يتملكني الحزن الشديد من موت أمي
السلام عليكم والدتي توفت بكرونا قبل تسع أشهر وتملكني الحزن الشديد عليها وخلال تللك الفتره يتم دعوتي الي مناسبات أفراح وانا اعتذر ليس حداد لكن القلب حزين. هل على والدتي رحمها الله إثم لاسمح الله هل على إثم وجزاكم الله خيرا
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن لله ما أَخَذَ، وله ما أَعْطَى، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مسمًى؛ فلتصبر ولتحتسب.
فالصبر كما هو معلوم نصف الإيمان، والله تعالى يُوَفِّي الصابرين أجرهم بغير حساب؛ قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157].
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: ((اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي))، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)).
والله تعالى وعد من احْتَسَبْ وصبرِ الجميلِ بالجزاءَ الأوفى، وهي الجنةُ التي أعدَّها الله لعباده المتقين؛ وفِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إِلَّا الجَنَّةُ))؛ رواه البخاري.
والصفيُّ: الذي تحبُّه وتصطفيهِ من الناس، فيدخُلُ فيه الوالدُ والوالدة، وغيرُهُما، ولتكْثِرْ من قول: "إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"، "وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"؛ فالإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر؛ كما قال السلف؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
أما حزنك على والدتك، وما تشعُرُ به من الأسى، فالمحذور فيه هو التمادي كل هذه المدة؛ لأنه قد يؤول إلى ما لا تحمد عقباه؛ ففي الصحيحين، وَبَكَى عند وَفَاة بعضِ بناته، وَبَكَى لما رأى ابن ابنته يجودُ بنفسِهِ، وَدَمَعَت عيناهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّما عُوتِبَ في ذلك، وقال سعدٌ: يا رسولَ اللهِ، ما هذا؟ قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))؛ متفق عليه
وَبَكِت الزَّهراءُ فاطمةُ - رضي الله عنها - لما رأت ما نَزَلَ بِرَسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سَكَرَاتِ الموت، وشِدَّتِهِ.
فعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَا كَرْبَ أَبَتاهُ، فَقَالَ لَهَا: ((لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ))، فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: "يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ"، فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: "يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – التُّرَابَ"؛ رواه البخاري.
فالحياة لا بد أن تستمر، وتجاوُزُ الحزن بهذا القَدْرِ لا يُعِيدُ ما فات، كما أنه منهيٌّ عنه؛ لأن كل إنسان وَجوده في الدنيا إلى أجل مسمى، والله - سبحانه وتعالى - يفعل فيه ما يشاءُ، ولا معقب لحكمة؛ ومن أعظم أقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ماضٍ فيّ حكمك عدلٌ فيّ قضاؤك"، فتأمله!
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ))؛ أخرجه مسلم.
فَأَقْبِلْ على حياتك؛ فأنت لست وَحْدَكَ مَنْ أُصِيبَ بتلك المصائب؛ فالنبي سيدُ الخلق ماتَ أبوهُ وهو جنينٌ، ثم ماتت أمُّهُ وهو لم يَزَلْ طفلًا صغيرًا، ثم مات جدُّه الذي يرعاه، ثم لما نزلت عليه الرسالةُ، وتعرَّض للأهوال التي تعرفها، قَيَّضَ الله له نِعْمَ الزوجةُ أُمَّنَا خديجةَ، وعمَّه أبا طالبٍ، فمات الِاثنانِ عنه، وَحَزِنَ عليهما، ولكنّ الحياة استرت بعد هذا.
ولما لَحِقَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، أَظْلَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ كُلُّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قال: "وَمَا فَرَغْنَا مِنْ دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا"، وعلى الرغم من عِظَمِ المُصِيبَةِ إلا أن الصحب الكرام واصلوا الحياة بعده، ونشروا دين الله، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ)).
فاصبر لقضاء الله وقدره وسلم الأمر له، فإن في ذلك الخيرَ العظيمَ، والجزاءَ الكبيرَ لك في الدنيا، والآخرة، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ))؛ أخرجه الترمذي عن أنس.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ))؛ أخرجه البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ.
ولِتَسْهُلَ شِدَّةُ الوَجْدِ، والحُزْنِ، وضِيقِ النفْسِ؛ عليك بالآتي:
(1) صدق اللُّجْءِ إلى الله - عزَّ وجلَّ - واسأَلْهُ أن يرزُقَكَ الصبر، واليقين، وثبات القلب، وأن يَخْلُفَكَ خيرًا مما فقدت.
(2) احرصْ أن تقولُ ما أَمَرَكَ اللهُ بِهِ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 156] ، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا "، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
(3) التذكر أنه الموت هو مصيرُ جميع الخلائقِ، ونحن لتلك النهاية ذاهبون،؛ وصدق الله إذ يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، لا فرق بين صغيرٍ وكبيرٍ، وعظيمٍ وحقيرٍ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، فالكلُّ ذاهبٌ، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، وأمر من زار المقابر أن يقول: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"؛ رواه مسلم.
(4) اسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ الصبرِ، وَمَا أعدَّه الله للصابرين من الجنةِ، ونعيمِها، وهذا مما يُهَوِّنُ عليك كثيرًا، واعلم أنه من كمال العُبُودية لله - جل وعلا - الرضا بالقضاء، والصبرُ على البلاء، والتسليمُ لكل ما يجري عليك من الله - جل وعلا - يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إِنَّ للرب على العبد عبوديتين؛ عبوديةً في الرخاء، وعبوديةً في الشدة، أما عبوديةُ الرخاء فالشكرُ، وعبوديةُ الشدةِ الصبرُ". اهـ. وانصحُك أن تقتني كتاب "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم؛ فسوف يعينُك كثيرًا.
(5) عليك بقراءة القرآن بتدبُّرٍ، وكُن على حَذَرٍ من الشيطان ومداخله على نفسك؛ ليَحْزُنَهَا، وليُكَدِّرَ عليها صفوَها، وليشغلك عمَّا هو أنفعُ لها من أمر دينها، ودنياها، فاحذر من اتباع خُطُواته، واشغل نفسَكَ بالذكرِ وغيرِهِ مما هو مرغَّبٌ فيه شرعًا، واعلم أن مُصابنا في فقد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظمُ من أيِّ مُصابٍ في حبيبٍ، أو قريبٍ.
أما شدة الحزن فلا تضر الميت في شيء، ولكن يخشى عليك من الاستمرار فيه،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- المصدر: