الوضوء من شحم وكبد الإبل

منذ 2016-02-23
السؤال:

يا شيخ/ هل أكل كبد البعير وشحمه ينقض الوضوء أم لا؟

فقد بحثت المسألة فكان الأدلة قوية.

فأقوى دليل لمن قال بعدم النقض هو: (أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الدمان فالكبد والطحال..) فقد سمى الكبد دماً وليس لحماً، وأقوى دليل لمن قال بالنقض: (ولحم الخنزير).

فما هو الراجح وفقكم الله؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد ورد في انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل عدة أحاديث، أصحُّها: حديثا جابر بن سمرة، والبراء بن عازب.

أما حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ: فأخرجه مسلم في "صحيحه" عنه رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَأَتَوَضَّأُ من لُحُومِ الْغَنَمِ؟" قال: «إن شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فلا تَوَضَّأْ»، قال: "أَتَوَضَّأُ من لُحُومِ الْإِبِلِ؟" قال: «نعم فَتَوَضَّأْ من لُحُومِ الْإِبِلِ».

وأما حديث الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ: فأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان في "صحيحه" عنه رضي الله عنه قال سُئِلَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الْوُضُوءِ من لُحُومِ الْإِبِلِ؟ فقال: «تَوَضَّئُوا منها»، وَسُئِلَ عن الْوُضُوءِ من لُحُومِ الْغَنَمِ؟ فقال: «لا تتوضؤا منها».

فإجابته بنعم في لحم الإبل، وبإن شئت في لحم الغنم، دليل على أن الوضوء من لحم الإبل ليس راجعًا إلى مشيئته، بل هو أمر مفروض عليه، ولو لم يكن مفروضًا لكان راجعًا إلى المشيئة.

وفي حديث البراء الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحم الإبل.

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أكل لحم الإبل هل ينقض الوضوء أم لا؟ فأجاب: "الحمد لله قد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه..." وساق الحديث الأول، ثم قال: "وثبت ذلك في السنن من حديث البراء بن عازب قال أحمد فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة...".

وكان مذهب الإمام الشافعي رحمه الله: أن لحم الإبل لاينقض الوضوء، لكن لما رأى أساطين المذهب صحة الأحاديث الواردة فيه ذهبوا إلى القول بالنقض، وهم: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والبيهقي والنووي وابن حجر، رحم الله الجميع.

وهذا ما يقتضيه مذهب الإمام الشافعي رحمه الله؛ فإنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".

وعلى هذا فإذا أكل الإنسان لحم إبل انتقض وضوؤه، سواء أكان الأكل كثيرًا أم قليلاً، وسواء أكان اللحم نيِّئًا أو مطبوخًا، وسواء كان اللحم من اللحم الأحمر أو من الأمعاء، أو من الكرش، أو من الكبد، أو من القلب، أو من أي شيء كان من أجزاء البدن؛ لأن الحديث عام لم يفرق بين لحم وآخر، والعموم في لحم الإبل كالعموم في لحم الخنزير، حين قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] .

فإن لحم الخنزير هنا يشمل كل أجزاء بدنه، وهكذا لحم الإبل الذي سئل النبي- صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء منه يشمل جميع أجزاء البدن، وليس في الشريعة الإسلامية جسد واحد تختلف أحكامه، فيكون جزء منه له حكم وجزء منه له حكم آخر، بل الجسم كله تتفق أجزاؤه في الحكم. وانظر "الشرح الممتع" 1/247 وما بعده للشيخ محمد بن عثيمين.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح العمدة": "وفي النقض بالأجزاء التي لاتُسَمَّى لحمًا؛ كالكبد والطحال والسنام والكرش والمصير والجلد وجهان، وقيل: فيها روايتان، لكن الظاهر أنهما مخرجتان من أصحابنا، فمنهم من يطلقهما، ومنهم من يبنيهما على اللبن، إحداهما: لا تنقض - وإن قلنا بالنقض في اللحم واللبن - إذ لا نص فيه قوي ولا ضعيف، والقياس لا يقتضيه.

والثانية: تنقض - سواء قلنا ينقض اللبن أو لا - لأن إطلاق اللحم في الحيوان يدخل في جميع أجزائه، وإنما يذكر اللحم خاصة لأنه أغلب الأجزاء، ولهذا دخلت في مطلق اسم الخنزير، ولأنها أولى بالبعض من اللبن، وقد جاء فيه الحديث، ولأنه لما ذكر اللحم واللبن علم أنه أراد سائر الأجزاء، ولأنها جزء من الجزور فنقضت كاللحم، وقياس الشبه لا يفتقر إلى هاتين العلتين في الأصل؛ فإن المشابهة بين اللحم والكبد والسنام من أبين الأشباه، ولهذا اشتركا في التحليل والتحريم والطهارة والنجاسة والدسومة والزهومة.

وقولهم: "الحكم بعيد": إن أريد به هنا مجرد امتحان وابتلاء فلا يصح بعد إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعليل، وإن أريد به: إنا نحن لم نعتقد العلة، فهذا مُسَلَّم لمن ادعاه لنفسه، لكن لا يمنع صحة قياس الشبه، مع أننا أومأنا إلى التعليل فيما تقدم بما فهمناه من إيماء الشارع حيث ذكر أن الإبل حين خلقت من جن وأنها شياطين فأكل لحمها يورث ضربًا من طباعها، ونوعًا من أحوالها، والوضوء يزيل ذلك الأثر، وهذا يشترك فيه اللحم وغيره من الأجزاء".

وأما حديث: «أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه" من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر، به مرفوعًا، ورواه البيهقي في "سننه" من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن عبد الرحمن وعبد الله وأسامة بني زيد بن أسلم، عن أبيهم، به هكذا مرفوعًا أيضًا، وخالفهم سليمان بن بلال فرواه عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر موقوفًا عليه.

قال ابن الملقن: هذا الحديث رواه الأئمة الشافعي، وأحمد في مسنديهما، وابن ماجه، والدار قطني، والبيهقي في سننهم من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعًا.

وقد صحح الدارقطني والبيهقي رواية سليمان بن بلال الموقوفة؛ لأن الرواية المرفوعة ضعيفة لضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم باتفاق الحفاظ، ضعفه الإِمام أحمد، وعلي بن المديني حتَّى قال: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة، وضعَّفه أبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، والدار قطني، وقال يحيى بن معين: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء.

وهذا يدل على أن الرواية الأخرى التي رواها عبد الله وأسامة وتابعا فيها أخاهما عبد الرحمن – إن صحَّت عنهما – فإنها لا تفيد الحديث قوَّة، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام