سُئِلَ عن ‏عذاب القبر‏ هل هو على النَّفْس والبَدن أو ..

منذ 2006-12-01
السؤال: سُئِلَ شَيْخ الإسْلام قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَه وهو بمصر عن ‏[‏عذاب القبر‏]‏‏:‏ هل هو على النَّفْس والبَدن أو على النفس دون البدن‏؟‏ والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا‏؟‏ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم تَعُدْ‏,‏ فهل يتشاركان في العذاب والنعيم‏؟‏ أو يكون ذلك على أحدهما دون الآخر‏؟‏
الإجابة: الحمد للّه رب العالمين‏.
‏‏ بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة‏,‏ تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن‏,‏ وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها‏,‏ فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين‏,‏ كما يكون للروح منفردة عن البدن‏.
‏‏
‏ وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح‏؟‏

هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام‏,‏ وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث‏,‏ قول من يقول‏:‏ إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح؛ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب‏.‏
وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان‏,‏ وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين‏.‏

‏ ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم‏,‏ الذين يقولون‏:‏ لا يكون ذلك في البرزخ‏,‏ وإنما يكون عند القيام من القبور‏.
‏‏
‏ وقول من يقول‏:‏ إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب‏,‏ وإنما الروح هي الحياة‏,‏ وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام‏,‏ من المعتزلة‏,‏ وأصحاب أبي الحسن الأشعري‏,‏ كالقاضي أبي بكر‏,‏ وغيرهم‏,‏ وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن‏,‏ وهذا قول باطل‏,‏ خالفه الأستاذ أبو المعالي الجُوَيْني وغيره‏,‏ بل قد ثبت في الكتاب والسنة‏,‏ واتفاق سلف الأمة‏,‏ أن الروح تبقى بعد فراق البدن‏,‏ وأنها منعمة أو معذبة‏.
‏‏
‏ من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام‏,‏ بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف‏,‏ والتحقيق والكلام‏.
‏‏
‏ والقول الثالث الشاذ‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب‏,‏ بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى‏,‏ كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة‏,‏ ونحوهم‏,‏ الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه‏,‏ بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن‏,‏ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب‏.

‏‏‏ فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ‏,‏ لكنهم خير من الفلاسفة؛ لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى‏.‏

‏ فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة‏,‏ فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها‏:‏ أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب‏,‏ وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه‏,‏ وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة‏,‏ وأنها تتصل بالبدن أحيانًا‏,‏ فيحصل له معها النعيم والعذاب‏.‏

‏ ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها‏,‏ وقاموا من قبورهم لرب العالمين‏.
‏‏
‏ ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين‏,‏ واليهود‏,‏ والنصارى‏.
‏‏ وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة‏.‏
وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب‏؟‏ أثبت ذلك طائفة منهم‏,‏ وأنكره أكثرهم‏.‏

‏ ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه‏.‏
فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير‏:‏ فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏,‏ مثل ما في الصحيحين‏:‏ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال‏:‏ ‏"‏إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير‏,‏ أما أحدهما فكان يمشى بالنَّمِيمة‏,‏ وأما الآخر فكان لا يَسْتَتِر من بَوْله، ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين‏,‏ ثم غرز في كل قبر واحدة‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ لم فعلتَ هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏لعله يُخفَّف عنهما ما لم يَيبَْسَا‏"‏‏‏.
‏‏
‏ وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال‏"بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة ونحن معه إذ جالت به‏,‏ فكادت تلقيه‏,‏ فإذا أقبر ستة أو خمسة‏,‏ أو أربعة‏.‏ فقال‏:‏ ‏ من يعرف هذه القبور‏؟‏‏فقال رجل‏:‏ أنا‏.‏ قال‏: ‏‏ فمتى هؤلاء‏؟‏‏ قال‏:‏ ماتوا في الإشراك‏.‏ فقال‏:‏ ‏ إن هذه الأمة تبتلى في قبورها؛ فلولا ألا تدافنوا لدعوت اللّه أن يُسِمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال‏:‏ ‏تَعوَّذوا باللّه من عذاب القبر.قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من عذاب القبر‏.‏ قال‏:‏ ‏تعوذوا باللّه من عذاب النار.قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من عذاب النار‏.‏ قال‏:‏ تعوذوا باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن‏.‏ قال‏:‏ ‏ تعوذوا باللّه من فتنة الدجال. قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من فتنة الدجال‏"..
‏‏
‏ وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل‏:‏ أعوذ باللّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم‏,‏ ومن عذاب القبر‏,‏ ومن فتنة المحيا والممات‏,‏ ومن فتنة المسيح الدجال‏"‏‏‏.
‏‏
‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن‏:‏ ‏"اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم‏,‏ وأعوذ بك من عذاب القبر‏,‏ وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏,‏ وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات‏"‏‏‏.
‏‏
‏ وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال " خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجَبَتِ الشمس‏,‏ فقال‏:‏ ‏يهود يعذبون في قبورهم‏"‏‏‏ [‏وجَبَت الشمس،أي غابت‏] ‏‏.
‏‏
‏ وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏‏" دخلت علىّ عجوز من عجائز يهود المدينة‏,‏ فقالت‏:‏ إن أهل القبور يعذبون في قبورهم‏.‏ قالت‏:‏ فكذبتها ولم أنْعَمْ أن أصدقها‏,‏ قالت‏:‏ فخرجت فدخل عليَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏,‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت علىّ، فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم‏.‏فقال‏:‏ ‏صَدَقَتْ‏,‏ إنهم يعذبون عذابًا يسمعه البهائم كلهافما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر"‏‏.‏

‏ وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مُبَشِّر رضي اللّه عنها قالت‏ " دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط وهو يقول‏: ‏‏ تعوذوا باللّه من عذاب القبرفقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ للقبر عذاب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏ إنهم ليعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم‏)".
‏‏
‏ قال بعضهم‏:‏ ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت‏ [‏أي‏:‏ أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع البَقْل]‏ إلى قبور اليهود‏,‏ والنصارى والمنافقين‏,‏ كالإسماعيلية والنصيرية‏,‏ وسائر القرامطة‏:‏ من بني عبيد وغيرهم‏,‏ الذين بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك‏,‏ كما يقصدون قبور اليهود والنصارى‏,‏ والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة‏,‏ وأنهم من أولياء اللّه‏,‏ وإنما هو من هذا القبيل‏.‏
فقد قيل‏:‏ إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل‏.
‏‏ والحديث في هذا كثير لا يتسع له هذا السؤال‏.
‏‏
‏ وأحاديث المسألة كثيرة أيضًا‏,‏ كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا اللّه‏,‏ وأن محمدًا رسول اللّه ؛ فذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏‏.‏
وفي لفظ‏:‏ ‏‏"‏نزلت في عذاب القبر يقال له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي اللّه‏,‏ وديني الإسلام‏,‏ ونبيي محمد‏,‏ وذلك قول اللّه تعالى‏:‏ {‏‏‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}‏‏‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏‏.
‏‏
‏ وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولًا‏,‏ كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال " خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار‏,‏ فانتهينا إلى القبر ولما يلحد‏,‏ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله‏,‏ كأنما على رؤوسنا الطير‏,‏ وفي يده عود ينكت به الأرض‏,‏ فرفع رأسه فقال‏:‏ ‏استعيذوا باللّه من عذاب القبرمرتين أو ثلاثا‏,‏ وذكر صفة قبض الروح وعروجها إلى السماء‏,‏ ثم عودها إليه‏.‏ إلى أن قال‏: ‏‏ وإنه ليسمع خَفْقَ نعالهم إذا وَلُّوا مدبرين حين يقال له‏:‏ يا هذا‏,‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏‏" .
‏‏
‏ وفي لفظ‏:‏ ‏‏"‏فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له‏:‏من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي اللّه‏.‏ فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ ديني الإسلام‏.‏ فيقولان‏:‏ ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟ قال‏:‏ ‏فيقول‏:‏ هو رسول اللّه‏.‏ فيقولان‏:‏ وما يدريك‏؟‏ فيقول‏:‏ قرأت كتاب اللّه وآمنت به‏,‏ وصدقت به‏,‏ فذلك قول اللّه‏"‏‏ ‏{‏‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏فينادي مناد من السماء‏:‏ أن صدق عبدي‏,‏ فافرشوا له في الجنة‏,‏ وألبسوه من الجنة‏,‏ وافتحوا له بابًا إلى الجنة قال‏:‏ فيأتيه من روحها وطيبها. قال‏:‏ ‏ويفسح له مد بصره‏" ‏‏.‏ قال‏:‏‏ وإن الكافر‏"‏‏ فذكر موته‏.‏ وقال‏:‏ ‏‏"‏وتعاد روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه‏,‏ فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول هاه، هاه‏,‏ لا أدري‏,‏ فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه‏.‏ هاه‏.‏ لا أدري‏,‏ فينادي مناد من السماء‏:‏ أن كذب عبدي‏,‏ فافرشوا له من النار‏,‏ وألبسوه من النار‏,‏ وافتحوا له بابًا إلى النار. قال ‏:‏ ‏ويأتيه من حَرّها وسُمومها قال‏: ‏‏ ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.‏ قال‏:‏ ‏ثم يقيض له أعمى أبكم معه مِرْزَبَة من حديد‏,‏ لو ضرب بها جبل لصار ترابًا‏".‏ قال‏:‏ ‏ فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين‏,‏ فيصير ترابًا‏,‏ ثم تعاد فيه الروح‏"‏‏‏.
‏‏
‏ فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد‏,‏ وباختلاف أضلاعه‏,‏ وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين‏.‏

‏ وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة‏,‏ والنعيم والعذاب‏,‏ رواه أبوهريرة‏,‏ وحديثه في المسند وغيره‏,‏ ورواه أبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم‏,‏ إذا ولوا عنه مدبرين‏,‏ فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه‏,‏ وكان الصيام عن يمينه‏,‏ وكانت الصدقة عن شماله‏,‏ وكان فعل الخير من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه‏,‏ فيأتيه الملكان من قبل رأسه‏,‏ فتقول الصلاة‏:‏ ما قبلي مدخل‏,‏ ثم يؤتى عن يمينه‏,‏ ويقول الصيام‏:‏ ما قِبَلي مدخل‏,‏ ثم يؤتى عن يساره‏,‏ فتقول الزكاة‏:‏ ما قبلي مدخل‏,‏ ثم يؤتى من قبل رجليه‏,‏ فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة‏,‏ والمعروف والإحسان‏:‏ ما قبلي مدخل‏!‏‏!‏ فيقول له‏:‏ اجلس فيجلس قد مَثُلَتْ له الشمس‏,‏ وقد أصغت للغروب‏.‏ فيقول‏:‏ دعوني حتى أصلي‏:‏ فيقولون‏:‏ إنك ستصلي‏,‏ أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه ‏؟‏ وماذا تشهد به عليه‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد‏,‏ نشهد أنه رسول اللّه‏,‏ جاء بالحق من عند اللّه فيقال له‏:‏ على ذلك حييت‏,‏ وعلى ذلك تُبْعَث إن شاء اللّه‏,‏ ثم يفتح له باب إلى الجنة‏,‏ فيقال‏:‏ هذا مقعدك‏,‏ وما أعد اللّه لك فيها‏,‏ فيزداد غِبْطَةً وسرورًا‏,‏ ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا‏,‏ ويُنَوَّر له فيه‏,‏ ويعاد الجسد لما بدئ منه‏,‏ وتجعل روحه نَسَم طير يعلق في شجر الجنة‏"‏‏‏.‏ قال‏:‏ ‏‏فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏ ‏.‏

‏ وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال‏:‏"يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه‏" فتلك المعيشة الضنك‏,‏ التي قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏‏لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏124‏]‏‏.‏
ههذا الحديث أخصر‏.‏

‏ وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن‏,‏ فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر‏,‏ وهو في المسند وغيره بطوله‏.
‏‏ وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏‏"‏إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة‏,‏ وانقطاع من الدنيا‏,‏ نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه‏,‏ كأن وجوههم الشمس‏,‏ معهم كفن من أكفان الجنة‏,‏ وحَنُوط من حنوط الجنة‏,‏ فيجلسون منه مد البصر‏,‏ ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‏,‏ فيقول‏:‏ أيتها النفس الطيبة‏,‏ اخرجي إلى مغفرة ورضوان‏.‏قال‏:‏ ‏ فتخرج تسيل كما تسيل القَطْرَة من فِىِّ السِّقاء‏,‏ فيأخذها‏,‏ فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها‏.‏ فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط‏,‏ فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض‏.‏ قال‏:‏ ‏فيصعدون بها‏,‏ فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذه الروح الطيبة‏؟‏‏!‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان‏,‏ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا‏,‏ فينتهون به إلى السماء الدنيا‏,‏ فيستفتحون له فيفتح له‏‏‏.‏ قال‏:‏ فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها‏,‏ حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة‏.‏ فيقول‏:‏ اكتبوا كتاب عبدي في عليين‏,‏ وأعيدوه إلى الأرض‏,‏ فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.‏ قال‏:‏ ‏‏فتعاد روحه في جسده‏,‏ ويأتيه ملكان فيجلسانه‏"‏‏‏.

‏‏‏ وذكر المسألة كما تقدم‏,‏ قال‏:‏ ‏‏"‏ويأتيه رجل حسن الوجه‏,‏ طيب الريح‏,‏ فيقول له‏:‏ أبشر بالذي يسرك‏,‏ فهذا يومك الذي قد كنت توعد‏,‏ فيقول له‏:‏ من أنت‏؟‏ فوجهك الوجه الذي يجىء بالخير‏؟‏ ‏!‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح‏.‏ فيقول‏:‏ رب‏,‏ أقم الساعة‏,‏ رب أقم الساعة‏,‏ رب أقم الساعة‏,‏ حتى أرجع إلى أهلي ومالي‏"..‏ قال‏:‏ ‏‏"‏وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا‏,‏ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه‏,‏ معهم المسوح‏,‏ فيجلسون منه مد البصر‏,‏ ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‏,‏ فيقول‏:‏ أيتها النفس الخبيثة‏,‏ اخرجي إلى سخط اللّه وغضبه‏,‏ فتفرق في أعضائه كلها‏,‏ فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود"‏‏ [‏السَّفُّود ـ بالفتح والضم مع التشديد‏:‏ حديدة ذات شعب معقفة‏,‏ يشوي بها اللحم‏] ‏من الصوف المبلول‏,‏ "فتتقطع معها العروق والعصب‏‏‏.‏ قال‏: ‏‏فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها‏,‏ فيجعلوها في تلك المسوح‏‏‏.‏ قال‏:‏‏ فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض‏,‏ فيصعدون بها‏,‏ فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذه الروح الخبيثة‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان‏,‏ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا‏,‏ فيستفتحون لها فلا يفتح لها، ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏"‏‏ ‏{‏‏لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏40‏]‏‏,‏ "ثم يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى قال‏:‏ ‏فتطرح روحه طرحًا.ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏"‏‏‏{‏‏أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏‏‏]‏الحج‏:‏31‏]‏‏.‏" قال‏:‏ ‏ فتعاد روحه في جسده‏,‏ فيأتيه ملكان فيجلسانه‏,‏ فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه‏,‏ هاه‏,‏ لا أدري‏".
‏‏ وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال‏:‏ ‏‏"‏ويأتيه رجل قبيح الوجه مُنْتن الريح‏,‏ فيقول‏:‏ أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد ؛ فيقول‏:‏ من أنت فوجهك الوجه الذي لا يأتي بالخير‏؟‏ قال‏:‏ أنا عملك السوء‏.‏ فيقول‏:‏ رب‏,‏ لا تقم الساعة ثلاث مرات"‏‏.
‏‏
‏ ففي هذا الحديث أنواع من العلم‏:‏
منها‏:‏ أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن‏,‏ خلافًا لضلال المتكلمين‏,‏ وأنها تصعد وتنزل خلافًا لضلال الفلاسفة‏,‏ وأنها تعاد إلى البدن‏,‏ وأن الميت يسأل‏,‏ فينعم أو يعذب‏,‏ كما سأل عنه أهل السؤال‏,‏ وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة‏.
‏‏
‏ وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏إن العبد إذا وضع في قبره‏,‏ وتولى عنه أصحابه‏,‏ إنه ليسمع خَفْق نعالهم‏,‏ أتاه ملكان فيقررانه‏.‏ فيقولان‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل محمد‏؟‏ فأما المؤمن فيقول‏:‏ أشهد أنه محمد عبد اللّه ورسوله.قال‏: ‏‏ فيقول‏:‏ انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدًا من الجنة‏"‏‏‏.‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏"‏فيراهما كليهما‏"‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا‏,‏ ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون‏.
‏‏ ثم نرجع إلى حديث أنس‏:‏ ‏‏"‏ويأتيان الكافر والمنافق فيقولان‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أدري‏,‏ كنت أقول كما يقول الناس‏.‏ فيقول‏:‏ لا دريت ولا تليت‏.‏ ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه‏,‏ فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين‏".
‏‏
‏ وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه وأكثر اللفظ له عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏"‏إذا قبر أحدكم الإنسان‏,‏ أتاه ملكان أسودان أزرقان‏,‏ يقال لهما‏:‏ منكر والآخر نكير‏.‏ فيقولان له‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل محمد‏؟‏ فهو قائل ما كان يقول‏,‏ فإن كان مؤمنًا قال‏:‏ هو عبد اللّه ورسوله‏,‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه‏,‏ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ فيقولان‏:‏ إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك ‏.‏

‏ ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا‏,‏ وينور له فيه‏,‏ ويقال له‏:‏ نم‏.‏ فيقول‏:‏ أرجع إلى أهلي فأخبرهم‏.‏ فيقولان له‏:‏ نم‏,‏ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه‏,‏ حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك‏.‏ وإن كان منافقًا قال‏:‏ لا أدري‏,‏ كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فقلته‏.‏ فيقولان‏:‏ إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك‏.‏ ثم يقال للأرض‏:‏ التئمي عليه‏,‏ فتلتئم عليه‏,‏ حتى تختلف فيها أضلاعه‏,‏ فلا يزال معذبًا حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك‏"
وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك‏,‏ مما يبين أن البدن نفسه يعذب‏.‏

‏ وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء‏.‏ فيقولون‏:‏ اخرجي كأطيب ريح المسك‏,‏ حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا‏,‏ حتى يأتوا به باب السماء‏,‏ فيقولون‏:‏ ما أطيب هذا الريح متى جاءتكم من الأرض‏؟‏ فيأتون به أرواح المؤمنين‏,‏ فَلَهُمْ أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه‏,‏ يسألونه‏:‏ ماذا فعل فلان‏؟‏ فيقولون‏:‏ دعوه‏,‏ فإنه في غم الدنيا‏,‏ فإذا قال‏:‏ إنه أتاكم‏.‏ قالوا‏:‏ ذهب إلى أمه الهاوية‏.‏ وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح‏.‏ فيقولون‏:‏ اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب اللّه‏,‏ فتخرج كأنتن جيفة‏,‏ حتى يأتوا به أرواح الكفار"‏‏.
‏‏ رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصرًا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه‏.
‏‏ وعند الكافر ونتن رائحة روحه‏,‏ فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رِيطَة كانت عليه على أنفه هكذا‏.
‏‏‏ [‏والرِّيطةُ‏:‏ ثوب رقيق لين مثل الملاءة‏] ‏‏.
‏‏
‏ وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال‏:‏‏ "إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة‏,‏ فإذا قبضت نفسه جُعِلت في حريرة بيضاء‏,‏ فتنطلق بها إلى باب السماء‏,‏ فيقولون‏:‏ ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه الرائحة‏,‏ فيقال‏:‏ دعوه يسترح‏,‏ فإنه كان في غم الدنيا‏,‏ فيقال‏:‏ ما فعل فلان‏,‏ ما فعلت فلانة‏؟‏ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض تقول خزنة الأرض‏:‏ ما وجدنا ريحًا أنتن من هذه‏,‏ فيبلغ بها في الأرض السفلى‏".
‏‏
‏ ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه‏,‏ وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك‏.‏

‏ وعن كعب بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏إنما نَسَمَة المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه‏".
‏‏ رواه النسائي‏,‏ ورواه مالك والشافعي كلاهما‏ [‏نسمة المؤمن‏:‏ أي روحه] ‏‏.
[‏وقوله‏:‏ ‏[‏يَعْلُق‏]‏ بالضم أي‏:‏ يأكل]‏‏,‏ وقد نقل هذا في غير هذا الحديث‏.
‏‏
‏ فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء اللّه وإنما تنعم في الجنة وحدها‏,‏ وكلاهما حق‏.‏

‏ وقد روى ابن أبي الدنيا في ‏[‏كتاب ذكر الموت‏] ‏عن مالك بن أنس قال‏:‏ بلغني أن الروح مرسلة‏,‏ تذهب حيث شاءت‏.‏
وهذا يوافق ما روي‏:‏ ‏(‏أن الروح قد تكون على أفْنِيَة القبور‏)‏ ‏[‏أفْنِيَة‏:‏ جمع فناء‏,‏ وهو المتسع أمام الدار]‏ كما قال مجاهد‏:‏ إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام‏,‏ يوم يدفن الميت‏,‏ لا تفارق ذلك‏,‏ وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة‏,‏ كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏"‏ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه‏,‏ إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام‏".
‏‏
‏ وفي سنن أبي داود وغيره‏,‏ عن أوس بن أوس الثقفي‏,‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏"‏إن خير أيامكم يوم الجمعة‏,‏ فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة‏,‏ وليلة الجمعة‏,‏ فإن صلاتكم معروضة عليَّ .قالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏‏إن اللّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء‏"‏‏‏ .
‏‏
‏ وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه‏,‏ مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء اللّه ذلك كما يشاء‏,‏ وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن‏,‏ ومنعمة ومعذبة‏.
‏‏
‏ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى‏,‏ كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا‏:‏ ‏"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين‏,‏ وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون‏,‏ يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين‏,‏ نسأل اللّه لنا ولكم العافية‏.‏ اللّهم لا تَحْرِمْنَا أجرهم ولا تَفْتِنا بعدهم‏,‏ واغفر لنا ولهم‏" .
‏‏
‏ وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم‏,‏ ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة‏,‏ ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت‏,‏ بل يجوز أن يكون في حال دون حال‏.‏
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا‏,‏ ثم أتاهم فقام عليهم فقال‏:‏ يا أبا جهل بن هشام‏,‏ يا أميَّة بن خَلف‏,‏ يا عُتْبَة بن ربيعة‏,‏ يا شيبة بن ربيعة‏,‏ أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا‏؟‏ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا‏"‏‏.‏ فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ كيف يسمعون وقد جيَّفُوا‏؟‏ فقال‏: ‏‏والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏,‏ ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قَلِيب بدر"‏‏.‏

‏ وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قَليب بدر فقال‏:‏ ‏‏"‏هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا‏؟‏‏"‏‏‏,‏ وقال‏:‏ ‏‏"‏إنهم ليسمعون الآن ما أقول"‏‏‏,‏ فذكر ذلك لعائشة‏,‏ فقالت‏:‏ وَهِم َابن عمر‏,‏ إنما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلتُ لهم هو الحق ثم قرأت قوله تعالى‏:‏‏{‏‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏‏ ‏[‏النمل‏:‏80‏]‏ حتى قرأت الآية"‏‏.
‏‏
‏ وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر‏,‏ وإن كانا لم يشهدا بدرًا‏,‏ فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة‏,‏ وأبو طلحة شهد بدرًا‏.
‏‏ كما روى أبوحاتم في صحيحه عن أنس عن أبي طلحة رضي اللّه عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش‏,‏ فقذفوا في طَوِىِّ" ‏[‏أي‏:‏ بئر مطوية‏]‏ "من أطواء بدر‏,‏ وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عَرْصَتِهم"‏‏ [‏العَرْصَة‏:‏ كل بُقعة بين الدور واسعة‏,‏ ليس فيها بناء‏] ‏"ثلاث ليال‏.‏‏ فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها‏,‏ ثم مشى وتبعه أصحابه‏.‏ وقالوا‏:‏ ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته؛ حتى قام على شفاء الرَّكِي ‏[‏أي‏:‏ البئر‏]‏؛ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‏,‏ يافلان بن فلان‏,‏ أيسركم أنكم أطعتم اللّه ورسوله‏؟‏ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا‏.‏ فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ً‏؟‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏" ‏‏.‏

‏ قال قتادة‏:‏ أحياهم اللّه حتى سمعهم‏,‏ توبيخًا وتصغيرًا‏,‏ ونقمة وحسرة وتنديمًا‏.‏
وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك‏.‏

‏ والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره‏,‏ وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله‏:‏‏{‏‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏‏ ‏[‏النمل‏:‏80‏]‏ إنما أراد به السماع المعتاد‏,‏ الذي ينفع صاحبه‏,‏ فإن هذا مَثَل ضُرِب للكفار‏,‏ والكفار تسمع الصوت‏,‏ لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع‏,‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏171‏]‏‏.‏

‏ فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل‏,‏ لا يجب أن ينفى عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواعَ السماع‏,‏ كما لم ينف ذلك عن الكفار‏,‏ بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به‏,‏ وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم‏.
‏‏
‏ وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خَفْق نعالهم‏,‏ إذا ولوا مدبرين‏,‏ فهذا موافق لهذا‏,‏ فكيف يدفع ذلك‏؟‏ ومن العلماء من قال‏:‏ إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتًا‏,‏ كما قالت عائشة‏,‏ واستدلت به من القرآن‏.
‏‏ وأما إذا أحياه اللّه فإنه يسمع كما قال قتادة‏:‏ أحياهم اللّه له‏.
‏‏ وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها‏,‏ كما نحن لا نرى الملائكة والجن‏,‏ ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه‏,‏ وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر‏,‏ وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه اللّه عليه‏.
‏‏
‏ وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل‏,‏ وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه‏,‏ فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعًا‏‏.
‏‏ وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.
‏‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الرابع (العقيدة)