قصة واحدة رأيتها بأم عيني في معتقلات مبارك

منذ 2012-06-08

قبل الفجر كنت ألصق بوسترات ضد شفيق.. وبعد الفجر أسرعت السيارة للحاق بطابور البنزين.. ثم عدت أتابع التقارير عن محاكمة مبارك، في هذه المراحل كلها لم يكن في ذهني سوى صورة (أبو إيمان) !


قبل الفجر كنت ألصق بوسترات ضد شفيق.. وبعد الفجر أسرعت السيارة للحاق بطابور البنزين.. ثم عدت أتابع التقارير عن محاكمة مبارك، في هذه المراحل كلها لم يكن في ذهني سوى صورة (أبو إيمان)!


من هو أبو إيمان؟!
في عام 1998 دخل علينا في المعتقل شاب يبلغ من العمر 24 سنة، اعتقل لأن أخاه الأكبر كان عضوًا في الجماعة الإسلامية، واتهم في أحد القضايا؛ ونكاية في الأسرة تم اعتقال الأخ الأصغر أيضًا مع أنه غير منتمي لأي تيار وهو يصلي فقط، هذا الأخ الأصغر كان لديه ولد اسمه (إسلام) يبلغ من العمر عام واحد، وبنت اسمها (إيمان) تبلغ من العمر ثلاثة أعوام.

أبو إيمان: مريض منذ صغره بالسكر ويعيش على حقن الأنسولين، وعند ترحيله من جهاز أمن الدولة بالجيزة -الشهير باسم جابر بن حيان- إلى معتقل دمنهور، تم استقباله كالعادة بحفلة تعذيب رهيبة وتعمد ضباط المعتقل كسر كل الأدوية التي يحملها كما هي عادتهم.


دخل (أبو إيمان) عليَّ الزنزانة رقم 2 بعنبر رقم 2 أيضًا، كان عددنا في الزنزانة قرابة الثلاثين معتقلا، كان الشاب مذهولاً يرتجف من التعذيب والخوف والقلق، حاولنا طمأنته والتهوين عليه، بعد قليل بدأ يتحسس ملابسه ليخرج صورة لأطفاله استطاع إخفائها، نظر إليها طويلا وسكت.

وفي صباح اليوم التالي طلب منا أن ندبر له حقنة أنسولين، ولم يكن بوسعنا هذا فطبيب السجن العميد دكتور: (أحمد نبيل) أحد كبار المجرمين الذين قتلوا الكثير من الشباب ويكفي أن تذكر اسمه أمام أي معتقل سياسي لتسمع عشرات القصص التي تعمد فيها قتل المعتقلين، وكان لا يسمح بأي أدوية تدخل للمعتقلين.

استخدمنا حيلة فطلبنا من الشاويش أن يخرجه للقاء طبيب السجن لأنه مريض مرض معدي، قد يعدي الجميع حتى الشاويش نفسه، خرج (أبو إيمان) لمستشفى السجن وعاد بعد دقائق وقد ازرق وجهه من كثرة الضرب؛ فطبيب السجن المجرم عندما علم بحقيقة الموقف انهال عليه ضربًا ثم رده إلى الزنزانة بلا دواء، حاولنا بعدها كثيرا أن ندبر له حقنة أنسولين فلم نفلح.


في اليوم التالي كانت حالته الصحية تتدهور، قررنا أن نتحمل الأذى ونرفض استلام الطعام حتى يحصل على الدواء، وبالفعل رفضنا، وبعد عدة ساعات أُغلِق المعتقل واقتحمت القوة الضاربة من الأمن المركزي والمباحث، وأمن الدولة، والكلاب البوليسية علينا الزنزانة، وأشبعونا ضربا وتعذيبا وصعقا بالكهرباء؛ لكننا قررنا أن نستمر للنهاية ورفضنا أن نستلم الطعام حتى تصرف له حقن أنسولين نشتريها نحن بأموالنا المودعة في خزانة السجن، لكنهم رفضوا وتركونا بلا طعام وبلا دواء.

كانت حالة (أبو إيمان) تتدهور بشدة، وبدأ يدخل في غيبوبة، وبمجرد فتح باب الزنزانة لعد المعتقلين في الصباح حملناه ووضعناه خارج الزنزانة وقلنا لهم اقتلونا أو اقلتوه لكننا لا ندعه يموت بيننا..

تركوه ملقى في الأرض الباردة ساعات، ثم حضر ضابط أمن الدولة وعقد معنا اتفاق: نقبل الطعام وننهي حالة الاضراب مقابل أن يعرض المريض على طبيب السجن ويصرف له الدواء، وبالطبع قبلنا..


أتى الجنود وحملوه للطبيب وأدخل الشاويش الطعام للزنزانة، بعدها بقليل عاد الجنود به وهو محمول على أكتافهم كما خرج، أدخلوه سريعًا، وأغلقوا الأبواب وخرجوا، وحين اقتربنا منه كان لا يزال في غيبوبة السكر وكانت رائحة الشواء تفوح من قدميه التي حرقها الطغاة بأعقاب السجائر..

وقبل صلاة العشاء أفاق (أبو إيمان) من غيبوبته، أفاق وهو يتسائل بهلع: ما هذا الظلام؟! لقد فقد المسكين بصره.
انهمرت الدموع من عيني وعين إخواني، أمسكت بصورة طفلته (إيمان) التي كان يتأملها طوال الوقت، حين نظرت إلى ابتسامتها انهرت ووقعت على الأرض، تمنيت وقتها أن أهديه بصري لينظر به إلى طفلته الجميلة كما كان يفعل دائما.

جلسنا طوال الليلة نبكي ونصلي ونتضرع إلى الله تعالى أن يشفيه وييسر له أمر حقنة أنسولين ثمنها بخس؛ لكن يضن الطغاة عليه بها، وفي الصباح أبلغناهم بما حدث له وظنننا أنهم قد يوقفوا هذه المذبحة له، لكنه لم يحدث! لم يكن في وسعنا سوى رفض استلام الطعام مرة أخرى، فلم يأبهوا لنا.


حل الظلام وبدأ (أبو إيمان) يدخل في غيبوبة أخرى.. ظللنا نصرخ على الشاويش: "أخ بيموت يا شاويش"، فكان يجيب بنبرته القاسية: "لما يموت ابقى قوللي عشان نرميه في الزبالة" -عندما يموت أخبرني حتى نلقيه في الزبالة!- وفي منتصف الليل كنت أضع وجهي في الحائط ويدايّ على رأسي، وأحاول أن أبقى صامدًا، ولساني يلهث: لا حول ولا قوة إلا بالله.

حين صرخ المنادي: "الأخ مات يا شاويش".
نعم مات (أبو إيمان)! وكُتِب على أطفاله أن يعيشوا عمرًا طويلا في ظلمة اليتم والحرمان.
انتفضت مذهولا، نظرت إلى وجهه ولم أرَ شيئا آخر بعدها، أفقت وقد غسلوه ووضعوه لنصلي عليه.
لا أدري كيف كانت صلاتي؛ لم أستطع أن أفعل شيئا سوى البكاء والنحيب.


ثم فُتح بابا العنبر، ووجدنا أمامنا عددًا هائلًا من الجنود والضباط بالأسلحة والصواعق الكهربائية، أمرونا أن نتراجع لآخر الزنزانة وندير ظهرنا للباب، وحذرونا من أن أي حركة ستُقَابل بإطلاق الرصاص الحي.
فُتِح الباب طرفة عين ثم أُغلِق، سحبوا جثمان الشهيد، واختفوا..

تم تحرير محضر رسمي أنه كان يعاني من أزمة قلبية ونقل لمستشفى السجن وأجريت له كافة الإسعافات والإجراءات الطبية، لكنه مات بلا تقصير من إدارة السجن!

طلبوا ثلاثة من المعتقلين ليشهدوا بهذا في المحضر فرفضوا، تم تعذيبهم واقتيدوا إلى عنبر التأديب، وأُغلِق المحضر بشهادة اثنين من المسجونين جنائيا في المستشفى على هذا.


هذه قصة واحدة من آلاف القصص التي رأيتها بأم عيني في معتقلات مبارك والعادلي وحسن عبد الرحمن.
(مبارك) الذي يحاكم اليوم.. ليس لأنه قتل (أبو إيمان) والمئات غيره، ولكن لأنه حصل على فيلا رشوة!
كأننا نحاكم (رئيس حي) أو محافظ مرتشي وليس مجرمًا من أعتى طغاة البشر..!
 
المصدر: موقع أمة واحدة