حكم قول اذهب لجهنم للمعرض عن الدعوة

منذ 2019-06-30
السؤال:

أنا شاب ملتزم على قدر الاستطاعة بفضل الله و أسأل الله الثبات و لكن الأمر بدرجة أقل بالنسبة للباقي أفراد الأسرة, الموضوع هو أننا عندما نجتمع للأكل, أختي(هي في سن التكليف) هداها الله تصر على مشاهدة الرسوم المتحركة التي هي محرمة لكونها تصويرا إذا اخذنا بهذا الرأي و أن لم نأخذ به فهناك محرمات أخرى متعلقة بالمحتوى كالموسيقى و التساهل في العلاقات بين الجنسين في إطار الصداقة و عرض ما يحرم من الجسد و أحيانا يصل الأمر لدرجة عرض أمور متعلقة بالسحر و العقائد الشركية, أنا أرفض مثل هاته الأمور و أصر على عرض ما يفيد في الدنيا و الآخرة وأغير القناة أحيانا دون اكتراث لاعتراض أختي لكن والدي يتساهل مع أختي و ينهاني عن التشدد و التحريم و منه ذات مرة اشتد علي فعلمت أن الأمر خرج من يدي و لن أستطيع تغيير القناة كما اعتدت فقلت في لحظة غضب لأختي بهدف التخويف :'' لن أصر بعد اليوم وليذهب لجهنم من يريد'' فهل أنا أخطأت بهذا القول و أن هذا تدخل في حكم محصور لله وحده رغم أني لم أقصد الجزم و أنما أنه من يرفض حكم الله فسيذهب للجحيم إلا إذا شاء الله أن يعفر له ؟ و هل عققت والدي إذ قلت الأمر بصفة عامة و هو حاضر قد يفهم منه أنه مقصود كذلك رغم أني قصدت توجيه الكلام لأختي ؟

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:                               

 فلا شك أنك أخطأت خطأ كبيرًا في تعاملك مع أختك ووالدك؛ فالإنكار على المخطئ والتوجيه للصواب لا يصلح إلا بالرفق معهم والصبر عليه والعفو والصفح؛ فالله تعالى خالق النفس البشرية يعلم أنه لا سبيل لاستجابنها للحق إلا بالرفق؛ ومن ثمّ أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم- أن يدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وهما لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق، فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه، فالقوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة، لا يعني الخشونة والفظاظة.

والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- منذ الأيام الأولى للدعوة كان يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ، على الرغم من أنه كان مأمورًا أن يقول: {يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ}، فيصفهم بصفتهم، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه، ولا يُدهن فيدهنون، كما يودون! ويقول لهم إنهم على الباطل المحض، وإنه على الحق الكامل، فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة.

 قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

"على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.

إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.

والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.

وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب.

ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.

وبالجدل بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة. ويشعر المُجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!" قال صحاب الظلال عند الآية.

هذا؛ وسأذكر لك مثالاً عمليًا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للحكمة والرفق في الدعوة مع الصدع بالحق؛ فقد روى ابن هشام في سيرته (1/ 261) أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا حليمًا ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة - يعني: الشرف - في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد، أسمع"، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا: وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا - ما يظهر للناس من الجن - تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم قال: "فاسمع مني"؛ قال: أفعل. فَقَالَ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه؛ ثم انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك".

فرجع عتبة إلى قومه فقال: فو الله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام