حكم تكفير المجتمعات
والقاعدة أن من أظهر الإسلام حكم بإسلامه، ومن وقع في ناقض من نواقض الإيمان تمهلنا حتى نعلم هل هو من الكفر الذي يعذر قائله، أم من القسم الآخر، فلا يجوز مطلقًا تكفير المجتمع عمومًا لوقوع قسم منه في الردة.
السوال : السلام عليكم ورحمه الله وبركاته نحن طائفه من العراق نكفر جميع البلد الا من ظهر لنا اسلامه ونعلم معتقده يقينا ولا نصلي خلف احد الا من نعلم بعقيدته ولا ناكل ذبائح احد الامن نعلم بدينه وهكذا وانتم تعلمون ماهو حال العراق الشرك في كل مكان وسب الله ولاستهزاء بدين وسب العلماء وعباده الاضرحه وقتل اهل التوحيد ومحاربتهم والخ تلبس علينا هذا الامر البعض من يراه صوابا والبعض ينكره فنريد منكم جزاكم الله خيرا التفصيل والتوضيح ع هذه المساله ما حكم مستور الحال ما حكم مجهول الحال ما حكم المساجد ما هو حكم الاغلب وهكذا واعلموا انكم ستنقذون امه من هذا المعتقد بهذه الفتوه لانه مثل ماقلت تلبس علينا فنريد منكم جوابا شافيا وكافيا لنا واسال الله العظيم رب العرش الكريم ان ينفع بكم الناس وجزاكم الله خيرا وسلام عليكم ورحمه الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فمذهب أهل السنة وسط بين الفرق في باب التكفير فلا يكفرون المسلم بكل ذنب دون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، كما أنهم يطلقون التكفير على العموم مثل قولهم: "من استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة كفر".
وكذلك يفرقون في مسألة التكفير بين إنكار بعض الصفات الإلهية وإثباتها وجهلها أو تحريف معناها بدعوى التأويل، وما يدخله التأويل وما لا يدخله، ويعدون هذا من الأمور الخفية التي يعذر فيها بالجهل أو التأويل.
وقد بين هذا وجلاه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبة وبين ما يعذر قائله وما لا يعذر.
فقال رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (7/ 619) - في معرض كلامه عن تنازع العلماء في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار -: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة واستحل الخمر والزنا وتأول، فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته - كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر - ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدا من العالمين"، وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه". اهـ.
وقال أيضًا في "مجموع الفتاوى" (23/ 345) - في معرض ذكر تنازع العلماء في الصلاة خلف أهل البدع، ومن يكفر ببدعته من أهل الأهواء -: "وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
أما إن كان الكفر مما لا يدخله التأويل ولا الجهل كسبِّ الله أو رسوله، أو الاستهزاء بالشرع، أو اتخاذ الأنداد والشفعاء، ونحو هذا- فإنه يكفر؛ لأن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه، وأما غير المكره فإنه يكفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو من أجل الدنيا، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض، إلا المكره.
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص:523- 524): " فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدًا لها عالمًا بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهرًا وباطنًا ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط؛ لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك، إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين، فإنه كافر أيضًا، فصار كل من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته، وهذا باب واسع.
والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته، كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم، فإذا عدم المعلول كان مستلزمًا لعدم العلة، وإذا وجد الضد كان مستلزمًا لعدم الضد الآخر، فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرًا". اهـ.
وقال في "مجموع الفتاوى" (7/ 220): "فإن قيل: فقد قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}، قيل: وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرًا؛ وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره - وذلك يكون بلا إكراه - لم يستثن المكره فقط بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعًا فقد شرح بها صدرًا وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}[التوبة:64-66]، فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام". اهـ.
وقال أيضًا كما في مجموع الفتاوى (7/ 559-561):
"والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر. يبين ذلك قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ* لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 106 - 109]، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة ثم قال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}، وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.
و "أيضًا" فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه، وقوله تعالى {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}، أي: لاستحبابه الدنيا على الآخرة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا"، والآية نزلت في عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين، لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعمار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فهناك كفر لا يحكم على قائله به حتى تستوفي شروط وتنتفي موانع، ويعذر فيه قائله بالجهل أو التأويل، وهو في باب الأسماء والصفات ونحوها من المسائل الخفية والدقيقة.
كما أنه توجد أنواع كفر أخرى لا يعذر صاحبها بجهل ولا تأويل، فمن وقع فيها حكم بكفره طالمًا كان عاقلًا قاصدًا للكلام.
ولكن كيفما قلنا فلا يعني هذا الحكم على المجتمع كله بالكفر؛ فهذا الفعل باطل شرعًا وحسًا وعقلاً؛ فمن المعلوم بالاضطرار والبداهة العقلية أن في كل مجتمع - بفضل الله ورحمته وحكمته - كثير من أهل الخير والصلاح والاستقامة؛ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"؛ رواه أبو داود والترمذي. والقاعدة أن من أظهر الإسلام حكم بإسلامه، ومن وقع في ناقض من نواقض الإيمان تمهلنا حتى نعلم هل هو من الكفر الذي يعذر قائله، أم من القسم الآخر، فلا يجوز مطلقًا تكفير المجتمع عمومًا لوقوع قسم منه في الردة،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: