أخاف أن تغلبني نفسي وأستمر في طريق الهلاك

منذ 2022-05-05
السؤال:

أنا شاب عمري 23 سنة من الله علي بالتوبة و يسر لي برحمته التخلص من العديد من الأمور السيئة و لكن المشكلة أني كنت قبل التزامي أعزف علي الات موسيقيه و قد علمت بحرمتها و تأثيرها الخطير علي القلب و علاقة الانسان بالقرآن و أنا حاليا في صراع شديد جدا فكلما أقلعت عن هذا الأمر استقام حالي و زاد اقبالي علي الطاعه و تيسرت أموري و كلما غلبتني نفسي و عدت تعسر علي الترك و كثر عندي الاصرار علي الاكمال في هذا الطريق المهلك و أنا أخشي سوء الخاتمة و ضياع العمر

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن التوبة والثَّبَات عليها هما حقيقة دين الإسلام، وغاية أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، فجماع الدين في التوحيد والاستغفار؛ كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]. وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]..

والله سبحانه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، أن يستقيموا فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة؛ فقال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].

والثبات على التوبة يتطلب إخراج علائق الذنب من القلب ومجاهدة النفس وأخذها بالشدة، وقد جعل الله سبحانه لكل من جاهد نفسه، واستفرغ وسعه وطاقته في مخالفة النفس والشيطان، وعدهم العون على ذلك؛ فقال وتعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ومن طلب العون من الله أعانه ومن استعاذه أعاذه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ومن لازم الاستغفار والاجتهاد، فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا أحس أنه لم ينشرح صدره، ولم تحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية، فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان، وعليه بإقامة الفرائض ظاهرا وباطنا؛ ولزوم الصراط المستقيم مستعينا بالله؛ متبرئا من الحول والقوة إلا به؛ قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، فكل من اتبع الرسول فإن الله حسبه، أي كافيه وهاديهه وناصره ورازقه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى":

"فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب، فهذه التوبة النصوح وهي واجبة بما أمر الله تعالى.

ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قَبِلَ الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضًا، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصرَّ؛ بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب العبد المفتن التواب"، وفي حديث آخر: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار"، وفي حديث آخر: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة". اهـ

هذا؛ وسألخص لك بعض وسائل الثبات على التوبة والاستقامة للتنبيه على غيرها:

منها: الدعاء بالهداية والاستِقامة والثَّبات، فقد أمر سبحانه عباده أن يسألوه الهداية في كل وقت من صلاة  وغيرها، فقال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ وما ذلك إلا لاحتياجههم ليلاً ونهارًا إلى سؤال الهداية، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره وازدياده منها، واستمراره عليها، أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق؛ فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، والسعيد من وفق لسؤاله؛ فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"؛ رواه الترمذي عن أنس - رضِي الله عنه.

منها: قراءة القرآن بتدبُّر؛ فالله - تعالى - يقول: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] ، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]..

منها: الابتِعاد عن المعاصي والذنوب جملةً، ولا يعني هذا أن يصير المسلم معصومًا، ولكن كلَّما استخفَّكِ الشيطان وقهرَتْك نفسك، فافزَعِي إلى الله بالتوبة.

منها: المحافظة على واجبات الشريعة، لا سيَّما الصلاة في أوقاتها، وعدم التفريط في شيءٍ منها، مع الالتِزام بسائر أحكام الشرع؛ فالله - سبحانه - يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]، أي: ما وظف عليهم في كلِّ وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفَّروا نفوسهم للقِيام به وتكميله، ورتَّب ما يحصل لهم على فعل ما يُوعَظون به الهداية إلى صِراط مستقيم، وهي متضمِّنة للعلم بالحق ومحبَّته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمَن هُدِي إلى صراط مستقيم فقد وُفِّق لكلِّ خير، واندَفَع عنه كلُّ شر وضير.

منها: قراءة سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقصص الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين، ففيها عِبَرٌ وحياةٌ للقلب؛ كما قال - تعالى -: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]..

منها: اختِيار صحبة صالحة من المؤمنين، فهذا ممَّا يشدُّ الأزر في الالتِزام والتمسُّك بالدين، وعلى قمع نوازع الشر في النفس؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "مثَل الجليس الصالح والجليس السوء كمَثَل صاحب المسك وكير الحدَّاد، لا يَعدَمك من صاحب المسك إمَّا تشتريه أو تجد ريحَه، وكير الحدَّاد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة".

ومنها: عدم الانبساط مع أهل المعاصي، والانعزال عنهم شعوريًا لمن يحتاج إلى الاختلاط به، هذا ما أرشد إليه الأئمة قال الإمام ابن القيم في كنابه "مدارج السالكين"(2/338):

 "... فهو حفظ حالك وقلبك مع الله، ودوام إقبالك عليه بقلبك كله، فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط، ومفارقتهم بقلبك وسرك، مشاهدًا للمعنى الذي به حياتك، فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء، فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح، فإذا فات العبد علته الكآبة، وغمره الهم والغم والأحزان، وتلون في أفعاله وأقواله، وتاه قلبه في الأودية والشعاب، وفقد نعيم الدنيا والآخرة".

ومنها: إدمان ذكر الله الله تعالى فإنه يقوى القلب والبدن، ويزيد اليقين في الله تعالى والتوكل عليه، ومن أعظمه المواظبة على قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإن بها تكابد الأهوال وتنال رفيع الدرجات.

قال في الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 77) : "أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه".

ومنها: الاستِعاذة بالله من شرِّ النفس وسيِّئات العمل، كما كان يدعو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشركه))، مع سؤال الله - تعالى - العونَ على طاعته؛ فيحصل الخير ويدفع الشر، ولذلك كان دعاء فاتحة الكتاب أنفَع الدعاء وأعظمه وأحكمه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، فإنَّه إذا هَداه هذا الصراط أَعانَه على طاعته وترْك معصيته، فلم يُصِبْه شرٌّ لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كلَّ لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب؛ ولهذا أمَر به في كلِّ صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره مَن اعتبر أحوال نفسه؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى.

واحذر من التمادي في المعاصي وترك التوبة حتى لا ينطفئ نور الإيمان الذي أودعه الله في قلبك من معرفته ومحبته والايمان به ذكره؛ فهو مادة حياة القلب وبه ينشرح الصدر ويفرح القلب، فإذا فقد من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه، وقد ضرب الله مثلاً لبيان حال من أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، ودخل في الطاعة ثم فارقها بقلبه؛ فقال سبحانه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17، 18].

جاء في الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 53-55): "المؤمن قلبه مضيئ يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نوراً بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نور على نور، فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثر، ثم يسمع الأثر مطابقاً لما شهدت به فطرته فيكون نوراً على نور، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملاً ثم يسمع الأثر جاء به مفصلاً... لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذاناً واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت قلوباً خالية، ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشهادة الباطل فلم تصغ بعده إلى الملام، ووعظت بمواعظ أنكى فيها الأسنة والسهام، ولكن ماتت   في بحر الجهل والغفلة وأسر الهوى والشهوة، وما لجرح بميت إيلام"...

وجاء في كتاب "الداء والدواء" (ص: 59): "أن المعاصي تفسد العقل، فإن للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ نوره ضعف ونقص

وقال بعض السلف: ما عصى الله أحد حتى يغيب عقله، وهذا ظاهر، فإنه لو حضر عقله لحجزه عن المعصية وهو في قبضة الرب تعالى، أو تحت قهره، وهو مطلع عليه، وفي داره على بساطه وملائكته شهود عليه ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله، والاستخفاف به ذو عقل سليم".اهـ.

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام