حين كنتُ صغيرة.. (3)

منذ 2012-05-23

حين كنتُ صغيرة.. كنتُ أنتظر أن أكون الكون في عيون رجل أختصر عالمه بجنون.. وحين وعيت.. علمتُ أن الروعة تكمن في أن نعقل في الحب، ليكون الكون طريقاً ممهّداً للجنّة!



حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أنتظر أن أكون الكون في عيون رجل أختصر عالمه بجنون..

وحين وعيت..
علمتُ أن الروعة تكمن في أن نعقل في الحب، ليكون الكون طريقاً ممهّداً للجنّة!
وأنّ المبالغة في إثارة موضوع العشق بين الزوجين هو من قبيل الرومانسية الحالِمة..
بتّ أؤمن أن الاحترام والمودة والرحمة هم الأساس، وما سيدوم -إن أتقنَ الزوجان معاني المفردات!-
بعض من واقعية وموضوعية نحتاج على الطريق.. لنستمر.. ونستقر!


حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أنظرُ لرجال الدّين أنّهم مؤتمنون عليه، انتُدِبوا ليؤمّوا الصلوات، ويتكلموا في الشرائع فيرشدوا ويوجِّهوا، ويُعظِّموا شعائر الإسلام، ويكبِّروا الحق في صدور المسلمين.
وأنه لا يمكن أن يتكلم بالدّين إلا من درس وتعمّق وطبّق، وأن كل صاحب "طربوش أحمر" ملفوف بقماشة بيضاء هو رمز للنصاعة والخضوع الكامل لله جل في علاه، ولا يرضى أن يكون تابعاً لجهة سياسية أو مرجعية حزبية، وإنما هو "حر" قلبه طليق في فضاء الله محاط برعايته!


وحين وعيت..
علمتُ أن فكرة استحداث طبقة رجال الدّين هي دخيلة على الإسلام! فيُفترَض أن كل مسلم هو داعية إلى الله عز وجل، في سكناته وحركاته وهمومه، وعلمتُ أن الأمّة ما تدهور حالها إلى هذا الدرك إلا حين استبدل بعض العلماء الذي هو أدنى بالذي هو خير، فباعوا دينهم بترقيع دنياهم، وفَقَدوا الهيبة والمرجعية، وطعنوا الشريعة الغرّاء وأفقدوا الثقة بهم وبالدّين، فتراجع الجمع وتقهقر أهل السنّة!
وعلمتُ أنه حين يتلقّى أصحاب العمائم التعليمات والأموال من حزب أو تيار يسعى لمصالحه ويصبحوا أجراء عند مَن لا يُقيمون للدّين وزنًا، عندئذٍ تضيع العهود وتتحكّم القيود على العقول قبل الأيدي والأرجل، ويصبح "الحر" أسيرًاً للهوى.. فيهوي!


حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أرى في المحاكم ساحةً للحق، وللعدل، وللقِيَم.


وحين وعيتُ..
علمتُ أن القوانين وإن كانت راقية عادلة، لن تجد طريقاً للتطبيق والإصلاح طالما أن القيّمين عليها يُسيَّرون بسياط الواسطة والرشوة والغفلة، وحين يستهين قاضٍ بإعطاء حق لمظلوم أو تأخير خلاصه من نير الجور، فعلى المحاكم السلام! وإن كانت محاكمَ يسمّونها "شرعية"!


حين كنتُ صغيرة..
كنتُ لا أفرِّق بين نظام وشعب، فحين كانت تُذكَر سوريا كنتُ لا أطيق سماع اسمها، بعد أن عربد نظامها الحاكم في بلدي دهرا، وخاصة في منطقتي التي اعتبروها مقاطعة ضمّوها لخريطتهم، فظلموا العباد، وتجبروا واغتصبوا الأرض والعرض، حتى سكنتني الكراهية والحقد الأسود عليهم.


وحين وعيتُ..
تغيّرت نظرتي وفهمت! لقيتُ رجالاً شُمّ الأنوف بِيض القلوب مؤمنين حقا، ونساء عاليات الجبين شامات راقيات مؤمنات صدقا، انسلخوا عن سوريا إبّان مجزرة حماة في أوائل الثمانينيات، وباتوا "لاجئين" مشتّتين في البلاد، يعيشون غربة قاسية تسطّر على جباههم في كل يوم مرارة الظلم وفي قلوبهم شغف العودة! وعلمتُ حينها أن النظام شيء والشعب شيء آخر، وأن ما عانيناه في لبناننا هو امتداد للقهر الذي يعانيه الشعب السوري، فاقتلعتُ من نفسي جذور الكراهية ونثرتُ بذور الحب والتودّد، فنحن في الهمّ سواء، ونتطلّع جميعنا للخلاص!


حين كنتُ صغيرة..
كنت أقرأ عن الثورات وأُفتَن بإنجازاتها وبأثمان الحرية التي دُفِعَت، ابتداء من الثورة الفرنسية التي اندلعت ضد الظلم والفساد والجوع، ثم كشفت الأيام أن الماسونية تدثّرت بشعارها "الحرية والإخاء والمساواة"، مرورًاً بالثورة الجزائرية التي قامت ضد المحتل الأجنبي وراح ضحيتها مليون ونصف مليون شهيد، ووصولاً إلى ثورة الحجر في أرض الرباط المباركة التي أرهبت المحتل وهزّت كيانه!
ثم كنتُ أرى الذل والهوان يسكنان النفوس في بلاد العرب التي يحكمها طغاة يستأثرون بالحرث والخيرات ويتأمّرون ويتآمرون، فيصيبني غمّ وتسكنني أعاصير تنتشل كل معانٍ للراحة، فمتى يزهر الوعي في بلاد العرب "حرية"؟!


وحين وعَت الشعوب..
اهتزت ورَبَت وأنبتت حرية! في بلاد تحطّمت فيها القيود وأُخرى تنتظر!
اندلعت الثورات في تونس الخضراء، لتتبعها ليبيا ومصر واليمن، ولكن بقي مجرد التفكير في أمر اندلاعها في سوريا ضرباً من الخيال، ليس لفقدان الشام رجالها، وإنما لأن اندلاع الثورة ضد أعتى نظام وحشيّ يعني القتل والسحل والتنكيل والتهجير! والاغتصاب! وقد كان! تنفست سورية نسائم الحرية فثارت أرض الياسمين، وتحوّل الدم زيتاً يُسرِج فتيل الثورة، ومهما طال الأمد فللباطل نهاية حتمية وإن تعاظمت التضحيات، والحرية تستحق لأنها منحة الله ونعمته العظمى للإنسان!


حين كنتُ صغيرة..
كانت أدوات النضال بنظري رصاصةٌ تخترق قلب المعتدي، أو حزام ينسف الظالم ويُحيله أشلاء مبعثرة،
وحين وعيتُ..
علمتُ أن أدوات النضال كثيرة كثيرة! تبدأ بما يتوفّر بأيدي المجاهدين ليواجهوا بها الظلم ويتحدّوا المحتل!
وفي المعتقل حيث لا يملك الأسير إلا جسده ليقاوم، تبدأ معركة الأمعاء الخاوية، ويكون الجهاد إضراباً عن الطعام، رسالة يوجهها المعتقل للسجّان: لن تذلّني وأنا سأبقى الأقوى، ورسالة يوجهها للعالَم المشغول بترّهات: نحن هنا، هلاّ التفتّم لقضيتنا ونصرتمونا؟! فقد فاض كأس الظلم والاستبداد!!


حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أتتبّع المظاهر وأحكم من خلالها على القلوب، وكم من متصدّر في المواقع جميل المظهر متأنق دنيء الطويّة! وهذا سعيد إن تبسّم الثغر وذاك حزين!


وحين وعيتُ..
علمتُ كم أن هذه المظاهر تخدع! وأن كلاً يَزن وضع الآخر على حسب مفاهيمه وما يراه، ولا يدري بما في القلوب إلا ربُّها! وكم تكشف الأيام من خوافيها! وكم من أنين لا يسمعه إلا الشغاف!


حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أعتقد أن أي حصانٍ يستطيع الفارس ترويضه..


وحين وعيتُ..
علمتُ أن الحصان الجامح لا يليق به أن يروّضه أحد، ولن يقدر أحد على ذلك، وستبقى روحه متمردة متوثّبة ما دامت الدماء تسري في عروقه، ومن يدري فربما يبقى كذلك حتى بعد وضع السرج على ظهره، إذ سيبقى عصيًّا، وستبقى نفسُه جامحة، لأنها أدمنت حياة البريّة!! فإنْ أجبروه، تحطّم! وفي أول فرصة، تولَّى وأدبر!

وما زلت أكبَر، وأَعي، وأتعلّم، وأتلمّس الخطى، في دروب الحياة.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام