دحض شبهة إلجاء اليهود لأخذ العهد عليهم

منذ 2015-05-08
السؤال:

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه،

سؤالي يتعلَّق بعدَّة شُبهات ألقاها نصراني - لعنه الله - في الآية الكريمة.

أوَّلاً: قال: إنَّ الله أخذ من بني إسرائيل الميثاق بالعنوة والقوة والغصْب، كأن يهدِّد ولدٌ صديقَه فيقول له: إن لم تفعلْ كذا وكذا سألقي عليْك هذا الحجَر وأقتلك؛ أي: تَهديد الله لهم بِقبول الميثاق.

ثانيًا: شبهة حول أنَّ اليهود لا يَسجُدون على حاجبِهم الأيسر كما قال العبَّاس.

ثالثًا: أنَّ اليهودَ لَم يذكروا في كتُبِهم حوْل نتْق الجبَل، مع أنَّها معجزة رأتْها أعيُنُهم، فكان يَجِب أن يُظْهِروها ويفتخِروا بها.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ اليهودَ لمَّا تقاعسوا عن إعْطاء الميثاق، نتق الجبل فوقَهم كأنَّه ظلَّة؛ تهديدًا وزجْرًا وردعًا لهم، فأُمِروا أن يأخُذوا ميثاقَهم بقوَّة وجدٍّ، وأن يستمْسِكوا به، وألاَّ يتخاذَلوا، ولا يتهاونوا، ولا يتراجعوا في ميثاقِهم، فأعطوه في ظلِّ تلك الخارقة الهائلة القويَّة، الجديرة بالعِصْمة من الانتِكاس والارْتِكاس؛ فأخبرنا - سبحانه - أنه لما أخذَ عليْهِم الميثاق رفَعَ الجبَلَ على رُؤوسِهم؛ ليُقرُّوا بما عوهِدوا عليْه، ويأْخذوه بقوَّة وحزْم وهمَّة وامتثال، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]، وقد وردت في سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].

قال الأستاذ سيِّد قطب
في "ظلال القرآن" (ج3 / ص313): "إنَّه ميثاقٌ لا يُنْسَى؛ فقد أُخِذ في ظرْفٍ لا يُنْسى، أُخِذ وقد نتق اللهُ الجبلَ فوقَهم كأنَّه ظلَّة، وظنُّوا أنَّه واقع بهم، ولقد كانوا متقاعسين يومها عن إعْطاء الميثاق، فأعْطَوه في ظلِّ خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصِمَهم بعد ذلك من الانتِكاس، ولقدْ أمِروا في ظلِّ تلك الخارقة القويَّة أن يأخُذوا ميثاقَهم بقوَّة وجدِّيَّة، وأن يستمْسِكوا به في شدَّة وصرامة، وألاَّ يتخاذلوا ولا يتهاوَنوا، ولا يَتراجعوا في ميثاقِهم الوثيق، وأن يظلُّوا ذاكرين لما فيه؛ لعلَّ قلوبَهم تَخشع وتتَّقي، وتظلُّ موصولة بالله لا تنساه.

ولكنَّ إسرائيل هي إسرائيل! نقضتِ الميثاق، ونسِيَت الله، ولجَّت في المعصية حتَّى استحقَّت غضبَ الله ولعنتَه، وحقَّ عليْها القولُ بعد ما اختارَها الله على العالمين في زمانِها، وأفاء عليْها من عطاياه، فلم تشكر النعمة ولم ترع العهد، ولم تذكر الميثاق ... وما ربُّك بظلاَّم للعبيد".

وقال الطَّاهر بن عاشور في
"التَّحرير والتنوير" (ج1 / ص1669): "وهذه آيةٌ أظْهَرَها الله لهم تخويفًا لهم؛ لتكونَ مذكِّرة لهم، فيعْقب ذلك أخْذ العهد عليْهم بعزيمةِ العمَل بالتَّوراة، فكان رفْع الطور معجزةً لموسى - عليه السَّلام - تصديقًا له فيما سيبلغُهم عن الله من أخْذ أحْكام التَّوراة بعزيمة ومداومة". اهـ.

أمَّا رفْع الجبل فوقهم، فلم يكُن لإجْبارهم ولا إكراهِهِم على الميثاق كما يزعم النصارى؛ فمن المقرَّر أنَّه: {
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وإنَّما كانت تلك المعجزة الخارقة؛ لإخافتِهم وإرهابِهم بمعجزة ظاهرة عظيمة القُدْرة؛ من أجل أن يؤمنوا، كباقي معْجزات موسى الخارِقة للعادات، الَّتي لم يقُل أحدٌ من العُقلاء: إنَّها موجبة للإكْراه والإلجاء؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 130 - 136].

وقد أخبرَنا الله في قُرآنِه العظيم أنَّ المقْصود من إرسال الآيات التَّخْويف والتَّرْهيب ليرتدِعوا عمّا هُم عليْه، ومن لازم هذا أن يُؤمنوا؛ قال تعالى: {
وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]؛ أي: لأجل التخْويف، وقال تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]، فيرسل الحقُّ - سبحانه - آياتٍ مخوِّفة، كخسوف الشَّمس والقمَر والرِّياح الشَّديدة، والزَّلازِل المدمِّرة والجدْب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك، فيخوِّف الله النَّاس لعلَّهم يعتبرون أو يذَّكَّرون أو يرجعون، فالخوارقُ كانت تُصاحب الرِّسالات لتصْديق الرُّسُل وتَخويف النَّاس من عاقبة التَّكْذيب، وهي الهلاك بالعذاب.

والحاصِل أنَّ الممتنِع هو التَّكليف الإلجائي؛ لمنافاة الإلجاء للتَّكليف، ولكن ليْس نصْب الآيات والمعجزات والتَّخويف من الإلجاء، وإنَّما هو دلالة وبرهان على صِدْق الرَّسول وصحَّة ما جاء به، فالممتنع في التَّكليف هو التكْليف في حالة الإلجاء، لا التَّخويف لإتمام التَّكليف؛ كون اليهود أراهم الله معجزةً عجيبةً تَبْهَرُ العقول، وتردُّ المكذِّبَ إلى التَّصديق، والشَّاكَّ إلى اليقين، ومِن ثَمَّ أظهروا التَّوبة وأعْطَوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم، وأن يقوموا بالتَّوراة.


أمَّا ما يُحكَى عنِ ابن عبَّاس: أنَّهم لمَّا امتنعوا عن الطَّاعة رفع عليْهم الجبل ليسمعوا، فسقطوا سجَّدًا، "فسجدوا" على شقٍّ ونظروا بالشّقّ الآخر، فرحِمهم الله، فكشفه عنهم" - فلا يصحُّ بوجْه من الوجوه، وعلى فرْض صحَّته، فليس هو من الأحاديث الصحيحة المنسوبة للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّما هو مأخوذٌ عنْ أهْل الكِتاب.

أما ما قيل: من أن معجزة رفع الجبل ليست في كتُب اليهود، فالجواب: إن كان المقصود أنها غير موْجودة اليوم بعد ما أُجْرِي على تلك الكتب من تعْديل عليْها وَفْقَ ما تُمْليه عليهم أهواؤُهم، فنعم؛ فقد حذفت مع ما حذفوه من البِشارات بالنَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم.

فعدَم الذِّكْر لا يعني علمًا بالعدم، لا سيَّما مع أولئِك المحرِّفين والمبدِّلين، فمِن المعلوم بداهةً ما ألمَّ بتِلْك الكتُب من حذْفٍ وتحريفٍ وتبديلٍ، ونقصٍ وزيادة، ثمَّ إنَّ عُلماء النَّصارى يتَّهمون اليهود بالتَّحْريف وإخفاء البِشارات الدَّالَّة على المسيح، وأنَّهم فعلوا ذلك لمحادَّة دين النَّصارى، ونحن نتَّهم الفريقَين بتِلْك الفِعْلة الشَّنعاء.


وعليْه؛ فإنَّ ما نسب لابن عبَّاس - رضِي الله عنهما، على فرْض صحَّته - إنَّما أخذه من بعض اليَهود، أو مِن كتُبهم قبل أن ينالَها الحذف، وكذا جَميع ما ذكرَه علماءُ المسلمين ونسبوه لكتُبهم.

وعلى الرَّغْم من كلِّ هذا، فقد وردتِ الإشارة لتك المعجزة؛ كما في سفر الخروج (خروج 20: 18): "لمَّا أنزل الله الشَّريعة على موسى بِمرأى من بني إسرائيل، رأَوُا الرُّعود والبروق وصوْت البوق والجبل يدخّن، ففزِعوا وارْتعدوا، ووقعتْ هيْبة الله وموسى في قلوبِهم".

فحينما تجلَّى الله لموسى - عليْه السَّلام - في الطُّور تجلِّيًا خاصًّا للجبَل، تزعْزَعَ الجبلُ وتزلزل وارتجف، وأحاط به دخانٌ وضبابٌ ورعودٌ وبرق، كما ورد في صفة ذلك في الفصْل التَّاسعَ عشرَ من سفر الخروج، وفي الفصل الخامس من سفر التثنية. قاله الطا
هر بن عاشور في "التحرير والتنوير".

ثمَّ كيف يفتخِرون بتلك المعجزة وغيرِها وقد نقضوا جَميع العهود مع الله، وقتلوا أنبياءه، ولم يعملوا بما في كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم، وأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا البشارات بالجحود، وعبدوا العجل من دون الله - تعالى -، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين من العقوبة والأخذة الرابية ونبيهم حي لم يمت، ولم يكتفوا بكونه إلههم حتى جعلوه إله موسى؛ فنسبوا موسى - عليه السلام - إلى الشرك وعبادة غير الله - تعالى - بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعً
ا عن نفسه، بحيث يضرب به المثل في البلادة والذل؛ فجعلوه إلهَ كليمِ الرحمن، ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى - عليه السلام - ضالاً مخطئاً؛ فقالوا: فنسي.

وقالوا لنبيهم موسى - عليه السلام - لما دعاهم لدخول الأرض المقدسة: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]؛ فارتدوا على أدبارهم، وعصوا أمره، وانقلبوا خاسرين، وقابلوا أوامر الله - تعالى - بالتعنت وكثرة الأسئلة، مع قبح جهلهم وظلمهم وقسوة قلوبهم وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها.

ولما أرسل الله إليهم المسيح عيسى بن مريم مصدقاً بما جاء به موسى رموه وأمه بالعظائم، مع علمهم أنه رسول الله تعالى حقاً وصدقاً، فكفروا به بغياً وعناداً، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله - تعالى - من ذلك، ورفعه إليه وطهره منهم، فأوقعوا القتل والصلب على شبهه وهم يظنون أنه رسول الله عيسى - عليه السلام -؛ فألزمهم الله كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح، كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بخاتم النبين محمد - صلى الله عليه وسلم -. 

هذا؛ ولم يزل أمر اليهود في سفال ونقص؛ فباؤوا بغضب على غضب، فسبحان من عظم حلمه؛ حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة، وتواجه رسله بالقتل والتكذيب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسعهم حلمه وكرمه.

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام