الطواف بين التوحيد والشرك، ودحض الشبهات
السَّلام عليْكم،
أسأل سماحتكم عن طواف، يقول لي بعض من أصدِقائي غير المسلمين:
كيف تقولون: طواف بيتنا حرام، وأنتم تطوفون بالبيت في الحج؟!
أرجو منكم الجواب في أقرب وقت.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ صاحبَ تلك الشبهة، أُوتي من عجمة القلْب واللسان، فلم يعرِف الفارق بين التَّوحيد الذي هو إفراد العبادة لله، والاستسلام لأوامره - سبحانه - واتِّخاذه - جلّ وعلا - ربًّا ومعبودًا، فردًا صمدًا، وبين الشِّرك الَّذي هو عبادة غيرِ الله، والاستِسْلام لغير الله، من نبيٍّ، أو ولي، أو من حجَر، أو شجر؛ كما قال تعالى عن عبَّاد الصليب: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. ويمكن أن يقول هذه الدعوى في كل عبادة، فيمكن أن يقول: لماذا نصلي في المسجد، ولماذا لا يكون الصوم في شهر غير رمضان، وهكذا!
فالموحِّد الحقّ، ينقاد لأوامر ربِّه وسيِّده، فإذا أمره بالسُّجود لبشَرٍ، أو بتعْظيم حجرٍ، امتثلَ واستسْلم؛ طاعةً لله، وعبادة لسيِّده ومولاه، وليس عبادة للبشر والحجر؛ كما فعلت الملائكة لمَّا أُمِروا بالسّجود لآدم - عليْه السَّلام - فسجدوا، وامتنع إبْليس اللعين؛ لأنَّه قاس قياسًا فاسدًا، كما فعل صانع تلك الشُّبْهة المتهافِتة في نفسها.
أمَّا المشرك الوثَني، فيسجُد للبشر، أو للحجَر؛ تعظيمًا للبشَر، أو الحجر؛ توهُّمًا للنَّفع أو رفْع الضّرّ، مقبلاً عليه؛ رغبةً ورهبةً، متخشِّعًا، ومتذلِّلاً.
أما طواف المسلمين الموحدين، وطواف المشرِكين، فلا يشتبهان، فطواف المسلمين، عبادة وطاعة لرب البيت، وطواف غيرهم من المشركين، عبادة لما يطوفون به، من الأماكن التي يعظمونها، والتي يعبدونها من دون الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "أمَّا الخضوع والقنوت بالقلوب، والاعتِراف بالربوبيَّة والعبوديَّة، فهذا لا يكون على الإطْلاق إلاَّ لله - سبحانه وتعالى - وحدَه، وهو لغيره مُمتنع باطل، وأمَّا السجود، فشريعةٌ من الشَّرائع؛ إذ أمرَنا اللهُ تعالى أن نسجُد له، ولو أمرنا أن نسجُد لأحدٍ من خلقِه غيره، لسجدنا لذلك الغير؛ طاعة لله - عزَّ وجلَّ - لأنه أحب أن نعظِّم مَن سجدنا له، ولو لم يفرض عليْنا السجود، لَم يجب علينا فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له، وقربةٌ يتقرَّبون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم". اهـ. من "مجموع الفتاوى".
ومما يُبيِّن أن الطواف بالبيت، ليس عبادة للبيت، وإنَّما يُفعل استجابة لأمره تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]، واتباعًا لفعل رسولِه صلى الله عليه وسلم، فالمعبود هو الله، والشعيرة هي الطواف - ما روى البُخاري ومسلم في صحيحيهما عن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - أنَّه قبَّل الحجر الأسود وقال: "لولا أنِّي رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقبِّلُك ما قبَّلتُك".
وقد بيَّن – سبحانه - أنَّ المقصد الأسْمى من الحج، هو التوحيد، وإقامة ذِكْر الله - تعالى - كما قال تعالى : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ} [قريش: 3]، وقال:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 198 - 200]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]، وقال الصَّادق المصْدوق: « »؛ رواه أحمد وأبو داود.
وأيضًا؛ فطواف المسلم بالبيت العتيق؛ طاعةً وإجلالاً لأمر الله - تعالى - بذلك، تعظيمٌ لشعائر الله؛ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، فالمعظِّم لها يبرهِن على تقواه وصحَّة إيمانه؛ لأنَّ تعظيمَها تابع لتعظيم الله وإجلاله، فتأمل!
قال ابن الجوزي - في معرض كلامه عن أعمال الحج -: "إنَّ أصل العبادة معقول، وهو ذلُّ العبد لمولاه بطاعته، فإنَّ الصلاة، فيها من التواضع والذّلِّ ما يُفهم منه التعبُّد، وفي الزَّكاة، إرفاق ومواساة يفهم معناه، وفي الصوم، كسر شهوة النَّفس؛ لتنقاد طائعةً إلى مخْدومها، وفي تشْريف البيت ونصبه مقصدًا، وجعْل ما حوله حرمًا؛ تفخيمًا له، وإقبال الخلق؛ شعثًا غبرًا، كإقبال العبد إلى مولاه؛ ذليلاً معتذرًا - أمرٌ مفهوم". اهـ. من "مثير العزم الساكن".
هذا؛ ومعاني الطواف بالبيت، معقولة، لا يخفى حسنُها إلا على جاهل، فالحاجّ صورتُه، صورة عبد أحسَّ من سيّده سخطًا عليه، وتيقَّن ذلك؛ لِما يعلمه من تقْصير نفسه في طاعة سيده، فيقصد دارَه؛ متعرِّضًا لصفحه، فهو يطوف، ويسعى، ويعمل أعمال الحجِّ كلَّها؛ استجلابًا لرضا مولاه، وسيِّدُه، في نهاية الجود والكرم، فهو يقبله، وبان أن مَن زعم من جهَّال الملْحدين، النَّافين للشَّرائع: أنَّ الطَّواف، يشبه طواف المشْركين بمعابدهم، فقد شهِد على نفسه بالسخف، والكذب، وقلَّة العقل.
وأيضًا؛ لمَّا غابت عنْهم معاني الطواف، لَم يُدْركوا حسنه مع ظهورها، فالمشركون لما كانوا يقبِّلون الحجارة على جهة العبادة لها؛ إشراكًا بالله تعالى، كان المسلم الموحِّد، يقبل الحجَر الأسود، ويطوف بالبيت؛ تعظيمًا لشعائر الله، لا عبادة لغيره؛ ولهذا استحبَّ أهل العلم أن يقول في أوَّل الطَّواف: بسم الله، الله أكبر، اللهُمَّ إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك واتباعًا لسنَّة نبيِّك - صلَّى الله عليه وسلَّم - أي: أفعل هذا الطواف والتقبيل للحجر؛ إيمانًا بك، وتصديقًا لرسولكَ - صلى الله عليه وسلم - وتقرُّبًا إليْك.
وممَّا يبين أن الطواف بالبيت العتيق، من صور التوحيد الخالص: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الطواف: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] في الرَّكعة الأولى؛ لأنَّها براءة من الشِّرك وأهله، وحسم لأطماعِهم من الدخول فيه، أو الموافقة لهم على التديُّن له، وقرأ في الركعة الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؛ لأنَّها سورة الإخلاص، فكأنَّه قال: تبرَّأنا من الشرك وأخلصْنا لله - عزَّ وجلَّ - بالإسلام، وهذا الحديث يصلح دليلاً مستقلاً بذاته.
ومن هذا المعنى دعاء النَّبيِّ - عليْه الصلاة والسَّلام – بالتوحيد والتنزُّه من الشرك، حين رَقِىَ على الصفا، فَكَبَّرَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ، وقال: « » رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
هذا؛ والإسلام قد حسم مادَّة الشِّرك، ولما كان أصل الشرك عبادة الأوثان، قال النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: « »؛ رواه أحمد ومالك، ونهى عن الصَّلاة في القبور، واتَّفق العلماء على أنَّ مَن زار قبرَ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - أو قبر غيرِه من الأنبِياء والصَّالحين: أنَّه لا يتمسَّح به ولا يقبِّله، بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يُشْرَع تقبيلُها إلاَّ الحجَر الأسود، ولا يسنّ - باتّفاق الأئمَّة - أن يقبِّل الرجل أو يستلم ركني البيت، اللَّذَين يليان الحجر، ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا قبر أحدٍ من الأنبياء والصَّالحين، ولما قال رجلٌ للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: ما شاء الله وشئت، قال: « »؛ رواه النسائي وأحمد، وقال: « »؛ رواه ابن ماجه وأحمد.
ونهى عن تعْظيمه فقال: « »؛ رواه البخاري، وكان الصحابة إذا رأَوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك، ولمَّا سجد له معاذ، نهاه وقال: « »؛ رواه ابن ماجه وأحمد.
وممَّا سبق يتبيَّن الفارق الكبير بين عبادة المسلِمين الموحِّدين الَّتي لا تفعل إلاَّ لله؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، وقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلى قوله: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26، 27]، وبين عبادات الوثنيِّين والمشركين، التي يقصَد بها الوثن، فالفرق بينهما هو نفس الفرْق بين الكفر والإيمان.
وننبه السائل الكريم إلى أنه لا يجوز للمسلم أن تكون له صداقات بأهل الكفر؛ وراجع على موقعنا فتوى: "صداقة المسلم للصابئ"، وفتوى "معنى الولاء والبراء وكيفيته" للشيخ ابن باز،،
والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: