المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله

منذ 2006-12-01
السؤال: المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله
الإجابة: أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك‏.‏

ودلالة القرآن على الأمور نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به‏.‏

والثاني‏:‏ دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب‏.‏
فهذه دلالة شرعية عقلية؛ فهي ‏[‏شرعية‏]‏ لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها؛ و ‏[‏عقلية‏]‏ لأنها تعلم صحتها بالعقل‏.‏

ولا يقال‏:‏ إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر‏.‏

وإذا أخبر الله بالشيء، ودل عليه بالدلالات العقلية، صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتًا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى ‏[‏ الدلالة الشرعية‏]‏‏.‏

وثبوت ‏[‏معنى الكمال‏]‏ قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك، كله دال على هذا المعنى‏.‏

وقد ثبت لفظ ‏[‏الكامل‏]‏ فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير‏:‏‏{‏‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}‏‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1- 2‏]‏‏:‏ أن ‏[‏الصمد‏]‏ هو المستحق للكمال، وهو السيد الذي كمل في سُؤْدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكم الذي قد كمل في حكمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الشريف الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه وتعالى‏.‏

وهذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ ولا كمثله شيء‏.
‏‏
وهكذا سائر صفات الكمال، ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر، وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء‏.‏

وقد بينا في غير هذا الموضع‏:‏ أن الإقرار بالخالق وكماله، يكون فطريًا ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها‏.‏

وأما لفظ ‏[‏الكامل‏]‏ فقد نقل الأشعري عن الجبائي أنه كان يمنع أن يسمى الله كاملاً، ويقول‏:‏ الكامل الذي له أبعاض مجتمعة‏.‏
وهذا النزاع إن كان في المعنى فهو باطل، وإن كان في اللفظ فهو نزاع لفظي‏.‏

والمقصود هنا أن ثبوت الكمال له، ونفي النقائص عنه، مما يعلم بالعقل‏.‏

وزعمت طائفة من أهل الكلام كأبي المعالي والرازي، والآمدي وغيرهم أن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو الإجماع، وإن نفي الآفات والنقائص عنه لم يعلم إلا بالإجماع، وجعلوا الطريق التي بها نفوا عنه ما نفوه، إنما هو نفي مسمى الجسم ونحو ذلك، وخالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية، كالأشعري، والقاضي، وأبى بكر وأبي إسحاق، ومن قبلهم من السلف والأئمة، في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية، وتنزيهه عن النقائص بالأدلة العقلية‏.‏

ولهذا صار هؤلاء يعتمدون في إثبات هذه الصفات على مجرد السمع، ويقولون‏:‏ إذا كنا نثبت هذه الصفات بناء على نفي الآفات، ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي، والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب والسنة، قالوا‏:‏ والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام‏:‏ أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة، فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي الذي هو القرآن أولى وأحْرَى‏.‏

والذي اعتمدوا عليه في النفي، من نفي مسمى التحيز ونحوه مع أنه بدعة في الشرع لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين هو متناقض في العقل، لا يستقيم في العقل؛ فإنه ما من أحد ينفي شيئًا خوفًا من كون ذلك يستلزم أن يكون الموصوف به جسمًا، إلا قيل له فيما أثبته نظير ما قاله فيما نفاه، وقيل له فيما نفاه نظير ما يقوله فيما أثبته، كالمعتزلة لما أثبتوا أنه حي عليم قدير؛ وقالوا‏:‏ إنه لا يوصف بالحياة، والعلم، والقدرة، والصفات؛ لأن هذه أعراض لا يوصف بها إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف إلا جسم‏.‏

فقيل لهم‏:‏ فأنتم وصفتموه بأنه حي عليم قدير، ولا يوصف شيء بأنه عليم حي قدير إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فما كان جوابكم عن الأسماء كان جوابنا عن الصفات، فإن جاز أن يقال‏:‏ بل يسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم، جاز أن يقال‏:‏ فكذلك يوصف بهذه الصفات ما ليس بجسم، وأن يقال‏:‏ هذه الصفات ليست أعراضًا، وإن قيل‏:‏ لفظ الجسم ‏[‏مجمل‏]‏ أو مشترك وأن المسمى بهذه الأسماء لا يجب أن يماثله غيره، ولا أن يثبت له خصائص غيره، جاز أن يقال‏:‏ الموصوف بهذه الصفات لا يجب أن يماثله غيره، ولا أن يثبت له خصائص غيره‏.‏

وكذلك إذا قال نفاة الصفات المعلومة بالشرع، أو بالعقل مع الشرع، كالرضا والغضب، والحب، والفرح، ونحو ذلك‏:‏ هذه الصفات لا تعقل إلا لجسم‏.‏
قيل لهم‏:‏ هذه بمنزلة الإرادة والسمع، والبصر والكلام، فما لزم في أحدهما لزم في الآخر مثله‏.‏

وهكذا نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم، إذا قالوا‏:‏ ثبوت هذه الصفات يستلزم كثرة المعاني فيه، وذلك يستلزم كونه جسمًا أو مركبًا‏.
‏‏ قيل لهم‏:‏ هذا كما أثبتم أنه موجود واجب قائم بنفسه وأنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، ونحو ذلك‏.‏

فإن قالوا‏:‏ هذه ترجع إلى معنى واحد، قيل لهم‏:‏ إن كان هذا ممتنعا بطل الفرق، وإن كان ممكنًا أمكن أن يقال في تلك مثل هذه، فلا فرق بين صفة وصفة‏.‏ والكلام على ثبوت الصفات وبطلان أقوال النفاة مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا‏:‏ أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك مُنْتَفٍ عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع، دون تلك، خلاف ما قاله هؤلاء المتكلمون‏.‏

وجمهور أهل الفلسفة والكلام يوافقون على أن الكمال لله ثابت بالعقل، والفلاسفة تسميه التمام، وبيان ذلك من وجوه‏:‏
منها‏:‏ أن يقال‏:‏ قد ثبت أن الله قديم بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم بنفسه، خالق بنفسه، إلى غير ذلك من خصائصه‏.‏
والطريقة المعروفة في وجوب الوجود تقال في جميع هذه المعاني‏.‏

فإذا قيل‏:‏ الوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، فهو مثل أن يقال‏:‏ الموجود إما قديم وإما حادث، والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين‏.
‏‏ والموجود إما غني وإما فقير، والفقير لابد له من الغنى، فلزم وجود الغنى على التقديرين‏.‏

والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين، والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة‏.‏

ثم يقال‏:‏ هذا الواجب القديم الخالق، إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه الممكن الوجود ممكنًا له، وإما ألا يكون‏.‏ والثاني ممتنع؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير للممكن، فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأخرى؛ فإن كلاهما موجود‏.‏
والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه‏.‏

فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكنًا للمفضول، فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى؛ لأن ما كان ممكنًا لما هو في وجوده ناقص، فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى، لاسيما وذلك أفضل من كل وجه فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه، بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به، فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى‏.‏

ولأن ذلك الكمال إنما استفادة المخلوق من الخالق، والذي جعل غيره كاملا هو أحق بالكمال منه، فالذي جعل غيره قادرًا أولى بالقدرة، والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة، والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون‏:‏ كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به‏.‏

وإذا ثبت إمكان ذلك له، فما جاز له من ذلك الكمال الممكن الوجود، فإنه واجب له لا يتوقف على غيره، فإنه لو توقف على غيره لم يكن موجودًا له إلا بذلك الغير، وذلك الغير إن كان مخلوقًا له لزم الدور القبلي الممتنع، فإن ما في ذلك الغير من الأمور الوجودية فهي منه، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهذا هو الدور القبلي فإن الشيء يمتنع أن يكون فاعلاً لنفسه، فلأن يمتنع أن يكون فاعلاً لفاعله بطريق الأولى والأخرى‏.‏

وكذلك يمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً لما به يصير الآخر فاعلاً، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين معطيًا للآخر كماله، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون كل منهما أكمل من الآخر، وهذا ممتنع لذاته، فإن كون هذا أكمل يقتضي أن هذا أفضل من هذا، وهذا أفضل من هذا، وفضل أحدهما يمنع مساواة الآخر له، فلأن يمنع كون الآخر أفضل بطريق الأولى‏.‏

وأيضا، فلو كان كماله موقوفًا على ذلك الغير، للزم أن يكون كماله موقوفًا على فعله لذلك الغير، وعلى معاونة ذلك الغير في كماله، ومعاونة ذلك الغير في كماله موقوف عليه؛ إذ فعل ذلك الغير، وأفعاله موقوفة على فعل المبدع لا تفتقر إلى غيره، فيلزم ألا يكون كماله موقوفًا على غيره‏.‏

فإذا قيل‏:‏ كماله موقوفًا على مخلوقه، لزم ألا يتوقف على مخلوقه، وما كان ثبوته مستلزمًا لعدمه كان باطلاً من نفسه‏.
‏‏ وأيضًا، فذلك الغير كل كمال له فمنه وهو أحق بالكمال منه، ولو قيل يتوقف كماله عليه لم يكن متوقفًا إلا على ما هو من نفسه، وذلك متوقف عليه لا على غيره‏.‏

وإن قيل‏:‏ ذلك الغير ليس مخلوقًا بل واجبًا آخر قديمًا بنفسه‏.
‏‏ فيقال‏:‏ إن كان أحد هذين هو المعطي دون العكس، فهو الرب، والآخر عبده‏.‏

وإن قيل‏:‏ بل كل منهما يعطي للآخر الكمال، لزم الدور في التأثير وهو باطل، وهو من الدور القبلي، لا من الدور المعي الاقتراني فلا يكون هذا كاملا حتى يجعله الآخر كاملاً، والآخر لا يجعله كاملاً حتى يكون في نفسه كاملاً، لأن جاعل الكامل كاملاً أحق بالكمال ولا يكون الآخر كاملاً حتى يجعله كاملاً، فلا يكون واحدًا منهما كاملاً بالضرورة، فإنه لو قيل‏:‏ لا يكون كاملاً حتى يجعل نفسه كاملاً، ولا يجعل نفسه كاملاً حتى يكون كاملاً لكان ممتنعا، فكيف إذا قيل‏:‏ حتى يجعل ما يجعله كاملاً كاملاً‏؟‏‏!‏

وإن قيل‏:‏ كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية لزم التسلسل في المؤثرات، وهو باطل بالضرورة واتفاق العقلاء‏.‏
فإن تقدير مؤثرات لا تتناهي‏:‏ ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شيء منها، ولا وجود جميعها، ولا وجود اجتماعها، والمبدع للموجودات لابد أن يكون موجودًا بالضرورة‏.‏

فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر، وهلم جرا، للزم ألا يكون لشيء من هذه الأمور كمال، ولو قدر أن الأول كامل لزم الجمع بين النقيضين، وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره، كان الكمال له واجبًا بنفسه، و امتنع تخلف شيء من الكمال الممكن عنه، بل ما جاز له من الكمال وجب له، كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث، والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم، بل هذا ثابت في مفعولاته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكان ممتنعًا بنفسه أو ممتنعًا لغيره، فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره، أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره، والممكن أن حصل مقتضيه التام‏:‏ وجب بغيره، وإلا كان ممتنعًا لغيره، والممكن بنفسه‏:‏ إما واجب لغيره، وإما ممتنع لغيره‏.‏

وقد بين الله سبحانه أنه أحق بالكمال من غيره، وأن غيره لا يساويه في الكمال، في مثل قوله تعالى‏:‏‏{‏‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏17‏]‏ وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عَدَل هذا بهذا فقد ظلم‏.
‏‏
وقال تعالى‏:‏‏{‏‏ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏75‏]‏، فبين أن كونه مملوكًا عاجزًا صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يعبد من دونه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏76‏]‏، وهذا مثل آخر‏.‏
فالأول مثل العاجز عن الكلام، وعن الفعل الذي لا يقدر على شيء‏.‏
والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره مستقيم في فعله‏.‏

فبين أن التفضيل بالكلام المتضمن للعدل والعمل المستقيم، فإن مجرد الكلام والعمل قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، فالمحمود هو الذي يستحق صاحبه الحمد، فلا يستوى هذا والعاجز عن الكلام والفعل‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم‏؟‏

وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ‏}‏‏ ‏[‏النحل58ـ62‏]‏ حيث كانوا يقولون‏:‏ الملائكة بنات الله، وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت فيعدون هذا نقصًا وعيبًا‏.‏

والرب تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم، فإن له المثل الأعلى، فكل كمال ثبت للمخلوق، فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجردًا عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب، فالخالق أولى بتنزيهه عنه‏.‏
وقال تعالى‏:‏‏{‏‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏9‏]‏، وهذا يبين أن العالم أكمل ممن لا يعلم،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}‏‏ ‏[‏فاطر‏:‏19ـ 22‏]‏ فبين أن البصير أكمل، والنور أكمل، والظل أكمل، وحينئذ فالمتصف به أولى ‏{‏وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏148‏]‏، فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص، وأن الذي يتكلم ويهدي أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي، والرب أحق بالكمال‏.‏

وقال تعالى‏:‏‏{‏‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏‏ ‏[‏يونس‏:‏35‏]‏ فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالإتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره، فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل، دون الذي لا يهتدي إلا بغيره‏.‏

وإذا كان لابد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل، وقال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏‏أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏89‏]‏ فدل على أن الذي يرجع إليه القول، ويملك الضر والنفع، أكمل منه‏.‏

وقال إبراهيم لأبيه‏:‏ ‏{‏‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏42‏]‏، فدل على أن السميع البصير الغني أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك‏.‏

ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال، كعدم التكلم والفعل، وعدم الحياة، ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات، وإن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب‏.‏

وأما رب الخلق الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال، وأنه لا يستوى المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات‏.‏

فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف، فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة، التي عابها الله تعالى وعاب عابديها‏.‏

ولهذا كانت القرامطة الباطنية من أعظم الناس شركًا، وعبادة لغير الله، إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر، أو يغني عنهم شيئًا‏.‏

والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد وهما‏:‏ إثبات صفات الكمال، ردًا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردًا على المشركين‏.
‏‏
والشرك في العالم أكثر من التعطيل، ولا يلزم من إثبات ‏[‏التوحيد‏]‏ المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل، ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر‏.‏

والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة، كالرد على فرعون وأمثاله، ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر؛ لأن القرآن شفاء لما في الصدور‏.‏

ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل، وأيضًا فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد، وأنه حميد مجيد، وأن له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، ونحو ذلك من أنواع المحامد‏.‏

والحمد نوعان‏:‏ حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال، وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها، ولا خير ولا كمال‏.‏

ومعلوم أن كل ما يحمد، فإنما يحمد على ماله من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)