شارب الخمر لأول مرة
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فَشُرْب الخَمر كبيرةٌ من الكبائر، يَجِبُ البعدُ عنها واجتنابُها؛ لقول الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91].وقد أَجْمعَ المسلمون على تَحريم الخمر، وقد عدَّ العُلماء تَحريم الخَمر من المعلوم من الدِّين بِالضَّرورة، ومَن تناوَلَها مستحِلاًّ لها فهو كافر.
وقَدْ جاء في ذمِّ شارِبِ الخَمْرِ وعقابِه أحاديثُ كثيرةٌ، منها قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلُّ مُسكِرٍ حرام، وإنَّ على الله عهدًا لِمَنْ يَشرب المُسْكِر أن يَسقِيَه من طينة الخَبال)) قالوا: يا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما طينة الخبال؟ قال: ((عَرَقُ أهلِ النَّار أو عُصارة أهل النار))؛ أخرجَهُ مُسلم والنسائي.
ومِنْها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ شَرِبَ الخَمر لَم تُقْبَل له صلاةٌ أَربعينَ صباحًا، فإنْ تابَ تابَ الله عليْه، فإنْ عاد لم يَقْبل اللهُ له صلاةً أربعينَ صباحًا، فإن تابَ تابَ اللهُ عليْه، فإن عاد لَم يقبَل اللهُ صلاة أربعين صباحًا، فإن تابَ تابَ اللهُ عليْه، فإنْ عاد في الرَّابِعة لَم يَقبَلِ الله له صلاةً أربعين صباحًا، فإن تابَ لَم يَتُبِ اللهُ عليْه وسَقاهُ من نَهر الخَبال)) أي: صديد أهل النار؛ أخرجَهُ التِّرمذيُّ بسندٍ حسن، ومثله عند أبي داود والنَّسائي.
فالواجبُ على منِ ابْتُلِيَ بشُرب الخَمر أن يتوبَ إلى الله توبةً نصوحًا صادقة، وبعزم على عدم العود في المستقبل، مع الندم على ما كان، ومن رحمة الله تعالى أنه يُحبّ التَّوّابين ويُحبّ المُتطهّرين؛ قال عزَّ وجلَّ بعد ذكر عقوبة الزَّاني: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 70].
كما أنه من سعة رحمة الله بعباده أنه وعد التائبين بقبول توبتهم، مهما بلغت ذنوبهم، فقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ [الزمر: 53]، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها"؛ رواه مسلم من حديث أبي موسى.
ومن أعظم ما يحفظ المؤمن من الوقوع في الحرام: أن يسد على الشيطان مجاريه،ويقطع عليه حبائله؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21].
كما يجب عليك التوبة من ترك الصلاة، فتحافظ على أدائها فهي أعظم أركان الإسلام، وكذلك صيام رمضان وغيره من واجبات الشريعة.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "فالتوبة في كلام الله ورسولِه تتضمَّنُ العزمَ على فِعْلِ المأمور والتزامِه، فلا يكون بِمُجرَّد الإقلاع والعَزْم والنَّدم تائبًا حتَّى يُوجَدَ منْهُ العَزْمُ الجازم على فِعْلِ المأمور والإتيان به، هذا حقيقةُ التوبة وهِي اسمٌ لِمجموع الأَمْرَيْنِ، وهي كلفْظَةِ التقوى التي تقتضي عند إفرادها فعلَ ما أمرَ الله به وتركَ ما نَهى الله عنه، وتقتضي عند اقترانِها بِفِعْلِ المأمور الانتهاءَ عن المَحظورِ؛ فإنَّ حقيقة التوبة الرجوعُ إلى الله بالتزام فعل ما يُحِبُّ وتَرْكِ ما يَكْرَهُ؛ فالرُّجوعُ إلى المَحبوب جزءُ مُسمَّاها والرُّجوع عنِ المكروه الجُزْءُ الآخَر، ولِهذا علَّق سبحانه الفلاحَ المُطْلَق على فِعْلِ المأمور وترْكِ المَحظور بِها؛ فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النُّور: 31]، فَكُلُّ تائبٍ مُفْلِحٌ ولا يكونُ مُفْلِحًا إلا مَنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به وتَرَكَ ما نُهِيَ عنه، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وتارك المأمور ظالمٌ كما أنَّ فاعلَ المحظور ظالم، وزوالُ اسْمِ الظُّلم عنْهُ إنَّما يكونُ بالتَّوبة الجامعة للأمْرَيْنِ.
فإذًا التوبةُ هي حقيقةُ دين الإسلام، والدِّينُ كلُّه داخلٌ في مُسمَّى التَّوبة، وبِهذا استحقَّ التَّائبُ أن يكونَ حبيبَ اللَّه؛ فإنَّ الله يُحِبُّ التَّوابين ويُحب المتطهِّرين، ويدخل في مُسمَّاها الإسلامُ والإيمان والإحسان، وتتناول جَميعَ المقامات، ولهذا كانت غايةَ كلِّ مُؤمن وبدايةَ الأمر وخاتمتَه، وهي الغايةُ التي وجد لأجلها الخَلْقُ والأمر، والتَّوحيد جزء منها بل هو جُزْؤُها الأعظمُ الذي عليه بناؤُها، ولم يَجعلِ الله تعالَى محبَّته للتَّوَّابين إلا وهُم خواصُّ الخَلْقِ لدَيْهِ" اهـ مختصرًا.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- المصدر: