معالم مهمة للطريق بعد فوز الثورة المصريّة

منذ 2012-07-09

يجب أن لا ننسى أنّ ما تحقق بالثورة المصرية من مفاهيم عظمى في شريعتنا، هو إنجاز لحضارتنا، وليس للشعب المصري فحسـب ذلك أنّ من أعظم أركان هذه الشريعة العظيمة:

تحرير إرادة الأمّة من استعلاء الأجنبي عليها، واستبداد الظلم، والطغيـان فيها. وتحرير ثروتها من سطـو اللصوص الذين يفقرونها، ويذلونها، ويرجعونها إلى ذيل الأمم وتحرير أبنائها من حياة الذل، والمهانة، والخوف، والتهميش، والفقـر، والتخلُّف.

ولو نجح عهد الثورة الجديد برئاسته الجديدة بتكريس هذه المبادئ في ضمير الشعب المصري، فالأمّـة، فقد وضع كلّ أسس العودة الشاملة لنهضة الأمة بإذن الله تعالى، والعمل بشريعتها، ويكفيه هذه الإنجاز في هذه المرحلــة.
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، له الحمد كلُّه ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شاء من شيءٍ بعد، استجابَ الدعاء، وأتمّ النعمة، وأعظـم المنّة على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، بيده الأمرُ كلُّه، وإليه يرجع الأمر كلُّه، علانيته وسرُّه.

لا ريب أنّ حدث فوز مرشح الثورة الدكتور محمد مرسي برئاسة مصـر، حدثٌ جلل، ونبـأٌ عظيم، وأنّ يوم أمس، قـد كان يومًا من أيام الله تعالى العظمى، ونعمه الكبـرى، غير أننا لابد أن نضع منارات مهمة على الطريق، هذا الذي سيفتح على الأمـّة ما شاء الله أن يفتح من الخيـر بإذن الله تعالى:

1ـ لقد أذن الله بقدرته العظيمة، وإرادته العليّة الحكيمة، يوم أمس بأن يفتح على الأمّـة بابـًا، كان موصدًا من قرنٍ من الزمان، وهو باب الأبواب لكلّ حضارة، وهو عمود الأعمدة، وهو ركن الأركـان. وأعني به أنها قـد صارت اليوم تقول كلمتها، وتعبـِّر عن إرادتها، وتصنع مجدها فيها بنفسها، لا سلطان لأجنبيِّ عليها، إلاّ سلطانها على نفسها، ولعمري إنَّ هذا -بحد ذاته- أعظـم إنجازات الربيع العربي، وهو مفتاح لكل الإنجازات التي سترقى بأمتنا بإذن الله، وتعيدها إلى جادتها التي كانت عليها منذ أن بعثت خير أمة أخرجت الناس، إلى أن سقطت الخلافة، وتداعت عليها الأمم الأوربية تعمل فيها معاول الهدم، وتقطع أوصال قوتها، وتفرق أركان عزّتـها.

وإنّ أعظم واجبات شكر هذه النعمة، هو المحافظة عليها، وذلك بأن تسعى الأمة بكلّ سبيل أن لا تسمح بعد اليوم بأن تفقد إرادتها الحرّة، إرادتها أن تختار من يقودها، وتراقـبه، وتحاسـبه، واستعمال كلّ وسائل العصر الناجحة، لتُبقي نظامها السياسي في أعلى درجات الفاعليّة، لتحقيق العدالة، والحرية، والكرامة، ولإبراز رسالتها الحضارية القائمة على هذه الثلاث سعـيًا إلى التفوق العالمي.

نعـم إنها الحرية التي إذا فقدتها أي أمـّة، انحدرت إلى مهاوي الذلّ، وعاشت عيشة العبيد، وتحوَّلت إلى قطعان سائمة! وإنِّ الأمة تبقى مشلولة بلا نظام سياسي يعبـر عن حضارتها، وينبثق من هويتها، ويستقل بإرادتها، ويظهـر كرامتها، ويوظف كلّ الطاقات لمشروعها.

2ـ يجب أن نعي جيدًا أنّ التكاليف التي تحمّلها حزب العدالة والحرية في مصر ، ثم آلت إلى عاتق هذا العبقري الفذ محمد مرسي وفقه الله، تنوءُ به الجبالُ الشامخة، وتتشقق الأرض من تحتها، وتثقـل كاهـل النجوم لو حملتـها. ذلك أنّ النظام السابق قد ملأ الأرض ظلمًا، وجورًا ، وألقى على كلّ شبرٍ من مصر بفساد عريض، أفسد الناس، وأفسد الأرض، وأفسد النيل، وأفسد البيئة، وأفسـد الجوّ، وأفسد النسيج الاجتماعي، وأفسد البنية التحتية، وأفسد التعليم، وأفسد الصحة، وأفسد الأمـن، وأفسد ضمائر الناس. وأفسد السياسة الخارجية، حتـى قزّم مصر، وألغى دورها القيادي للعالمين العربي والإسلامي، ثـمّ حوّل هذه السياسة الخارجيّة إلى مكتب ملحق بتل أبيب، وواشنطن!


تُعقد فيه الصفقات بين الرئيس ونجليه، ومافيا العسكر، ورجال الأعمال الذين يحيطون به، وبين الصهاينة والغرب، وصار كلّ ما سوى ذلك من قضايا أمـتنا، وكرامة حضارتنا، يباع بأرخص الأثمان في ذلك المكتب الصغيـر!! ولهذا فإنّ الرئيس الجديد، سيحتاج إلى جهود عظيمة، وزمن طويل، وصبـر دؤوب، لتغييـر ذلك، ولابد أن يمر بأربـع مراحـل:

أحدها: تشتيت كلَّ الأكاذيب، والإفتراءات، والدعاية السيئة، التي تسربت في أذهان الناس، حتى وصلت إلى أعماق بواطنهم، عن الإسلاميين وخطرهم على المجتمع، والعالم، وقد بدأ بذلك في خطابه أمـس. ولا ريب أنّ هذه المهمة هي أشقُّ مهمة سيواجهها الرئيس الجديد، ومَنْ حولَه، إذ قـد جاءت رئاسته في أجواء صخبٍ شديد، تضـجّ بـ(فوبيا) الإسلاميين عامة، والإخوان خاصة!

الثانية: إيقاف التدهور للهاوية الذي لم يزل في مصر من عقـود.

والثالثـة: البدء بإصلاح البنية التحتية المدمّرة تمامًا للدولة في جميع السياسات.

والرابعـة: إنشاء وتحريك مشاريع التنمية ليشعر الناس أنهم استفادوا من الثورة، وأنها غيرت حياتهم إلى الأفضـل بالمقارنة مع ما كانوا عليه من بؤس، وضياع.

ولهذا.. فلاريب لن تظهـر ثمرات الثورة إلاّ بعد مدة ليست باليسيرة، فعلينا بالصبـر على مراحـل المشروع، وتفهّم المعوقات، وإدراك عِظم التكاليف، والوعي التام بجسامة المهمّـة.

وإنه لمن الحماقة والجهالة -ونحن متيقنون أنّ الثورة لم تتجشّم كلّ هذه التضحيـات، وتقدم الشهداء، وتبذل الدماء، إلاّ وهي تريد خيرًا بمصر، وبشعب مصـر، وبأمّتنا- أن نستعجل النقد، ونتصيّد الأخطاء، ونترصد للتصريحات، فنجعل المناورات السياسية التي يضطر إليها الساسة لدفع الأخطار، وجلب المصالح، نجعلها ميادين التشويش، ومواضع التخريب، نعين بها أعداء الثورة عليها، وننقض غزلها من بعـد قوتها.

وإنـّه ليكفينا الآن من إنجازات الثورة المباركة، أنّ أوّل ثمراتها قد ظهرت بتحرير إرادة الشعب المصري، وإخضاع جميع مؤسسات الدولة لشفافية تامة في كلّ التفاصيل، لفضح كلّ خفافيش الظلم والظلام، التي عبثت في مصر سنين طويلة.

ولعمرو الحق إنّ هذه الثقافة العظيمـة الجليلة، لو أنفقنـا عليها ملء الأرض ذهبا لن نجـد من يبيعها بثمـن، فهي لا تنال إلاّ بدماء الأحرار الطاهـرة.

وهنا نوجّه كلمة مهمة لأبناء الحركة الإسلامية عامة، وللسلفيين خاصة، أن يكونوا جميعا خير عون للرئاسة الجديدة في صبرهم عليها، والتماسهم الأعذار لأخطائها، ودعوة الناس للالتفاف حولها، ريثما تنجز ما ثارت الناس من أجله:

العدالة، والكرامـة، والحياة الشريفـة.

وليعلموا أنه -فقط- إذا تحقق هذا لهـم، فسيتوجه الناس بكلّ قلوبهم للإسلام، وسيقبلون كلّ ما يدعوهم إليه، وسيضحـُّون من أجـله. أما إذا لم يتحقق ما من أجله ثاروُا على النظام السابق، فسيرفضون كلَّ شيء يأتي من قِبَلِكم، وإن كان حقّا، وسيقبلون ما يقوله خصمكُم، وإن كان من أبطل الباطل! وليكن لنا في نجاح حزب العدالة في تركيا عبرةٌ، فقد أحبّه الناس، وقبلوا ما ألغاه من حرب شعواء كانت على الدين، فامتلأت المساجد، ورجعت المحجبات للجامعات، وانتشر الدعاة، وفُتحت معاهد الخطباء، وساءت العلاقات مع الصهاينة، ويمَّمت تركيا وجهـها شطـر العرب بما لم تفعله في ماضيها منذ سقوط الخلافة.

لقد قبل الناس ذلك بعدما رأوا هذا الحزب، قد أنجز لهم ما وعدهم من إنجازات اقتصادية، قضت على فساد العسكر، والمافيا التي كانت تعبّـث بالاقتصاد التركي حتى أهلكت الشعب جوعًا، وأسقطت كلّ قيمة لتركيا في العالم! وإنّ مثَـلَ ثورة مصر اليوم، مثـَلُ فرقة إنقاذ نزلت إلى خندق عظيم الهوّة، لانتشال ضحايا فيه، فهي بحاجة إلى زمن ليس باليسير حتى يرى الناس إنجازهم على السطـح، وهم يصعدون إليه من تلك الهوة السحيقـة!

3ـ لن يتمكّن عهد الثورة الجديد أن يغيـّر -وشيكـًا- كثيرًا في الملفات السياسية الخارجية عموما، ولا الملف الفلسطيني، ولا حتى إلغاء كامـب ديفيد، لكنه سيمهّد -ناحيًا منحى حزب العدالة التركي- لتحوّل كبير في العلاقات مع الصهاينة ، سيؤدي إذا استمر هذا النهج -ونسأل الله أن يستمر- في النهاية إلى إخراج مصـر من حفرة العلاقات الصهيونية، وتغير سياستها كليـّا بإذن الله تعالى. ويكفي في هذه المرحلة أنّ مصر لن تكون بعد اليوم مكتبًا للتجسُّس على حماس! ولا جمعية خيرية توزّع الغاز مجانًا للكيان، ولا موقعًا لعقد المؤامرات على المقاومة الفلسطينية بإذن الله تعالى.

4ـ ستحتاج مصر الجديدة إلى تكوين مثلث إقليمي ضخم يضم تركيا الجديدة، والخليج، لإحداث استدارة كبيرة في السياسة الخارجية لمواجهة المخططات الصهيونية، ولمواجهـة التحالف الإيراني، الروسي، الصيني! وإنقاذ العراق، وسوريا، ولبنان، من كونها تحولت إلى حديقة خلفية لهذا التحالف الخبـيث. فبدون هذا التحالف الإقليمي الضخم لن تستطيع مصر لوحدهـا أن تقف في وجه التحالف الصهيوغربي، ولا أن تصنع شيئا لحماية المنطقة من المشروع الإيراني الخطير. وهنا يأتي دور المفكّرين، والمثقفين، والسياسيين الأحرار في الخليج، لتسويق هذه الفكـرة وتحويلها إلى واقع.

غير أنّ المؤسف جدًا أن بعض دول الخليج ، قد استبقت الأحداث بالتجهُّم لمصر الجديدة، والسعي لإفشال ثورتها، وإعادة العهد البائد، وهي لاتعلم -أو ربما تعلم!- أنها بهذا التصرف تضعف نفسها أمام إيران، وتفقد أكبـر حليف يمكنها أن تستقطبه بما لديها من ثورة هائلة، تستقطبـه ضد المشروع الإيراني.

وإنها لعادة قبيحة في بعض دول الخليج أنها تتخلى عن حركات، أو دول، لغير سبب سوى ضعف التخطيط الخارجي، أو الإنصياع الأعمى للإرادة الغربيـة، ثم عندما تقيم إيران مع تلك الدول علاقات مصلحة محضـة، يتحجّجون بذلك لمزيد من القطيعـة!

وأخشى ما نخشاه هنا في الخليج أن يطغـى على هذه الدول الخليجية السعي لإفشال الرئاسة الجديدة، بغية إجهاض الثورة، خوفًا من امتداد الربيع العربي، أن يطغـى على التفكير المنطقي، والمتزن، والحكيم، بالإستفادة من هذا التحوُّل السياسي الإيجابي في مصر، لتكوين تحالف (مصري ـ تركي ـ خليجي)، يعيد القضية الفلسطينية إلى حضنها العربي والإسلامي الطبيعي، بعيـدًا عن حضن إيران المزيـف، ويعيد إيران إلى حجمها، ويحرر سوريا، والعراق، ولبنان من مخالـب المشروع الإيراني!

5ـ لا ريب أنّ الربيع العربي قد قفز قفزة هائلة بانتصار الثورة المصرية يوم أمس بفوز مرشحها بالرئاسة، وأعطى لبقية الشعوب العربية أملًا عظيمًا، بانتشالهـا من مثلث: (الفقر، والتهميش، وانتهاك الكرامه)، ذلك أنّ مصـر هي ثقل الأمة، وقطب رحاها، وقلبها النابض، ومركز تحولاتها الكبرى.

ولهذا سيلقي هذا النصر الثوري في مصـر بظلاله على الأمة، وسيقودها إلى مزيد من التحـرُّر من قبضة الطغـاة. كما يبشـر الثورة السوريّة بالنصر، ويجدّد فيها روح الأمل. وهذا مما يؤكد وجوب نصرة فوز الثورة المصرية بالرئاسة، ودعمها.

6ـ يجب أن لا ننسى أنّ ما تحقق بالثورة المصرية من مفاهيم عظمى في شريعتنا، هو إنجاز لحضارتنا، وليس للشعب المصري فحسـب. ذلك أنّ من أعظم أركان هذه الشريعة العظيمـة:

تحرير إرادة الأمّة من استعلاء الأجنبي عليها، واستبداد الطغيـان فيها. وتحرير ثروتها من سطـو اللصوص الذين يفقرونها، ويذلونها، ويرجعونها إلى ذيل الأمم وتحرير أبنائها من حياة الذل، والمهانة، والخوف، والتهميش، والفقـر، والتخلُّف. ولو نجح عهد الثورة الجديد برئاسته الجديدة بتكريس هذه المبادئ في ضمير الشعب المصري، فالأمّـة فقد وضع كلّ أسس العودة الشاملة لنهضة الأمة بإذن الله تعالى، والعمل بشريعتها، ويكفيه هذه الإنجاز في هذه المرحلة.

فالذين يقولون: أين الشريعة؟! نقول لهم: هذا من أعظم أركان الشريعة وقد تحقـّق في الأمـّة، وستأتي بإذن الله تدريجيًا بحسب الإمكان، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد نشرت سابقا فتوى مُفصلة في جواز التدرج بتطبيق الشريعـة هنــا.

7ـ وأخيرًا فإنّ قوى الشر، والظلام، والتخلُّف، والاستبداد، لم تختفِ، ولن تختفي من مصـر، وستعمل جاهدة بكلّ سبيل لإعادة مصر إلى ما كانت عليه:
شعب مستعبد، وثروة منهوبة، ومرتع للكيان الصهيوني، ودولة لا قيمة لها في الإقليم فضلًا عن العالم، وميدان استثمار غربي في لعبة إدارة الأزمات، والعبث بمقدرات الأمـة!


هذا مع أنَّ مصر يمكنها -لولا إجـرام عهد الطغاة الماضي فيها- بمقدراتها، وعقول رجالها، وموقعها، أن تكون دولة عظمى، لا تقل عن روسيا، والصين، في التأثيـر في العالـم.

وهي تحتاج لترقى إلى هذا المستوى، لتكاتف كلِّ الجهود الخيرة، من داخل مصر، وخارجها. والمقصـود أنَّ أعداء الثورة، من الداخل، والخارج، سيركزون جهودهم الآن إلى إفشال الرئاسة الجديدة التي تولَّدت عن الثورة، وسيضعون أمامها كلّ العراقيل الممكنة، وسوف يشوّهون صورتها بما يعجز عنه ربما إبليس نفسه!

فلنعن ثورتنا المصرية لإفشال كلّ مخططات أعدائها، بالمال بضخ الاستثمارات إليها، وبالرأي بالدفاع عن مكتسبات الثورة، ودعم مسيرتها، وبكلّ ما أوتينا من قوة لكي تحقق ثورة مصـر كل نجاحاتها. ذلك أنّ نهضة مصر، نهضة الأمـّة، وعزُّها عزُّ للأمـّة، وحريّتها حرية الأمّة، وصعودها صعـود للأمـّة.


هذا.. وإنا لمتفائلون بما أرانا الله من آياته الباهـرة في هذه الثورات المباركة، وإسقاط الطغاة، بأن ما يحمله المستقبل لأمّتنا كلّه خير وبركات، وستشرق بإذن الله شمـس حضارتنا المتألقـة قريبًا، فتبهـر الدنيا بقيمها العادلة، ومبادئها السامية، فنسأل الله تعالى أن يستعملنا في هذا النصـر المؤزّر، ويشرفنا بأن نكون جنودًا أوفيـاء لهذه النهضـة المباركة.

والله الموفق، وهو حسبنا، عليه توكلنا، ولنعم المولى، ولنعم النصيـر.


حامد بن عبدالله العلي
25/06/2012 م
 

حامد بن عبد الله العلي

أستاذ للثقافة الإسلامية في كلية التربية الأساسية في الكويت،وخطيب مسجد ضاحية الصباحية