الفرق بين السَّماع والاستماع للمعازف

منذ 2022-09-23
السؤال:

لقد إشتد علي كثرة التفكير في موضوع ما وهو السماع الموسيقي فالموسيقي حرام لكن يقول الشيوخ السماع لها بغير قصد لا إثم علي من يفعله ولكن هناك حديث لابن عمر يقول أنه غطي أذنيه عند سماع المزمار مثل رسول الله فكيف السماع لا إثم عليه ورسول الله فعل هذا أم هذا من سنة النبي وأنا لست ملزم أم ماذا أفيدوني جزاكم الله خيرا

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فالحديث الذي أشار إليه السائل رواه أحمد وأبو داود عن نافع، مولى ابن عمر، أن ابن عمر: " سمع صوت، زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع أتسمع؟ فأقول: نعم، فيمضي حتى، قلت: لا، فوضع يديه، وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا "؛ قال أبو داود هذا حديث منكر، وعلى فرض صحته فلا يدل على إباحة السماع؛ لأن المحظور هو قصد الاستماع، لا مجرد إدراك الصوت، لأنه لا يدخل تحت التكليف، مثل شم المحرم للطيب فإنه لا يفسد الإحرام بغير خلاف، وكنظرة الفجاءة، بخلاف تتابع نظرة فمحرم، فضلا عن أنها حكاية فعل يدخلها الاحتمال.

 قال الخطابي في" معالم السنن"(4/ 124): "المزمار الذي سمعه ابن عمر رضي الله عنه هو صفارة الرعاة، وقد جاء ذلك مذكوراً في هذا الحديث من غير هذه الرواية، وهذا وإن كان مكروهاً فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون؛ ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكير مبلغ الردع والتنكيل". هـ.

 هذا؛ وقد احتج بحديث ابن عمر السابق أبو محمد بن حزم على إباحة المعازف فقال في فلو كان حراما ما أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه ولكنه عليه السلام كره كل شيء ليس من التقرب إلى الله كما كره الأكل متكئا و.. و ... فلو كان ذلك حراما لما اقتصر - عليه السلام - أن يسد أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه.

وقد أجاب على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"(11/ 566-567) فقال:"... والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع؛ لا بمجرد السماع؛ كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار. وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم فأما إذا شم ما لم يقصده فإنه لا شيء عليه. وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس: من السمع والبصر والشم والذوق واللمس. إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي. وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن {ابن عمر أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت زمارة راع فعدل عن الطريق وقال: هل تسمع؟ هل تسمع؟ حتى انقطع الصوت} فإن من الناس من يقول: بتقدير صحة هذا الحديث لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه فيجاب بأنه كان صغيرا أو يجاب بأنه لم يكن يستمع وإنما كان يسمع. وهذا لا إثم فيه. وإنما النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك طلبا للأفضل والأكمل كمن اجتاز بطريق فسمع قوما يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كيلا يسمعه فهذا حسن ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك. اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد". اهـ.

وقال أيضًا مجموع الفتاوى (30/ 212-216): "وقال أبو داود لما روى هذا الحديث –يقصد: حديث ابن عمر -: هذا حديث منكر، وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا، فإن كان ثابتًا فلا حجة فيه لمن أباح الشبابة لا سيما ومذهب الأئمة الأربعة أن الشبابة حرام، ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة إلا متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي؛ فإنهم ذكروا فيها وجهين، وأما العراقيون - وهم أعلم بمذهبه - فقطعوا بالتحريم كما قطع به سائر المذاهب.

وبكل حال فهذا وجه ضعيف في مذهبه؛ وقد قال الشافعي: الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وقال أيضًا: خلفت في بغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن.

 وآلات الملاهي لا يجوز اتخاذها ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة، فهذا الحديث إن كان ثابتًا فلا حجة فيه على إباحة الشبابة؛ بل هو على النهي عنها أولى من وجوه:

 أحدها: أن المحرم هو الاستماع لا السماع فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازًا بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين، ولو جلس واستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده: كان آثما باتفاق المسلمين كما قال تعالى: { {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام: 68-69]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 140]، فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل؛ ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب؛ وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها، فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان".

 فلو كان الرجل مارًا فسمع القرآن من غير أن يستمع إليه لم يؤجر على ذلك؛ وإنما يؤجر على الاستماع الذي يقصد كما قال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال لموسى: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى.

فإذا عرف أن الأمر والنهي والوعد والوعيد يتعلق بالاستماع لا بالسماع؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر كان مارًا مجتازًا لم يكن مستمعًا، وكذلك كان ابن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم ونافع مع ابن عمر، كان سامعًا لا مستمعًا فلم يكن عليه سد أذنه.

الوجه الثاني: أنه إنما سد النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه مبالغة في التحفظ حتى لا يسمع أصلا، فتبين بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع، وإن لم يكن في السماع إثم، ولو كان الصوت مباحًا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح، بل سد أذنيه لئلا يسمعه وإن لم يكن السماع محرمًا؛ دل على أن الامتناع من الاستماع أولى، فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الإذن فيه.

 الوجه الثالث: أنه لو قُدر أن الاستماع لا يجوز فلو سد هو ورفيقه آذانهما لم يعرفا متى ينقطع الصوت فيترك المتبوع سد أذنيه.

الرابع: أنه لم يعلم أن الرفيق كان بالغًا؛ أو كان صغيرًا دون البلوغ، والصبيان يرخص لهم في اللعب ما لا يرخص فيه للبالغ.

 الخامس: أن زمارة الراعي ليست مطربة كالشبابة التي يصنع غير الراعي، فلو قدر الإذن فيها لم يلزم الإذن في الموصوف، وما يتبعه من الأصوات التي تفعل في النفوس فعل حمي الكؤوس.

إلى أن قال: فقد تبين أن المستدل بهذا الحديث على جواز ذلك وجواز إعطاء الأجرة عليه: مخطئ من هذه الوجوه لو كان الحديث صحيحا فكيف وفيه ما فيه". اهـ.

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام