الربيع العربي أم الربيع الليبرالي؟

منذ 2012-05-07

لقد ذُهِلَ العالم بأجمعه وظل متابعاً للأحداث التي حدثت في تونس وما صاحبها من تحولات في الساحة السياسية وقلبت فيه الموازين، وكيف أصبح للشعوب العربية هتافات وشعارات خرجوا بها عن الصمت الذي أطبق عليهم في ظل جبروت الحكومات الراحلة ...


لقد ذُهِلَ العالم بأجمعه وظل متابعاً للأحداث التي حدثت في تونس وما صاحبها من تحولات في الساحة السياسية وقلبت فيه الموازين، وكيف أصبح للشعوب العربية هتافات وشعارات خرجوا بها عن الصمت الذي أطبق عليهم في ظل جبروت الحكومات الراحلة التي اهترأت سياساتها وتمزقت من كل ناحية، وكيف فَرَّ زين العابدين من تونس لا يلتفت إلى عقبه، وما رأيناه من هروع الناس وانتعاش روح التدين في نفوسهم بدأت تورق في جنبات حياتهم ومطالباتهم من جديد، وما تبِع ذلك من انتفاضات شعبية عارمة اجتاحت مصر وليبيا واليمن وسوريا، وقد كان للدول وساستها مواقف متباينة في هذه الثورات، وأماطت هذه الثورات اللثام عن وجوه كثيرة من السياسات التي كانت تختبئ خلف أرديتها، وما صاحَب ذلك من كشف مخططات ومراحل انتقالية في كثير من بقاع الشرق الإسلامي، وما رأيناه من الأبواق التي بدأت تصيح في كل ناحية من النواحي السياسية أو الاجتماعية.

لقد اكتسح هذا الربيع أغلب دول الشرق الإسلامي فالدول التي لم تطالها المظاهرات الشعبية المنادية بتغيير الحكم فقد طالتها المظاهرات الداخلية التي تطالب بتغيير بعض الأنظمة التي عفا عليها الدهر، ولم تكن مواكبة لتطلعات الشعوب، أو أنها تطالب بحريات دينية أو انفصال واستقلال سواء كان من ذاتها لما تعيشه من ظلم ومعاناة، أو أنها بفعل تحريض مذهبي كَشَّر عن أنيابه وحاول أن يأكل ما استطاع من القصعة في تطورات الربيع العربي، فكان يُشْعِلُ نارَ الفتنةِ في أطرافِ البلدان ويحاول الدس وإحداث القلاقل بدعوى الاضطهاد المذهبي.


ومن هذه الحركات التي زاد نشاطها: الفكر الليبرالي الذي سعى جاهداً ليجد له من بين المقاعد ما يتربع عليها في ظل هذا الربيع، وبدأ يتمسك بكل حبل يرى أنه سيصل من خلاله لمبتغاه، فتارةً تَمَسَّكَ بِالغرب والدعوة للديمقراطية والحرية والعدالة، وحِيْناً آخر التجأ لبعض التوجهات والمعتقدات الدينية التي نشطت أكثر في زمن هذا الربيع، فأَطَلَّ علينا الليبراليون ودعاة التحرر من نافذة بيت العدو وكَشَّرُوا عن أنيابهم وهم يدّعون الوطنية والحرية والدعوة للرقي والتطور والوقوف في مصاف الدول المتقدمة و..و..

والذي يُحزِن كثيراً هو انخراط من كان يُنسَب للتيار الإسلامي في هذه المسيرة التي لا أدري ما تفسيره لها، ولم أجد جواباً شافياً أو مقنعاً على الأقل يبرر هذا الانخراط، والأعجب من ذلك أن ترى مثل هؤلاء يتحدثون أو يُقَعِّدُون قَوَاِعد أو يرسمون مناهج جديدة هي في نفس الوقت تُصادِم المبادئ المعروفة والتي كانوا ردحاً من الزمن يؤمنون بها، بل ويوالون ويعادون من أجلها.


أنا لا أقِفُ مُتَحَجِراً أمام هذا التَّحول عندما يكون تَحَوُلاً صِحِيَّاً ومنطقياً يوافق ما أنزله الله وشرعه، ولا أُرْغِمُ الناس على أن يكون لهم فكْرٌ جامد كما يقولون، ولكني أتساءل أين المبادئ التي كانوا يبنونها سنوات طويلة؟ أم أنها كانت تُصنَع من خيط العنكبوت؟ وعلى حسب اعتقادي وما أعلمه أن المبادئ ثوابت لا تتغير ولكن الوسائل الموصلة إليها هي التي يمكن أن تتغير من وقت لآخر حسب متغيرات العصر، شريطةَ أن تكونَ هذه الوسائل موصلة للمبدأ ومحققة لأهدافه دون أن تعارضه أو تنتقص منه أو تصرفه عن وجهته.


ولقد عجبتُ أشدَ العجب وأنا أستمع لأحد الرموز عندما تحدث عن الفن ثم عَلَّقَ على ما ظهر مؤخراً من إدخال الإيقاعات التي هي في الواقع إيقاعات موسيقية وما صاحبها من تَغَيُّرٍ في أسلوب العرض الجديد للمنشدين والقصائد العاطفية التي بدؤوا يتغنون بها، فيقول متهكما أَنَّ على من يرى تحريم ذلك أو يمنعه: "أعجب كيف ترقى أمة وليس فيها من هذا الفن الراقي والرائع"، ثم يُعقّب ويقول: "كل واحد حر؛ فمن أراد أن يستمع لها بهذه الإيقاعات والوسائل فهذا له وهو حرٌ، ومن أراد أن يستمع بدونها فله ذلك"، وأن الأمر سيان ولا شيء في ذلك، فسبحان الله! وهل تقاس تطورات ورقي الأمم بهذا الفن؟!، أوليس للوسائل أحكام المقاصد؟!، وما هي العلة من تحريم آلات المعازف؟! هل هو جنسها ونوعها الذي ورد النص به؟!، أم أن العلة ما يصدر منها من صوت وطرب وبالتالي يقاس عليها كل ما أنتج مثل ذلك وإن لم يرد النص به؟!، وليس المقام هنا لتفصيل ذلك.

كما أنه في ظل هذا الربيع العربي انكشفت بوابات الليبرالية الجديدة، والمنافذ التي كانوا يَلِجون منها في جنح الظلام، فكثيرٌ منهم بدأ يعمل في وضح النهار وخرج من سردابه أو جحره الذي كان يعمل ويصدر توجيهاته من داخله.


ومن أبرز هذه البوابات الجديدة:
1- البوابة الجنوبية للجزيرة العربية: لقد رَكَّزَ دعاة التحرر الليبرالي وَكَرَّسُوا جهودهم للعمل من خلال الأطراف الجنوبية للجزيرة العربية وذلك لعدة اعتبارات سواء جغرافية أو سكانية، مستغلين البساطة وربما السذاجة إلى حد كبير، وكذا البُعد عن مراكز الانتقاد أو المتابعة، ولحشد أكبر عدد من المؤيدين الجدد وخلق بيئة عمل مناسبة لهم بعيدين عن المهاترات وكشف عَوَرِهم وفضح مخططاتهم، فبدؤوا محاولين الدخول للأندية الاجتماعية والمراكز الاجتماعية الخيرية والأندية الأدبية، ولقد ظهر تركيزُهم الكبير في التغلغل في الأندية الأدبية، وما أحداث الأندية الأدبية في شرق البلاد وغربها بِخافٍ على الكثير- ودعموا أتباعهم فيها وكان لهم حضور بارز حتى تمكنوا من تهميش عددٍ كبيرٍ من أصحاب الفكر الأدبي الرصين وسعوا لإقصائهم، واضطروا عدداً كبيرًا منهم للعزوف والتنحي، وها نحن نسمع عن أوَّلِ أديبة تُلقي ندوة أمام الرجال في النادي الفلاني، وأخرى تصعد درجات منصة الإلقاء في أحد الأندية الأدبية لتُقبل رأس أحد الضيوف في تلك الندوة، وغيرها وغيرها، ثم يستميت القادة في هذا التوجه، والأتباع للدفاع والتبرير.

2- المنبر الإعلامي الاجتماعي: لقد حاول أتباع هذا التوجه كسب ثقة الناس من خلال إظهار الاهتمام بمشاكلهم الاجتماعية وطرحها أمام الجمهور في برامج جماهيرية مباشرة يستقبل فيها الاتصال والمشاركات بشتى صورها، وذلك من خلال الوسائل الإعلامية الحديثة سواء الداخلية أو العالمية دون ذكر لأسمائها، فاستمالوا كثيراً من طبقات المجتمع، وحشدوا أعداداً كبيرة لمتابعتهم، فلقيت برامجهم إقبالاً كبيراً لما يطرح فيها من أمور ومشاكل تلامس واقع المجتمع، ولما كسبوا ثقة الناس واستيقنوا ذلك بدؤوا يتخولون حلقاتهم بطرح مواضيع -على حد قولهم- لأخذ آراء الناس أو نحوًا من ذلك فيدسون السم في العسل، ومن تلك المواضيع: قيادة المرأة للسيارة، وحقوق المرأة، ومشاكل الحسبة والمحتسبين، وغيرها، كما أنهم سعوا جاهدين لإدخال المرأة استديوهات التصوير وإفساح المجال الإعلامي لهن ليسهمن ويبدعن في التطور الإعلامي في البلاد، وتحقق لهم ذلك، ثم سعوا لإشراك المرأة في البرامج الحوارية المباشرة، ثم بعثها كمراسلة للتغطيات والفعاليات ضمن وفد إعلامي أو تكون هي على رأس هذا الوفد الإعلامي وقد تحقق لهم ذلك، وقد تم تحقيق ذلك في زمن متسارع مستغلين الفرصة التي كانت سانحة لهم، لأنهم يدركون أن الدخول في الشيء وتغيير مفاهيم الناس وقناعاتهم صعب، وكذلك الخروج من الشيء بعد تطبيع الناس عليه وفرضه عليهم صعب كذلك.

3- الاستظلال بالمد الشيعي: لقد فضحت وسائل الاتصال الحديثة العلاقة الحميمية بين التيار الليبرالي والمد الشيعي، والمجالس التي تُعقد فيما بينهم، وذلك لاعتقاد التيار الليبرالي أن المد الشيعي هو الأرض الخصبة لهم في مجالاتهم والغطاء الذي يمكّنهم من الوصول لأهدافهم، دون مراعاة للتوجهات أو المعتقدات، ولعله ربما تصدق المقولة التي طالما سمعناها وقرأناها: "الغاية تبرر الوسيلة".
ولعل المتابع لما تم عرضه على الشبكة العنكبوتية من مقاطع سُرِّبت لبعض هذه الاجتماعات، وتلك الصور التي نُشِرت تجمع بين أصحاب هذه التوجهات لَدَليل واضح على تلك العلاقة الوطيدة بينهما.


محمد بن علي الكاملي