سُئلَ:عن الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو على العرش
منذ 2006-12-01
السؤال: سُئلَ:شيخ الإسلام رَحمَهُ اللّه عن رجلين تباحثا في [مسألة الإثبات
للصفات، والجزم بإثبات العلو على العرش].
فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا، ولا البحث عنه، بل يكره له، كما قال الإمام مالك للسائل: وما أراك إلا رجل سوء.
وإنما يجب عليه أن يعرف ويعتقد أن اللَّهَ تعالى واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه، بل ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي.
فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئًا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش الذي هو أعلى المخلوقات ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟
فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا، ولا البحث عنه، بل يكره له، كما قال الإمام مالك للسائل: وما أراك إلا رجل سوء.
وإنما يجب عليه أن يعرف ويعتقد أن اللَّهَ تعالى واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه، بل ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي.
فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئًا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش الذي هو أعلى المخلوقات ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟
الإجابة: الحمد للَّهِ رب العالمين، يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم، فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب
على الخلق الإقرار به جملة، وتفصيلًا عند العلم بالتفصيل؛ فلا يكون
الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحقيق
شهادة لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّهِ.
فمن شهد أنه رسول اللَّه شهد أنه صادق فيما يخبر به عن اللَّهِ تعالى فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة؛إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال اللّه تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44ـ46].
وبالجملة، فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لا يحتاج إلى تقريره هنا، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء به من القرآن والسنة، كما قال اللّه تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة:231]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 95].
ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين؛ وعمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100].
ومما جاء به الرسول إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3].
ومما جاء به الرسول أمر اللّه له بالبلاغ المبين، كما قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا؛ فإن كتمان ما أنزله اللَّهُ إليه يناقض موجب الرسالة؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة.
ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة، كما أنه معصوم من الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره اللَّه، وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر اللَّه بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه اللَّه لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم .
وقال .
وقال أبو ذر: لقد توفي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
إذا تبين هذا، فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن اللَّه تعالى من أسماء اللَّه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي اللَّهُ عنهم ورضوا عنه.
فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عنه القرآن والسنة، وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
وقد قام عبد اللَّه بن عمر وهو من أصاغر الصحابة في تعلم البقرة ثماني سنين، وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة.
وهذا معلوم من وجوه:
أحدها: أن العادة المطردة التي جبل اللَّه عليها بني آدم، توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد علم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب، أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنه لابد أن يكون راغبًا في فهمه، وتصور معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب اللَّه تعالى المنزل إليهم، الذي به هداهم اللَّه، وبه عرفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي؟!
فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام اللَّهِ من المبلغ عنه.
بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود؛ إذ اللفظ إنما يراد للمعنى.
الوجه الثاني: أن اللَّه سبحانه وتعالى قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:28].
فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره، علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكنًا للمؤمنين، وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم.
الوجه الثالث: أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، فبين أنه أنزله عربيًا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه.
الوجه الرابع: إنه ذم من لا يفهمه فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:45- 46].
وقال تعالى: {فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 87]، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم اللَّه تعالى به.
الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد:16] وأمثال ذلك.
وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا وقالوا: ماذا قال آنفا؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد:16] فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، غير عالمين بمعاني القرآن، جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم اللَّه تعالى عليه.
الوجه السادس: أن الصحابة رضي اللَّه عنهم فسروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية منه وأسأله عنها.
ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكان ابن مسعود يقول: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب اللَّه مني تبلغه الإبل لأتيته.
وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا اللَّه.
و النقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها.
فإن قال قائل: قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافًا كثيرًا، ولو كان ذلك معلومًا عندهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا فيه.
فيقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة، بل وعن أئمة التابعين في القرآن، أكثره لا يخرج عن وجوه:
أحدها: أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه، فالمسمى واحد، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، مع أن كلاهما حق، بمنزلة تسمية اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائه، وتسمية القرآن العزيز بأسمائه، فقال تعالى: {قلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
فإذا قيل: الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام، فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وإن كان كل اسم يدل على نعت للّه تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر.
ومثال هذا التفسير كلام العلماء في تفسير [الصراط المستقيم] فهذا يقول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن، أي: اتباع القرآن، وهذا يقول: السنة والجماعة، وهذا يقول: طريق العبودية، وهذا يقول: طاعة اللَّه ورسوله.
ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها، ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط، وينتفع بمعرفة ذلك النعت.
الوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير [الاسم] بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب، لا على سبيل الحصر والإحاطة، كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ [الخبز] فأرى رغيفًا وقيل: هذا هو، فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه، لا إلى ذلك الرغيف خاصة.
ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
فالقول الجامع:أن [الظالم لنفسه]: هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، و[المقتصد]: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، و[السابق بالخيرات]: بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى اللَّه بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق.
ثم إن كلا منهم يذكر نوعًا من هذا.
فإذا قال القائل: [الظالم]: المؤخر للصلاة عن وقتها، و[المقتصد]: المصلي لها في وقتها، و[السابق]: المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل.
وقال آخر: [الظالم لنفسه]: هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله، و[المقتصد]: القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة، و [السابق]: الفاعل المستحب بعد الواجب كما فعل [الصدِّيق الأكبر] حين جاء بماله كله، ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئًا.
وقال آخر: [الظالم لنفسه]: الذي يصوم عن الطعام، لا عن الآثام، و[المقتصد]: الذي يصوم عن الطعام والآثام، و[السابق]: الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى اللَّه تعالى وأمثال ذلك لم تكن هذه الأقوال متنافية بل كل ذكر نوعًا مما تناولته الآية.
الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية سببًا ويذكر الآخر سببًا آخر لا ينافي الأول ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعًا، أو نزولها مرتين؛ مرة لهذا، ومرة لهذا.
وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه [اختلاف تناقض]، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة كبعض مسائل الصلاة والزكاة، والصيام والحج، والفرائض والطلاق ونحو ذلك لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وجملها منقولة عنه بالتواتر.
وقد تبين أن اللَّه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات اللَّه والحكمة.
وقد قال غير واحد من السلف: إن [الحكمة] هي السنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم" .
فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه، سواء قيل:إنه في القرآن، ولم نفهمه نحن، أو قيل: ليس في القرآن، كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون، والذين اتبعوهم بإحسان، فعلينا أن نتبعهم فيه، سواء قيل:إنه كان منصوصًا في السنة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل: إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
فمن شهد أنه رسول اللَّه شهد أنه صادق فيما يخبر به عن اللَّهِ تعالى فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة؛إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال اللّه تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44ـ46].
وبالجملة، فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لا يحتاج إلى تقريره هنا، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء به من القرآن والسنة، كما قال اللّه تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة:231]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 95].
ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين؛ وعمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100].
ومما جاء به الرسول إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3].
ومما جاء به الرسول أمر اللّه له بالبلاغ المبين، كما قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا؛ فإن كتمان ما أنزله اللَّهُ إليه يناقض موجب الرسالة؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة.
ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة، كما أنه معصوم من الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره اللَّه، وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر اللَّه بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه اللَّه لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم .
وقال .
وقال أبو ذر: لقد توفي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
إذا تبين هذا، فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن اللَّه تعالى من أسماء اللَّه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي اللَّهُ عنهم ورضوا عنه.
فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عنه القرآن والسنة، وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
وقد قام عبد اللَّه بن عمر وهو من أصاغر الصحابة في تعلم البقرة ثماني سنين، وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة.
وهذا معلوم من وجوه:
أحدها: أن العادة المطردة التي جبل اللَّه عليها بني آدم، توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد علم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب، أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنه لابد أن يكون راغبًا في فهمه، وتصور معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب اللَّه تعالى المنزل إليهم، الذي به هداهم اللَّه، وبه عرفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي؟!
فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام اللَّهِ من المبلغ عنه.
بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود؛ إذ اللفظ إنما يراد للمعنى.
الوجه الثاني: أن اللَّه سبحانه وتعالى قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:28].
فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره، علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكنًا للمؤمنين، وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم.
الوجه الثالث: أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، فبين أنه أنزله عربيًا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه.
الوجه الرابع: إنه ذم من لا يفهمه فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:45- 46].
وقال تعالى: {فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 87]، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم اللَّه تعالى به.
الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد:16] وأمثال ذلك.
وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا وقالوا: ماذا قال آنفا؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد:16] فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، غير عالمين بمعاني القرآن، جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم اللَّه تعالى عليه.
الوجه السادس: أن الصحابة رضي اللَّه عنهم فسروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية منه وأسأله عنها.
ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكان ابن مسعود يقول: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب اللَّه مني تبلغه الإبل لأتيته.
وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا اللَّه.
و النقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها.
فإن قال قائل: قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافًا كثيرًا، ولو كان ذلك معلومًا عندهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا فيه.
فيقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة، بل وعن أئمة التابعين في القرآن، أكثره لا يخرج عن وجوه:
أحدها: أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه، فالمسمى واحد، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، مع أن كلاهما حق، بمنزلة تسمية اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائه، وتسمية القرآن العزيز بأسمائه، فقال تعالى: {قلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
فإذا قيل: الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام، فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وإن كان كل اسم يدل على نعت للّه تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر.
ومثال هذا التفسير كلام العلماء في تفسير [الصراط المستقيم] فهذا يقول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن، أي: اتباع القرآن، وهذا يقول: السنة والجماعة، وهذا يقول: طريق العبودية، وهذا يقول: طاعة اللَّه ورسوله.
ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها، ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط، وينتفع بمعرفة ذلك النعت.
الوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير [الاسم] بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب، لا على سبيل الحصر والإحاطة، كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ [الخبز] فأرى رغيفًا وقيل: هذا هو، فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه، لا إلى ذلك الرغيف خاصة.
ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
فالقول الجامع:أن [الظالم لنفسه]: هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، و[المقتصد]: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، و[السابق بالخيرات]: بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى اللَّه بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق.
ثم إن كلا منهم يذكر نوعًا من هذا.
فإذا قال القائل: [الظالم]: المؤخر للصلاة عن وقتها، و[المقتصد]: المصلي لها في وقتها، و[السابق]: المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل.
وقال آخر: [الظالم لنفسه]: هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله، و[المقتصد]: القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة، و [السابق]: الفاعل المستحب بعد الواجب كما فعل [الصدِّيق الأكبر] حين جاء بماله كله، ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئًا.
وقال آخر: [الظالم لنفسه]: الذي يصوم عن الطعام، لا عن الآثام، و[المقتصد]: الذي يصوم عن الطعام والآثام، و[السابق]: الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى اللَّه تعالى وأمثال ذلك لم تكن هذه الأقوال متنافية بل كل ذكر نوعًا مما تناولته الآية.
الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية سببًا ويذكر الآخر سببًا آخر لا ينافي الأول ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعًا، أو نزولها مرتين؛ مرة لهذا، ومرة لهذا.
وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه [اختلاف تناقض]، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة كبعض مسائل الصلاة والزكاة، والصيام والحج، والفرائض والطلاق ونحو ذلك لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وجملها منقولة عنه بالتواتر.
وقد تبين أن اللَّه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات اللَّه والحكمة.
وقد قال غير واحد من السلف: إن [الحكمة] هي السنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم" .
فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه، سواء قيل:إنه في القرآن، ولم نفهمه نحن، أو قيل: ليس في القرآن، كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون، والذين اتبعوهم بإحسان، فعلينا أن نتبعهم فيه، سواء قيل:إنه كان منصوصًا في السنة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل: إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
- التصنيف: