مواقف خالدة في حسن الظن بالله (4)
أبو محمد بن عبد الله
في تاريخنا من القصص الروائع في التوكل على الله تعالى وحسن الظن به ما يكون لنا فيها الإسوة الحسنة والبلسم الشافي لأمراض أصابتنا أمة وأفرادًا، إلا من رحم اللهُ.
في تاريخنا من القصص الروائع في التوكل على الله تعالى وحسن الظن به ما يكون لنا فيها الإسوة الحسنة والبلسم الشافي لأمراض أصابتنا أمة وأفرادًا، إلا من رحم اللهُ.
خير الأنام عليه الصلاة والسلام
اِبْتَهِج وتمتعْ، وأَحسِن وتشجَّع، حين تنظر إلى القائد الأعظم والقدوة الكبرى؛ كيف يحسن الظن بالله تعالى، ويعطي الصديق رضي الله عنه درسا حيا بليغا في ذلك، وهو لنا من بعده، ذلك حين اختفيا عن الكفار في الغار، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال : "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا" فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين؛ الله ثالثهما»(البخاري، برقم:[3453]، ومسلم، برقم:[2381] في صحيحيهما).
ولا شك ولا ريب أن ظن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في الاثنين, وإنما في ثالثهما, في الواحد الأحد الصمد، وكان ظنه في محله ومستواه، فحفظه الله وأنجاه، فهي لهما ولنا من بعدهما، ولكل شرط جوابه.
وفي القرآن الكريم: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40]، فكانت النتيجة مترتبة على ذلك فورًا، حاضرة معقبة بالفاء المفيدة للترتيب والتعقيب: سكينة وتأييد بجنود لا قبل لهم بها وتسفيل لكلمة الذين كفروا، وكلمةُ الله مرفوعة عليا ظاهرة على الدوام[1].. كان ذلك له صلى الله عليه وسلم وهي لمن بعده بشرطها..
موسى الكليم عليه الصلاة والسلام
وبمثل هذا الظن رد موسى عليه الصلاة والسلام- على قومه لمَّا خافوا إدراك فرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:61-68]. معذورون هم القائلون: {إنَّا لمدركون!}، لكن كليم الله عليه الصلاة والسلام مملوء القلب ثقة بالله وحسن ظن به وتصديقًا بوعده، لذلك انطلق يزجرهم عن قولهم هذا بقوله: {كــــــلا}، وعلةُ ذلك واضحة: {إن معي ربي سيهدين}، كما قالها النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه: {لا تحزن إن الله معنا}، «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» .. إنه الشعور بمعية الله لعباده.. {إن معي ربي سيهدين}، فكانت النتيجة أيضا فورية حاسمة {فــــأوحينا}، فكان الحلُّ والهداية في الوحي وكان الضربُ.. فانفلاقُ البحر وتقريبُ فرعون من مصرعه.. فنجاةُ موسى وقومِهِ أجمعين لم يُدْرَك منهم ولا واحد.. فغرَقُ الآخرين.. وكان لموسى عليه الصلاة والسلام من الخير بحسب ظنه بربه.. وهي آية لمن بعدهم لا تتخلف حقيقتها وإن اختلفت صورها، سنة الله في خلقه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وفي قصة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الأمثلة على ذلك الشيء الكثير، ولكن نقتصر على واحدة منها يتبين حسن ظن الأسرة المؤمنة بربها، ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت مِنطَقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جِرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[ إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعي الناس بينهما»، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبة أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم-: «يرحم اللهُ أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا» قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله..."(البخاري؛ في صحيحه، برقم:[3184] وأحمد، المسند، برقم:[3250] وغيرهما).
ولا نذهب بعيدًا في شرح الحديث ولا في تحليل القصة لأن ذلك يطول، ولكن نخنتار من الشواهد موقفًا لإبراهيم عليه السلام وآخر لهاجر:
إبراهيم عليه السلام
أولا: يقين إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الله تعالى وحسن ظنه به جعله يترك حليلته المنجِب وفلذة كبده في عراء من صحراء لا إنْس فيها ولا أُنس ولا ماء، فراشهما الأرض ولحافهما السماء، لأن الله تعالى أمره بذلك وفقط, فعلم أنه الخير فسلَّم أمره فكان عاقبة الأمر خيرًا في دنيا الناس إلى نهايتها، وكان في الافتراق هذا مَجمع الناس إلى قيام الساعة، تهوي إليه الأفئدة وتُجبَى إليه الثمرات وتستقبله الجباه المؤمنة توحد الله بالسجود..
هاجر – رحمها الله تعالى-
ثانيًا: أيضًا في ذلك اليقين العجيب وحسن الظن العظيم من هاجر-رحمها الله- أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما تركها في ذلك المكان، فقالت: "آلله أمرك بهذا؟" فقال: "نعم" فقالت وما أروع ما قالت وأدلَّه على يقين وحسن ظن برب العالمين: "إذن لا يضيـعنـــــا" وفي رواية صحيحة: "يا إبراهيم إلى من تتركنا؟" قال: "إلى الله". قالت: "رضيت بالله". بِكَم تبعد هذه عن قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للصديق رضي الله عنه: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»، إلا أن الاثنين في هذه المرة هاجر ورضيعها، وكما عوَّدتنا سنة الله التي لا تتخلف ووعده الذي لا يُخْلَف كان الله عند حسن ظن عباده به، وكان الفرج والمعية والتأييد، وفوق ذلك خلَّد القصة تذكيرًا بأصحابها وتنويها بشأنهم، بل جعلها سببا لعبادة السعي بين الصفا والمروة سبعا كما سعت هاجر بحثا عن الغوث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعي الناس بينهما»، وجعل من زمزم طعما وشفاءً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «زمزم طعام طعم وشفاء سقم»(الألباني؛ صحيح الجامع، برقم: [3572]). كل ذلك ببركة حسن الظن بالله تعالى.
وفي تاريخ سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على دربهم من القصص الروائع، ما ينفخ روح الثقة والحسن الظن في الله تعالى وفي نصره وفي قضائه الشرعي الذي شرعه لنا في قرآنه الكريم وسنة نبيه الأمين، وفي قضائه الكوني الذي يصيبنا من خير ومما يبدو لبعضنا أنه من السيئات، وكل ذلك بعلم من الله واسع وحكمة بالغة وقدرة غالبة.
وأختمها قائلا: أقسم بالله العطيم، أقسم غير حانث، أنَّ الله تعالى لناصر هذه الأمة ولو بعد حين، بل إنا لنراه حينا قريبًا، طنٌّ في الله وثيق.. وإنما علينا أن نسعى أن نكون أدوات في هذا النصر للنال الشرف والأجر، وليس لنا رب غير الله، ولكن لله عباد غيرنا.
سبق من سلسلة الظن، المقالات:
ــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر تفسير ابن كثير:(2/462) والظلال:(3/1656)