هل دعاء الأنبياء مستجاب بإطلاق
اليوم مرني حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ان اليهود كان يتعاطسون عند النبي لكي يقول لهم يرحمكم الله ، ولكنه يقول يهديكم الله. سوالي هل قول النبي لهم يهديكم الله يعتبر دعاء ؟ واذا نعم هل ذلك الدعاء مستجاب (لانه نبي ودعاء الانبياء مستجاب) اتمنى الشرح
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن الدعاء للمشركين بالهداية جائز وإنما المحذور هو الدعاء لهم بالرحمة؛ ففي صحيح البخاري عن ابي هريرة رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: "اللهم اهد دوسا وأت بهم"
أما استجابة الله لدعاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام – فالمراد رجاء الاستجابة من الله وليس تيقن الاستجابة والجزم باستجابة جميع أدعيتهم؛ كما يفهم من الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي والترمذي عن خباب بن ا خباب بن الأرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي ثلاث خصال: فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر علينا عدوًا غيرنا، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعًا فمنعنيها"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا".
جاء في "شرح النووي على مسلم" (3/ 75): "هذه الاحاديث تفسر بعضها بعضًا، ومعناها أن كل نبي له دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(11/ 96): "وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة، وقيل معنى قوله لكل نبي دعوة أي أفضل دعواته ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها يستجاب ومنها مالا يستجاب، وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح لا تذر على الأرض، وقول زكريا فهب لي من لدنك وليًا يرثني، وقول سليمان: وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، حكاه بن التين". اهـ.
وكذلك ورد في القرآن العظيم ما يدل على أن لأنبياء الله تعالى دعوات غير مستجابة؛ كما قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: 45-46]، وقال سبحانه: {إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة: 124]، وقال: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]
وقال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
وأيضًا دعاء النبي لعمه أبي طالب لم يستجبه الله تعالى، وعادئه على أبي سفيان وسهيل بن عمرو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(8/ 192): "الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، وكسائر الأسباب في اقتضائها المسببات، ومن قال: إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليس بسبب، أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودًا ولا عدمًا، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه:- فهما قولان ضعيفان؛ فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله إذًا نكثر قال الله أكثر"، فعلق العطايا بالدعاء تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به؛ وقال عمر بن الخطاب: إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه".
ويبينه كما يدل على ذلك مثله في سائر الأسباب؛ وقد أخبر سبحانه من ذلك ما أخبر به في مثل قوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75]، وقوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء: 87، 88]، وقوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقوله تعالى عن زكريا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89، 90]، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وقال تعالى: { {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32، 33].
إلى أن قال: (8/ 194): "والمقصود هنا أن يعلم أن الدعاء والسؤال هو سبب لنيل المطلوب المسؤول". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فإن الدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله تعالى، وهو سبحانه الذي خلق السبب والمسبب، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن علم هذا فهم استجابة الله لأنبيائه وعدم الاستجابة،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- المصدر: