير الخطاب الديني” المستعملان في وسائل الإعلام، وعلى ألسنة كثيرٍ من الكاتبين والمتحدثين، من المصطلحات التي اختلط فيها الحق بالباطل، وقد يختلف المراد بها حسب المستعملِ لها، فأدعياء التنوير والتقدم من اللبراليين والعلمانيين والتغريبين، ومن لفَّ لفَّهم من عبيد الفكر الغربي، يريدون بمصطلح ”تجديد الخطاب الديني” تغيير ثوابت الدين الإسلامي وأصوله، ويهدفون إلى هدم قيمه ومبادئه الإسلامية، واستبدالها بأخرى محرفةٍ ومبدلةٍ، وهم في الحقيقة يقصدون جعل دين الإسلام متوافقاً مع النظرة الغربية للدين، بحجة جعل الإسلام متلائماً مع ظروف العصر. وأما دعاة الإسلام وعلماؤه وفقهاؤه، فمنهم من يقصد بمصطلح”تجديد الخطاب الديني”تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، والتجديد فيها، ومنهم من يقصد بيان حكم الإسلام في النوازل المستجدة، ومنهم من يقصد تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاش، ومراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادةٍ وتمحيصٍ، وتقريبٍ الفقه للناس وتيسيره، ونحو ذلك من المعاني الشرعية.

ثانياً: ورد التجديد في السنة النبوية، بمفهومٍ شرعيٍ، فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليَخْلَقُ فى جوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوب، فاسألوا اللهَ أن يُجددَ الإيمانَ فى قلوبكم» (رواه الطبرانى والحاكم، وقال الهيثمي: إسناده حسن. وحسنه أيضاً العراقي، وصححه العلامة الألباني). ومعنى ”يَخْلَقُ” أي يبلى. وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، مَنْ يُجددُ لها دينَها» (رواه أبو داود والحاكم والطبراني والبيهقي في المعرفة، وقال العراقي: سنده صحيح. وصححه العلامة الألباني).

قال المناوي: [قوله صلى الله عليه وسلم "يُجددُ لها دينها" أي يبين السُنَّةَ من البدعة، ويكثِّرُ العلمَ، وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم] فيض القدير2/357.

وقال أبو الطيب الآبادي: [المراد من التجديد، إحياءُ ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتةُ ما ظهر من البدع والمحدثات] عون المعبود 11/263.

ثالثاً: المجددون لدين الإسلام بالمفهوم الشرعي للتجديد، هم أهل العلم خاصةً، ومَنْ ينصرون الإسلام عامةً من القادة والخلفاء، قال المناوي: [قال ابن كثير قد ادَّعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر أنه يعمُّ جملةً من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسرٍ ومحدثٍ وفقيهٍ ونحويٍ ولغويٍ وغيرهم]  فيض القدير2/357.

وقد عدَّ العلماءُ عمرَ بن عبد العزيز رضي الله عنه من مجددي الإسلام، قال الإمام النووي في شرح حديث الطائفة الظاهرة: [ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59.

رابعاً: ذكر جماعة من العلماء مجموعةً من الضوابط للتجديد الشرعي، منها:

(1)مراعاة الاختصاص، يقول الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل الآية 43].

واليوم يتجرأ على التجديد وينظر له أنصاف المتعلمين، وأرباعهم، وأدنى من ذلك، فضلاً عن غيرهم ممن لا علاقة لهم من قريبٍ ولا من بعيدٍ بالإسلام وعلومه وفنونه، ومن لا علمَ له ولا فقهَ ولا خبرةَ ولا قدرةَ على الاستدلال بالنصوص، وإنزالها في منازلها، ولا يدري شيئاً عن قواعد الاستدلال، من حيث العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد والنسخ، والمصالح والمفاسد، وهؤلاء وإن كانوا بارعين في مجالاتٍ معينةٍ أو في اختصاصاتهم وفنونهم التي يشتغلون بها، لكنهم في العلم الشرعي لا يخرجون من فصيلة العوام، فالتجديدُ مهمةُ الراسخين في العلم، وأهلُ الحل والعقد في الأمة، عبر المجامع والمؤتمرات العلمية الجامعة التي تتمتع بالاستقلال وحرية الرأي.

(2)الموضوعية والتجرد من الأهواء المذمومة، فالمجددُ لا بد أن يكون  باحثاً عن الحقيقة، اتفقت مع ميوله أو لم تتفق، ومتمسكاً بالحق بعيداً عن الأهواء الباطلة، كالكبر والمذهبية والتقليد الأعمى وغيرها.

(3)الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية، فأصولُ الدين وثوابتهُ وقواعدهُ لا تقبل التجديد بأي حالٍ من الأحوال، وأي دعوةٍ لتجديدها، مردودةٌ ومرفوضةٌ، كالتجديد الذي يبيح الربا، ويرفض الحجاب، ويرفض إقامة الحدود، ويساوي بين الرجل والمرأة مساواةً مطلقةً. والتجديدُ المقبول شرعاً في الأصول والثوابت الإسلامية هو التجديدُ الذي يحيي الأصولَ ويعيدُ الحيوية إلى الثوابت، ويدعو إلى تطبيقها في واقع الناس اليوم، فدين الإسلام صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ.

(4)الاعتراف بمحدودية العقل البشري، وعدم إحلاله محل الوحي أو تقديم العقل على النصوص الثابتة المنقولة، لأن العقل البشري مهما بلغ في درجات الكمال، فالنقصان من لوازمه، فالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مقدمةٌ على العقل.

(5)أن يكون القصد من التجديد إصلاح الفكر الديني لدى الأمة، وتوعيتها بدينها الحق، وشرح أحكام الدين للناس بطريقةٍ صحيحةٍ بناءً على الأسس والثوابت.

(6)الالتزام بأساليب اللغة العربية وقواعدها في تفسير النصوص الدينية وتأويلها، لأن لغة العرب هي لغةُ الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [سورة الشعراء الآيات192-195].

(7)الحذرُ من الحُكم على أمرٍ ما اعتمادًا على نصٍ واحدٍ، وإغفال بقية النصوص التي وردت فيه، فلا بدَّ للمجدد أن يدرس المسائل الشرعية دراسةً عميقةً، وأن يدرس جميع النصوص الواردة في المسألة قبل أن يُصدر حكمه. انظر بحث”رؤية معاصرة في تجديد الخطاب الإسلامي”بتصرف.

وبمراعاة هذه الضوابط يظهر لنا أن التجديد يكون نابعاً من فهم الإسلام فهماً صحيحاً من مصادره الأصلية، بعيداً عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحملُ هذا العلمَ من كل خلفٍ عُدولهُ، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (رواه البيهقي وغيره، وصححه الإمام أحمد وابن عبد البر والعلامة الألباني)، والمقصود بهذا الحديث أن علوم الشرع يحملها من كل قرنٍ يَخلفُ السلفَ عدولهُ، أي ثقاتهُ، يعني من كان عدلاً صاحب التقوى والديانة، نافين عنه، أي طاردين عن هذا العلم، تحريف الغالين، أي المبتدعة الذين يتجاوزون في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن المعنى المراد، فينحرفون عن جهته، وانتحال المبطلين، أي الادعاءات الكاذبة، وتأويل الجاهلين، أي تأويل الجهلة لبعض القرآن والسنة إلى ما ليس بصواب. انظر المرقاة1/508-509.

وقال الإمام النووي: [وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم و حفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصرٍ خَلَفاً من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف وما بعده، فلا يضيع. وهذا تصريحٌ بعدالة حامليه في كل عصرٍ.

وهكذا وقع ولله الحمد. وهذا من أعلام النبوة، ولا يضر مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئاً من العلم، فإن الحديث إنما هو إخبارٌ بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف شيئاً منه] تهذيب الأسماء واللغات1/17.

والمجددون لدين الإسلام هم الذين قال عنهم الإمام أحمد بن حنبل: [الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ فترةً من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيـون بـكتاب الله المـوتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هدوه، فما أحسنَ أثرهم على الناس، وما أقبحَ أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجـاهـليـن، الذين عـقدوا ألويـة البـدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، مجتمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناس بما يُشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين] الفتاوى الكبرى6/253.

خامساً: المقصود المنحرف للتجديد كما يريده أعداء الإسلام من الكفرة واللبراليين والعلمانيين والتغريبين، هو هدم ثوابت الدين، فهذا تخريبٌ وليس تجديداً، قال الله عز وجل فيهم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [سورة البقرة الآية 120]، وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة آل عمران الآية 118].

ومن أهم ملامح هذا التخريب الديني عند المجددين المعاصرين، أتباع الغرب الحاقد على دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما يلي:

(1)إباحة الربا.

(2)منع تعدد الزوجات إلا بموافقة الزوجة الأولى، فحظروا ما أباحه الله تعالى.

(3)اعتبار حجاب المرأة مسألةَ حريةٍ شخصيةٍ، لا أمراً شرعياً، فالتقاليد والأعراف تحكم لباس المرأة وليس الشرع.

(4)اعتبار الحدود الشرعية لا رحمةَ فيها، فضلاً عن تشويهها للمجتمع، فيجب إعادة النظر فيها.

(5)إلغاء آيات الجهاد من كتاب الله عز وجل، لأنها تدعو إلى الإرهاب والعنف في عالمٍ ينبغي أن يسوده السلام الذي يريدون.

(6)إلغاء حكم القوامة للرجل على المرأة في زمن خرجت فيه المرأة للعمل وتعلمت وحصلت على أعلى الشهادات العلمية، فلا مجال للحديث عن قوامة الرجل التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [سورة النساء الآية34].

(7) تغيير مناهج التعليم طبقاً لسياسة تجفيف المنابع الدينية عند الناس.

(8)إغراق المجتمع في الفسق والرذائل الأخلاقية وتوسيع دائرة الانحلال الخلقي من خلال الأفلام والمسلسلات التي تدعو إلى ذلك.

(9)نشر الكتب ذات الثقافة الغربية والتي تطعن في دين الله مع تكريم أصحابها ومنحهم الجوائز العالمية على فعلهم الفاضح.

وخلاصة الأمر أن مصطلح ”تجديد الخطاب الديني”، من المصطلحات التي اختلط فيها الحق بالباطل، وأن عبيد الفكر الغربي، يريدون بهذا المصطلح تغيير ثوابت الدين الإسلامي وأصوله، بحجة جعل الإسلام متلائماً مع ظروف العصر. وأما دعاة الإسلام وعلماؤه وفقهاؤه، فيقصدون بالتجديد، تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، أو بيان حكم الإسلام في النوازل المستجدة، ونحو ذلك من المعاني الشرعية. وأن التجديد بمفهومه الشرعي الوارد في السنة النبوية، هو تبيين السُنَّةَ من البدعة، ونصرة أهل الإسلام، وإحياءُ ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة. وأن المجددين لدين الإسلام، هم أهل العلم خاصةً ومَنْ ينصرون الإسلام عامةً من القادة والخلفاء، وأن القصد من التجديد هو إصلاح الفكر الديني لدى الأمة، وتوعيتها بدينها الحق، وشرح أحكام الدين للناس بطريقةٍ صحيحةٍ بناءً على الأسس والثوابت. وأن التجديد الحقيقي هو إعادة الدِّين لما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأن المقصود المنحرف للتجديد كما يريده أعداء الإسلام، هو هدم ثوابت الدين، فهذا تخريبٌ وليس تجديداً. والتجديد بهذا المعنى كلمةُ حقٍ أُريد بها باطل. والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.