الظن بنصر الله وعونه (3)
من ظن بالله بأنه لا ينصر رسوله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم وأنه لا ينصر دينه وكتابه فقد ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده...
الظن بنصر الله للمؤمنين، أساءه المحجوبون وأحسنه الموحدون كما جاء فيه قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}[الفتح: 11-13].
قال ابن القيم-رحمه الله-: "فمن ظن بالله بأنه لا ينصر رسوله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله"[زاد المعاد:3/199].
قال ابن كثير-رحمه الله-: "{بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا}، وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله, وهــذا شـأن أهــل الريب والشـك إذا حصل أمر من الأمور الفضيعة تحصل لهم الظنون الشنيعة"[التفسير:1 /544].
قال سيد قطب -رحمه الله-: "وهكذا يقفهم عرايا مكشوفين، وجها لوجه أمام ما أضمروا من نية، وما ستروا من تقدير، وما ظنوا بالله من السوء. وقد ظنوا أن الرسول ومن معه من المؤمنين ذاهبون إلى حتفهم، فلا يرجعون إلى أهليهم بالمدينة؛ وقالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه فيقاتلهم! - يشيرون إلى أحد والأحزاب - ولم يحسبوا حسابا لرعاية الله وحمايته للصادقين المتجردين من عباده. كما أنهم - بطبيعة تصورهم للأمور وخلوِّ قلوبهم من حرارة العقيدة - لم يقدروا أن الواجب هو الواجب، بغض النظر عن تكاليفه كائنة ما كانت؛ وأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون بدون النظر إلى الربح الظاهري والخسارة الشكلية، فهي واجب مفروض يؤدى دون نظر إلى عاقبة أخرى وراءه. لقد ظنوا ظنهم، وزين هذا الظن في قلوبهم، حتى لم يروا غيره، ولم يفكروا في سواه. وكان هذا هو ظن السوء بالله، الناشئ من أن قلوبهم بور. وهو تعبير عجيب موح. فالأرض البور ميتة جرداء. وكذلك قلوبهم. وكذلك هم بكل كيانهم بور. لا حياة ولا خصب ولا إثمار. وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن بالله ؟ لأنه انقطع عن الاتصال بروح الله ؟ يكون بورا. ميتا أجرد نهايته إلى البوار والدمار.
وكذلك يظن الناس بالجماعة المؤمنة. الناس من أمثال أولئك الأعراب المنقطعين عن الله. البور الخالية قلوبهم من الروح والحياة. هكذا يظنون دائما بالجماعة المؤمنة عندما يبدو أن كفة الباطل هي الراجحة، وأن قوى الأرض الظاهرة في جانب أهل الشر والضلال؛ وأن المؤمنين قلة في العدد، أو قلة في العدة، أو قلة في المكان والجاه والمال. هكذا يظن الأعراب وأشباههم في كل زمان أن المؤمنين لا ينقلبون إلى أهليهم أبدًا إذا هم واجهوا الباطل المنتفش بقوته الظاهرة. ومن ثم يتجنبون المؤمنين حبا للسلامة؛ ويتوقعون في كل لحظة أن يستأصلوا وأن تنتهي دعوتهم فيأخذون هم بالأحوط ويبعدون عن طريقهم المحفوف بالمهالك! ولكن الله يخيب ظن السوء هذا؛ ويبدل المواقف والأحوال بمعرفته هو، وبتدبيره هو، وحسب ميزان القوى الحقيقية. الميزان الذي يمسكه الله بيده القوية، فيخفض به قوما ويرفع به آخرين، من حيث لا يعلم المنافقون الظانون بالله ظن السوء في كل مكان وفي كل حين!
إن الميزان هو ميزان الإيمان. ومن ثم يرد الله أولئك الأعراب إليه؛ ويقرر القاعدة العامة للجزاء وفق هذا الميزان، مع التلويح لهم برحمة الله القريبة والإيحاء إليهم بالمبادرة إلى اغتنام الفرصة، والتمتع بمغفرة الله ورحمته"[الظلال:3322]
فالذي يظن اليوم أن قوة توصف –جهالة- بأنها "كبرى" يقال لها أمريكا أو حية رقطاء يقال لها يهود لن تُغلبا أو جيوشا لا تُقهَر فلنسلم الأمر، أو أن وهمًا وجنونا فيه أولئك الذين يناصبونهما العداء من أبناء المسلمين ويسعون في كسر شوكتهم أو اعتراض طريقهم أو إفشال خطتهم.. وأنهم لن ينقلبوا سالمين أو غالبين غانمين.. كل ذلك يقال له سوء ظن بالله تعالى في اقتداره وفي عنايته بجنده المؤمنين ونصره لهم وبوعده للصادقين بل بشارة هذه الأمة بالتمكين والرفعة والسناء... بشرط أن يكون هؤلاء المؤمنين أصحاب طريقة سوية وسريرة نقية.
لـــمَّا حسَّن الرعيل الأول الظنَّ بالله تعالى لم تُخِفْهم قوى الشر في زمانهم وكانت "قوى عظمى!" فواجهوها قليلين عزلا مجردين من العدة والعتاد إلا الإيمان القوي والتوكل التام الذي هو التعبير الصحيح الصادق عن حسن ظنهم بالله تعالى وبنصره لهم وبتوفيته للوعد حين اِلتزامهم بالشروط من نحو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}[محمد:7]، ومثل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}[الطلاق:3] وقوله تعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا}[النساء:84].
سبقه من السلسلة:
أبو محمد بن عبد الله قدوس
تاريخ النشر: 13 رمضان 1436 (30/6/2015)
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: