ما هو سبب خشية النبي لما جاءه جبريل في الغار
أحسن الله إليكم سؤالي هو عن جبريل عليه السلام بما أن الملائكة تتصف بالجمال الذي لايتصوره العقل البشري فما سبب خوف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عند رؤيته هل هو مرعب ؟!
فالحديث المشار إليه رواه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني"، فقال: اقرأ، قلت: ما "أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق: 1 - 3]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فالخشية التي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله، كما ذكر أهل العلم وحكاه عنهم السهيلي، فلما استمر الوحي بعد ذلك واقترنت به القرائن المقتضية للعلم القطعي حصل العلم، وأزال الله خشيته ورزقه الأيد والقوة والثبات والعصمة.
جاء في كتاب " كشف المشكل من حديث الصحيحين" (4/ 273): "كان صلى الله عليه وسلم يخاف في بداية الأمر أن يكون ما يراه من قبل الشيطان؛ لأن الباطل قد يلتبس بالحق، وما زال يستقري الدلائل ويسأل الآيات إلى أن وضح له الصواب؛ وكما أن أحدنا يجب عليه أن يسبر صدق المرسل إليه وينظر في دلائل صدقه من المعجزات، فكذلك الرسل يجب عليها أن تسبر حال المرسل إليها، هل هو ملك أو شيطان؟ فاجتهادها في تمييز الحق من الباطل أعظم من اجتهادنا، ولذلك علت منازل الأنبياء لعظم ما ابتلوا به من ذلك.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم في بدايته قد نفر من جبريل ونسب الحال إلى الأمر المخوف، وقال لخديجة: "قد خشيت على نفسي"، إلى أن بان له أن الأمر حق، ثم استظهر بزيادة الأدلة حتى تحقق له اليقين". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (2/ 419): "..... وأما الجمهور -أهل السنة- الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون: نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيًا فاجرًا، وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة، لا تكون شياطين، كما قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} - إلى قوله - {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ* وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء: 192 - 226] .
فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي، لما زعم المفترون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شاعر وكاهن، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة: " لقد خشيت على نفسي"، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة، التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين، أنه لا يخزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه، ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك، بل علمته بمجرد عقلها الراجح.
وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين، مثل مسيلمة الكذاب والعنسي وغيرهما، مع ما كان يشتبه من أمرهم، لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم، حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم، فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم، والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك، يبين لهم أنه ليس بنبي، إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبًا ولا فاجرًا". اهـ.
والحاصل، أن ما ألمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء كان لاشتباه الأمر عليه في أول الأمر؛ فلما علم أنه ملك من الله آمن وأيقن؛ وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أيمانه فقال عز وجلّ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]،، والله أعلم
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- المصدر: