هل الديوث ومدمن الخمر والمترجلة لا يدخلون الجنة

منذ 11 ساعة
السؤال:

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن حقيقة (لا إله إلا الله) هو الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، فإن من أسلم لله ولغير الله كان مشركًا، ومن لم يستسلم لله كان مستكبرًا؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، وهذا هو معنى قول السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على ضربهم: إن الإيمان قول وعمل، قول في القلب وهو التصديق، وعمل في القلب وهو الانقياد والاستسلام، وعمل الجوارح وهو ملزوم لعمل القلب.

فليست (لا إله إلا الله) مجرد كلمة باللسان فقط حتى تتعارض مع فرائض الإسلام ونواهيه؛ وفي صحيح البخاري عن وهب بن منبه أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح.

والحاصل أن (لا إله إلا الله) سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، ومقتض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا بتحقق شروطه، وانتفاء موانعه، وإلا تخلف عن مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع.

ولهذا قيل للحسن إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة

هذا؛ ومن تأمل الأحاديث التي فيها أن من قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة وجد بعضها مطلقًا، والببعض الآخر مقيدًا؛ كما وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة"، عنه أيضًا: "... من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا ًبها قلبه، فبشره بالجنة"، وفي "الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار"، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه"، وفي رواية أحمد: "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه"، وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل"، والأحاديث يهذا المعنى كثيرة جدًا.

جاء في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي : "باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب، قال: هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين: إن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعًا". اهـ.

وقال الإمام ابن القيم: "التبيان في أقسام القرآن" (ص: 58): "التصديق الحقيقي بلا إله إلا الله يستلزم التصديق بشعبها وفروعها كلها وجميع أصول الدين وفروعه من شعب هذه الكلمة فلا يكون العبد مصدقاً بها حقيقة التصديق حتى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ولا يكون مؤمناً بالله إله العالمين حتى يؤمن بصفات جلاله ونعوت كماله ولا يكون مؤمناً بأن الله لا إله إلا هو حتى يسلب خصائص الإلهية عن كل موجود سواه ويسلبها عن اعتقاده وإرادته كما هي منفية في الحقيقة والخارج ولا يكون مصدقاً بها من نفي الصفات العليا ولا من نفي كلامه وتكليمه ولا من نفى استوائه على عرشه وأنه يرفع إليه الكلم الطيب والعمل الصالح وأنه رفع المسيح إليه وأسرى برسوله إليه وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه إلى سائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ولا يكون مؤمناً بهذه الكلمة مصدقاً بها على الحقيقة من نفى عموم خلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء وبعثة الأجساد من القبور ليوم النشور ولا يكون مصدقاً بها من زعم أنه يترك خلقه سدى لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وكذلك التصديق بها يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه هو تفصيل لا إله إلا الله فالمصدق بها على الحقيقة الذي يأتي بذلك كله". اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (ص: 520- 521): "إن الإيمان: قول وعمل، أعني: في الأصل قولاً في القلب، وعملاً في القلب؛ فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته وكلام الله ورسالته يتضمن إخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالاً في القلب بحسب المُصدق به والتصديق، هو من نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين، فمتى ترك الانقياد كان مستكبرًا فصار من الكافرين، وإن كان مصدقًا؛ فالكفر أعم من التكذيب، يكون تكذيبًا وجهلاً، ويكون استكبارًا وظلمًا؛ ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب، ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل؛ ألا ترى أن نفرًا من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد إنك نبي ولم يتعبوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟ ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنت خبرًا وأمرًا فإنه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله، وانقياد لأمر الله، فإذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله" فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: "وأشهد أن محمدا رسول الله" تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان! وغفل عن أن الأصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد؛ وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرًا وباطنًا ثم يمتنع من الانقياد للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس". اهـ.

إذا تقرر هذا ظهر لك وجه المجع بين الأحاديث وهو: أن من شهد شهادة الإسلام وأتى بشروطها فهو مسلم، فإن وقع في كبيرة من الكبائر، ومات لم يتب منها، مثل: مدمن الخمر والديوث، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ولكن لا يخلد في النار ما دام مات على التوحيد؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

والحديث المذكور وهو ما يطلق عليه عند الأئمة أحاديث الوعيد، كقوله قال صلى الله عليه وسلم كما  في الصحيح: "لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر"، وقوله: "لا يدخل الجنة قاطع رحم"، وآيات الوعيد في القرآن كثيرة جدًا؛  كقوله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وغيرها كثير، وأهل الوعيد يدخلون النار ويمكثون فيها ما شاء الله مع كونهم ليسوا كفارًا، فالمسلم الذي معه شيء من الإيمان وله كبائر قد يدخل النار ثم يخرج منها: إما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو شفاعة المؤمنين، وهكذا الوعيد في قاتل النفس والزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وغيرهم من أهل الكبائر؛ فهم ليسوا من المستحقين للجنة الموعودين بها بلا عقاب؛ لأنه ليس كل المسلمين يدخلون الجنة بلا عذاب.

ومذهب أهل السنة والجماعة: أن فساق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار، وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة؛ بل لهم حسنات وسيئات يستحقون بهذا العقاب وبهذا الثواب.

فـ "المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب؛ لا الدخول المقيد الذي يحصل لمن دخل النار ثم دخل الجنة؛ فإنه إذا أطلق في الحديث فلان في الجنة أو فلان من أهل الجنة، كان المفهوم أنه يدخل الجنة ولا يدخل النار. فإذا تبين هذا كان معناه أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ليس هو من أهل الجنة ولا يدخلها بلا عذاب، بل هو مستحق للعذاب لكبره كما يستحقها غيره من أهل الكبائر، ولكن قد يعذب في النار ما شاء الله فإنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وهذا كقوله: "لا يدخل الجنة قاطع رحم"، وقوله: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم". قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7-679)،، والله أعلم

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام