الخوف من الوقوع في الكفر

منذ 2019-10-20
السؤال:

قرأت مؤخرًا بأن المسلم قد يعتقد إعتقادًا مستمرًا أو يتلفّظ بكلمة أو يعمل عملًا يخرجه عن ملة الإسلام دون أن يشعر وذلك لجهله، على سبيل المثال (كما قرأت) إن الواحد فينا إذا قال أنا كافر وإن لم يقصد ذلك فقد كفر. وأنا أخشى على نفسي من زلة لسان أو معتقد كفريّ لا علم لي بأنه كذلك فأمسي كافرة... فكيف أصنع؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقد دلت الشريعة الإسلامية على أن العبد المسلم قد يقع في الكفر مع عدم قصد للكفر، وأنه قد يأتي من الأقوال أو الأعمال أو الأفعال ما يحبط عمله بهذا وهو لا يعلم؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، والمراد بعدم الشعور أنهم لم يعرفوا أن ما يأتون به من الكفر ولم يتصوروه، كما قال الإمام البخاري في كتاب التفسير من الصحيح: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}: "تعلمون، ومنه الشاعر"، أي أن الشاعر مشتق من الشعور؛ يقال شعرت بالشيء أي فطنت له وعلمته، وسمي قائل الشعر شاعرًا لفطنته وعلمه.

والآيات الدالة على وقوع المسلم في الكفر جهلاً  كثيرة؛ قال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]، وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]،

 وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، وقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 36، 37]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، وقوله: {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، والآيات بهذا المعنى كثيرة.

فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً؛ فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد؛ قاله الإمام ابن القيم في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص: 411).

غير أنه من رحمة الله تعالى أنه يسر للإنسان مصادر معرفة الحق من الفطرة والعقل الصريخ والقرآن والسنة، حتى تقوم عليه الحجَّة التي يحكم بمقتضاها بالكفر أو الفسوق، ومن تدبر القرآن الكريم أيقن هذا؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 25 - 29]، فانظر كيف حكم عليهم بالردة بعد علمهم الحق، فالهدى قد تبين لجميع الخلق بالفطر وارسال الرسل، ومن اتبع ما أسخطه بعد معرفة الحق كفر حتى وإن لم يعلم أن ذلك الفعل كفر، كما حكى القرآن العظيم عن المنافقين، أنهم لم يقصدوا الكفر،  ولكنهم يعلمون حرمة ما قالوه، ولكن لم يظنوا أن الخوض واللعب كفرًا، وأنه يدرأ عن صاحبه كالإكراه وأن الكفر لا يكون إلا مع العمد والجد، ومع ذلك كفرهم الشرع ولم يقبل عذرهم؛ قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65، 66].

قال في "مصباح الظلام" (3/ 562): "فإن المقصود أن يعلم مراد المعلِّم والمنبِّه والمرشد، ويعرف ذلك، وليس المقصود أن يتبين له الصواب في نفس الأمر، فإن كثيرًا من أهل النار ما عرفوا الحق في الدنيا ولا تبين لهم".

قال أبو محمد بن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (3/ 123) -في معرض الاستدلال بآية سورة لحجرات-:

"فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة، وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلاً، ولو كان منهم جحدًا لشعروا له، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون، فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفرًا مبطلاً لإيمان فاعله جملة، ومنه ما لا يكون كفرًا لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد".

وقال صاحب "العواصم والقواصم" (1/ 188):

 "فالظاهر أن التقدير: لا تشعرون بإحباطها، لا بالذنب في فعكلم، لأن المفعول إذا حذف، قدر من جنس الفعل المذكور، والفعل المذكور -هنا- قوله: أن تحبط. فافهم ذلك."

وقال أيضًا (9/ 384):

وقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}: وعيد شديد، والجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 135]، أن المراد: وأنتم لا تشعرون بالذنب محبط عملكم بكونه ذنبًا، وقوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يعني: بقبح الذنب الذي أصروا عليه، فالجاهل لقبح الذنب فيما يجهل مثله معذور، بخلاف من علم الذنب وجهل الإحباط".

 إذا تقرر هذا، فمن قال أو فعل ما هو كفرٌ كَفَرَ بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الصارم المسلول" (ص: 146).

وقال ص: 47: "قوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، فوجه الدلالة: أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض؛ لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل، وصاحبه لا يشعر، فإنه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له: بطلب سلامة العمل عن الحبوط، وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك، وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب، والعمل يحبط بالكفر قال سبحانه: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]، وقال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]، كما أن الكفر إذا قارنه عمل لا يقبل لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد: 1]، وهذا ظاهر، ولا يحبط الأعمال غير الكفر؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط؛ ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمال مطلقاً إلا الكفر وهذا معروف من أصول أهل السنة.

فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر، ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوفير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولما أن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له واستخفاف به وإن لم يقصد الرافع ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً، فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى". ا هـ.

هذا؛ وقد بينت السنة الصحيحة هذا المعنى بجلاء، وأن من يقع في الكفر وهو لا يشعر يعلم قبح ما يفعله، ولكنه يجهل العاقبة، كحال كثير من المستهترين؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم"، وقوله: "لا يلقي لها بالا"، لا يبالي بها ولا يلتفت إلى معناها خاطره، ولا يعتد بها، ولا يعيها بقلبه، كما في رواية لمسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب".

وروى أحمد في المسند من حديث بلال بن الحارث المزني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة "، قال: فكان علقمة -أحد رواة الحديث- يقول: "كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث".

أما ما يجب فعله للنجاة من المعاصي والكفر فهو الاستقامة على صراط الله المستقيم، والاعتصام بالكتاب والسنة، وقد بين هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في "مجموع الفتاوى" (17/ 303): " فهذه النصوص وغيرها تبين أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، وأن من لم يتبع ذلك كان منافقًا، وأن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل، فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذلك حشر أعمى ضالاً شقيًا معذبًا، وأن الذين فرقوا دينهم قد برئ الله ورسوله منهم". اهـ.

 هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام