هل الجهات فوق العرش مخلوقة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... هل الجهات فوق العرش مخلوقة ام معدومة؟ إذا كانت مخلوقة فكيف للمخلوق أن يحيطن بالخالق؟ وما معنى حديث( ما تحته هواء وما فوقه هواء). شكرًا جزيلًا.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى على عرشه الذي وسع السماوات والأرض، بائن من خلقه، وأحاط بكل شيء علمًا، وأئمة أهل السنة كالثوري ومالك وابن عيينة، وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك والفضيل وأحمد وإسحاق: متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، مستو على عرشه استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها، ولا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها؛ قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال: {نَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } [يونس: 3].
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (5/ 68):
"وإن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] الآية، {أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } [الإسراء: 42]، فهذا وغيره مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر: 10]، هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: {أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، يعني فوق العرش والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء، وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَ} [التوبة: 2]، يعني على الأرض؛ لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } [المائدة: 26]، يعني على الأرض؛ لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ } [طه: 71]، يعني فوقها عليها".
فوجوب علو الله سبحانه واستواؤه على عرشه ينافي ما يفرض من سفول أو تياسر أو نحو ذلك؛ لأن الجهة بالنسبة لله هي العلو فقط ولا يعلوه شيء، ولا تأتي جهات فوق العرش -كما يسبق إليه الوهم – إنما هو الله ليس فوقه شيء من الجهات ولا غيرها.
وتأمل ما جاء في "مجموع الفتاوى" (6/ 581- 583):
"بتقدير أن يكون العرش كري الشكل سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع قد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات، وهو العالي عليها من جميع الجوانب وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش - بهذا التقدير - إنما يقصد إلى العلو لا يجوز في الفطرة ولا في الشرعة - مع تمام قصده - أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست؛ بل هو أيضا يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه كما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من المثل بالقمر - ولله المثل الأعلى - وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر - وهو آية من آيات الله تعالى - فالخالق أعلى وأعظم.
وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه، وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا نتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات فقد ظهر أنه - على كل تقدير - لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مباينًا لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات - كما يحيط بها إذا كانت في قبضته - أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها، فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها؛ فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض وهذا يزيل كل شبهة... إلى أن قال: وكذلك اعتقادهم الثاني: وهو أن ما كان فلكًا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة؛ وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان، فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات، سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره؛ سواء كان محيطًا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريًا، سواء كان الخالق - سبحانه - محيطًا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا دون الجهة الأخرى.
ثم بين أن الجهة بالنسبة إلى الله العلو الذاتي فقط، وأما غيرها من الجهات الست فهي للحيوان.
قال في مجموع الفتاوى (25/ 196-197): "وعلم أن الجهة قسمان: قسم ذاتي. وهو العلو والسفول فقط. وقسم إضافي: وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته: فما أمامه يقال له: أمام وما خلفه يقال له خلف، وما عن يمينه يقال له اليمين، وما عن يسرته يقال له اليسار، وما فوق رأسه يقال له فوق وما تحت قدميه يقال له تحت وذلك أمر إضافي".
وقال في "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (3/ 614- 615):
"ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا أن الجهة نوعان إضافية متغيرة، وثابتة لازمة حقيقة، فالأولى هي بحسب الحيوان فإن كل حيوان له ست جهات، جهة يؤمها هي أمامه، وجهة يخلفها وهي خلفه، وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي يساره، وجهة فوقه وجهة تحته، وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته وليس لها صفة لازمة ثابتة، وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقة هي جهتا العلو والسفل فقط، فالعلو ما فوق العالم، والسفل سجين وأسفل السافلين وهو أسفل العالم وقعره وجوفه، وإذا كان الأمر كذلك لزم من مباينة الله للعالم أن يكون فوقه وليس هناك شيء آخر يجوز أن يكون جهة لله تعالى، لا يمين العالم ولا يساره ولا تحته". اهـ.
إذا تقرر هذا فوجوب علو الله تعالى على العالم هو لمعنى فيه سبحانه، فهو الأعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء، ولا يجوز أن يكون في جهة تنافي علوه وظهوره، فالنسبة بينه وبين الخلق هي العلو والظهور، ولا توجد جهات فوق العرش؛ لأن العرش سقف العالم كما سبق بيانه، والله سبحانه مستو عليه، كما دل عليه العقل الصريح والنقل الصحيح،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- المصدر: