قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم!

منذ 2012-07-10

البداية في بيت صغير، أو بيت من بيوت الله عز وجل، جالس يسمع الخطيب، ينصت بخشوع وقد بدا له للمرة الأولى أن هذا الكلام جديد! ليست أول مرة يسمع موعظة، لكنها المرة الأولى التي ينصت فيها بقلبه للموعظة: {إلا مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ...


إن الحمد لله نحمده ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:

كلنا يبدأ في هذا الأمر بحيرة... أين يذهب وإلى من ينتمي؟ ما هو الصواب وما هو الخطأ؟ لماذا اختلفوا؟ ولماذا لم يتفقوا؟ لماذا هذه الفرقة والبغضاء؟ لماذا..؟ لماذا...؟ لماذا...؟! فهذه قصة رحلة، رحلة من رحلات البحث عن الحق أوردتها لما فيها من العبر... فلنستمع.


البداية
البداية في بيت صغير، أو بيت من بيوت الله عز وجل، جالس يسمع الخطيب، ينصت بخشوع وقد بدا له للمرة الأولى أن هذا الكلام جديد! ليست أول مرة يسمع موعظة، لكنها المرة الأولى التي ينصت فيها بقلبه للموعظة: {إلا مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. شعر بتلك الهزة الداخلية، التي أعقبتها لذة خفية... عاد يشعر بالحيرة والتضارب ويتعجب من حاله ومآله، ثم أعقب ذلك تلك النشوة والانشراح والإقبال على الحق والسنة.

فبعد تلك الجلسة، سار ينهب الطريق نهبا يتلمس الضوء الحق فأخرجه الله من الظلمات إلى النور، ماذا حدث له؟ كذا تسائلوا وضربوا الكف بالكف، لقد صار فجأة يهتم قبل الهم بمعرفة ما ثمَّ... هل هو حرام أو حلال؟ أو هو سنة أو خلاف سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، في البداية كانت الكتيبات مبسطة، والخلاف يكاد يكون معدوم والأمور في متناول اليد، ثم... ثم... ماذا حدث؟


عندما سمع أول خلاف:
سمع أن هناك خلاف فقهي، تردد قليلا ثم اقتحم الأمر، لم يكن جديدا أن يعرف أن هناك أربع مذاهب كبرى، لكن كما قلنا من قبل كان يسمع والآن ينصت! فقطب وجهه أياما يدور في غرفته كليث حبيس، أي المذاهب أتّبع؟ ولماذا اختلفوا؟ لماذا؟ ظل زمانا يسأل هذا السؤال.

بل سأل شيخه ومعلمه يوما في سذاجة: "لماذا اختلفوا؟ لماذا لم يجلسوا معا -أي الأئمة- ليتفقوا؟"
فنظر إليه شيخه متعجبا من هذا السؤال الذي لا أظن غيره طرحه قبله ولا بعده وقال: "يا بني قد اجتمع منهم من اجتمع وتناظروا فاتفقوا في أمور وتمسك بعضهم بالحق الذي بدا له في أمور أخر فلا يلام [1] أحدهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (صحيح البخاري)، وكلهم كانوا أهلا للاجتهاد وليس أحد معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

فنظر له يائسا وقال: "ولماذا اختلفوا؟"، قال: "قد اختلفوا لأسباب كثيرة، فقد يصح الحديث عند إمام ولا يصح عند الأخر بل قد يصل الحديث لإمام ولا يصل للأخر، وقد يرى الإمام في الدليل معنى لا يراه الأخر، وقد يتعلم أحدهم أثرا عن الصحابة يحسم عنده المسألة ولا تصل لغيره فلا تنحسم عنده".


تنهد في إحباط وقال: "وماذا أفعل؟"
قال: "عليك بما أمروا هم أنفسهم به من اتباع المعصوم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء:59].

فهؤلاء الأئمة لم يكن بينهم عداوة كما تظهر في بعض كتب المتأخرين أو بين بعض متعصبي المذاهب لأن مصدرهم واحد وهو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أتباع المذاهب فكل مجموعة متعصبة للإمام فهذا إمامه مالك وهذا إمامه الشافعي... ألخ فاختلف المتبوع فصارت الضغائن، ولو علموا أن هؤلاء الأئمة العظماء أنفسهم لا يقبلون منهم إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم يبرأون إلى الله تعالى مما يفعل هؤلاء الجهال المتعصبون لربما كفوا عن تعصبهم المشين.

وانظر إلى بديع نظم ابن القيم رحمه الله تعالى:
العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابــة ليس ذو بطلان
ما العلم نصبك للخلاف *** سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان[2]


ولهذا اجتمع الأئمة كلهم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنا من كان، وأقوالهم متواطئة على هذا الأصل الأصيل [3] وهذا الأصل في مسائل الاعتقاد والفقه سواء بسواء فالعلماء واسطة بيننا وبين الحق يشرحون ما خفى ويبينون ما دق، ولكنهم ليسوا أحق بالاتباع من النبي الأمي الموصول بالوحي من ربه تعالى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم".

قال وقد بدأ وجهه يشرق: "بارك الله فيك علمتني أصلا فإذا رأيت الخلاف بحثت عن أقرب الأقوال إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذت به وعملت به غير متبع لهوى نفس ولا لقول شخص سواه".
رفع الشيخ إصبعه محذرا وقال: "واحذر انتقاص أي عالم فإنهم جميعا مأجورون إن شاء الله على أي حال سواء أخطأ أو أصاب، وإنما لم تكن أنت ليبلغك ذلك العلم والفهم لولا أن قيضهم الله لنا جميعا". جزى الله بالخيرات عنا أئمة لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا [4].


الصدمة الأولى:
قد يتسائل البعض لم سميناها الصدمة الأولى وقد سبقها صدمة اختلاف الأئمة؟! فالحق أن اختلاف الأئمة ليس صدمة بل هو تسلسل طبيعي للأحداث، وكون اتباع الأئمة تباغضوا بعد ذلك فتلك أعمال فردية تماما لا تنتمي للأئمة بحال من الأحوال، فالأئمة أنفسهم كانوا في تحاب وتواد، فالإمام الشافعي هو تلميذ الإمام مالك، كما أن الإمام أحمد كان تلميذا للإمام الشافعي في الفقه وكان الإمام الشافعي يرجع إليه في الحديث وكل من يقرأ سيرهم يرى أعجب العجاب في توادهم وتراحمهم واحترامهم للخلاف، ونهيهم عن التعصب والتكتل والاختلاف، فإن الخلاف بينهم لم يؤد أبدا إلى الاختلاف، وما أمر أحدهم بمعاداة أحد بل الكل مجمع على أن كلامه ليس له وزن إذا عارض الحديث الصحيح، فكلهم تواضع لله فرفعه الله وأحب في الله أخاه فأعلى الله مقدارهم في الخلق..

إذًا فالتباغض ليس منهم ولا من أمرهم ولا هم يقرون عليه من اتبعهم أبدا، بل هم لا يقرون من اتبعهم على اتباعهم إلا من جهة أنهم واسطة تبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم فكلهم قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي وكلهم قال إذا قلت قولا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فأنا راجع عنه".


أما الصدمة الأولى: فكانت عندما نظر أخانا في حال الأمة وما تفرقت فيه من أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون، وكان المسكين معتمرا إلى بيت الله الحرام فزار المدينة قبل مكة ودخل المسجد مبهورا مشدوها تحفه السكينة وتتغشاه الرحمة، حتى أنه صلى الظهر قبل أن يؤذن أو يقام له! فتلفت حوله عندما سمع الأذان وتسائل في حيرة أهو آذان العصر أم الظهر وجعل يتعجب من عقارب الساعة، فلما أعيته الحيرة سأل جالسا بجواره:
"السلام عليكم: هذا آذان الظهر أم العصر؟ -بلغة ركيكة- الظهر".

بعد الصلاة نظر لمن سأله متعجبا مشدوها، هذا رجل أعجمي مثلما بدا من رده عليه، فكيف يمسك بكتاب الله ويقرأ؟! هل يقرأ العربية؟ لم يترك صاحبنا نفسه نهبا للفضول وسارع بالسؤال والتعرف على هذا الأخ من باب: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَ‌فُوا} [الحجرات:13].


"أنت تحسن تقرأ العربية؟ لا. وكيف تقرأ القرآن؟ القرآن فقط! ممكن أسمعك وأنت تقرأ –بانبهار- فقرأ قليلا ثم ختم قراءته قائلا: صدق الله العلي العظيم". فسكت صاحبنا ولم يقل مثله، سأله الأخر بلغته الركيكة: "لماذا لم تقل صدق الله العلي العظيم؟ -في حرج- سمعت أنها بدعة" [5]. "لماذا؟ لأني قلت العلي؟ -في حيرة- لا فرق أنا أعني بالعلي الله ولا أقصد علي بن أبي طالب، -في حرج- لم أفهم أنك تقصد علي بن أبي طالب بل فهمت أنك تقصد الله!".

صمت بسيط ثم قال: "أخانا الأعجمي الذي لا يحسن العربية، ورحمة بالقارئ سأترجم الحوار مباشرة علما بأنه دار بعبارات تجمع أربع لغات تقريبا: العربية والانجليزية والفرنسية والأردية!".
سأل الأعجمي أخانا عن بلده فلما أخبره قال له وهو يهز رأسه أسفا.
"أنتم يدرسون لكم التاريخ خطأ، -مبتسما- أكيد كل شيء عندنا لا بد فيه من الخطأ، يدرسون لكم أن خلافة أبي بكر وعمر صحيحة!".


صاحبنا لم يفهم فهو مازال على فطرته وسذاجته! فواصل الحوار محاولا أن يفهم معنى العبارة السابقة وبعد أربع ساعات من الصداع سأله أخونا الساذج: "أنت تعني أن سيدنا أبا بكر وسيدنا عمر في النار؟".
فابتسم الخبيث وفرك كفيه في سعادة (أخيرا فهم الساذج!) وقال: "نعم". فتمعر وجه صاحبنا غضبا وهز رأسه نفيا في ثقة وقال: "بل هما في الجنة!".

ظهر الاحباط جليا على وجه الآخر وحاول أن يناقشه فصده صاحبنا، وهذا ما ينبغي أن يفعله كل من ليس له علم إذا وجد نفسه في مصيدة المبتدعة، لكن صاحبنا لم يسكت، دار في الحرم النبوي كالليث يبحث عمن يجيب أسئلته حتى وجد ضالته فجلس إليه وهو لا يستطيع أن يتأدب بأدب طالب العلم مما يجيش في صدره من النيران المستعرة غضبا، وكان الشيخ في غاية الحلم يتركه يفرغ غضبه ثم يجيب عن أسئلته بأوسع ما عنده من عطاء الصبر، وفهم أخانا في يومه هذا أن هناك فرق تنتسب للإسلام تسمى (خوارج) وأخرى تسمى (شيعة) وثالثة تسمى (زيدية) ورابعة تسمى (صوفية) وهكذا..!


سأل الشيخ متحيرا: "كيف يعني حدث هذا الافتراق؟".
فقال الشيخ بصبره وحلمه: "هذا ما أنذرنا الله تعالى وحذرنا أن نتبعه، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31-32]، وقال تعالى آمرا نبيه بالبراءة منهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]، وحذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار» (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث عوف بن مالك الأشجعي)، وفي رواية: قيل يا رسول الله من هم؟ قال: «هم الجماعة» [6].


وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم كل أمر يخالف أمره مردود على صاحبه فقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» (متفق عليه)، فهذا الافتراق يا بني، عَلَمٌ على صدق النبوة فعليك بهدي السلف فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: ثم يتخلف من بعدهم خلف، تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» (متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه)، فما وسعهم وسعنا وهم خير منا، ولو كان ثَمَّ خيرا لسبقونا إليه، وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهدين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (صحيح الجامع)، ومن توفيق الله للحدث والأعجمي أن يقيض له صاحب سنة يعلمه السنة ويرشده إلى طريق الحق".

ثم قال له الشيخ في تصميم: "قال رب العزة سبحانه: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا» [النساء:115]، فعليك بسبيل المؤمنين وهم السلف الأوائل فكل خير فى اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف" [7].


الصدمة الثانية" (تابعة للصدمة الأولى)

ربما بعد هذه الأحداث التي مر بها صاحبنا ظن أنه لن يدهشه شيء في هذا العالم الغريب! لكن لم يلبث أن طلب العلم وتصدر -وهو بعد حدث- لدعوة الناس لأمر واحد: اتباع السنة بفهم الصحابة وترك ما عداها! فلما تحدث مع بعض الإخوة في يوم قال: "علينا باتباع السنة ولا نتبع الفرق الضالة من صوفية وأشعرية وشيعة فإننا أهل سنة وجماعة فلنزم جماعة الصدر الأول من المؤمنين وهم السلف الصالح".


فبعد أن أنهى حواره أخذه أخ في ناحية وابتسم في ود شديد لم يره الأخ من قبل ولا ظن أنه سيراه! وقال له: "لماذا قلت أن الصوفية فرقة ضالة...؟" ثم راح يعدد حلاوة الصوفية وجمال الصوفية وروعة الطرق الصوفية ووحدة وجود الصوفية وفناء الصوفية وقبور الصوفية وأولياء الصوفية الذين يمشون في الهواء! [8].

فرد عليه بما فتح الله عليه وكان مما قال بثقة: "هل كانت الصوفية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟".
فتحير الأخ الودود فرد على سؤال نفسه بثقة: "لا لم يكونوا، وأنا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه! يسعني ما يسعهم ويضيق علي ما ضاقوا به ولم يسعهم... وأقول لك -أي صديقي- إن الله تعالى مستوٍ [9]على عرشه كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأولياؤك المزعومون لا أقبل منهم إلا ما وافق الكتاب والسنة ولو طاروا في الهواء ومشوا على الماء فليسوا أحب إلى الله من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة! ولو كان ثمَّ قبر يستحق العبادة لكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه نهى عن ذلك فقال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا» (صححه الألباني في صحيح أبي داود)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»" (متفق عليه واللفظ للبخاري).

ولم يعدم صاحبنا من شبهات رغم أنه رد عليها بثقة غير أنه احتاج للرجوع إلى شيخه [10]. وبعد أن راجع معه بعض الأمور قال له صاحبنا في تعجب: "يا شيخنا ما ظننت أبدا أن أجد ما نقرأ في الكتب حاضرا في أذهان الناس كنت أظن الناس كلها على الفطرة والسنة!". فقال له الشيخ مبتسما: "كيف بك لو رأيت عباد الطواطم والأصنام؟! إذا لبكيت كمدا وغيظا!".


آخر صدمة:
ليست هذه أخر صدمة باعتبار أن الأخ لم ير صدمات أخر! بل هي الأخيرة باعتبار إحساسه، فبعدها تبلد إحساس صاحبنا فلو رأى عابد البقر لما أثار هذا دهشته! ولو رأى من يمشي على رأسه لما اهتزت في بدنه شعرة، اللهم إلا هزة الغضب والغيظ!

هكذا تغير صاحبنا المتحير مع الوقت والاحتكاك فلما قابل هذه الصدمة اهتز قليلا، وضاق صدره بعض الشيء، ثم صار يألف واقع المسلمين فلا يصدمه، ولم تمنعه هذه الألفة من محاولة الدعوة والتغيير، فقط منعته من الصدمات!

جدير بالذكر أن صدمات صاحبنا كانت كلها في فترة واحدة تقريبا، فقد نزلت العصا على رأسه بعدد من الصدمات متتاليات! فصار بعد عام واحد من لقاءه بالمبتدع السابق في الحرم النبوي إذا رأى العصا تقع على رأسه قفز سريعا للخلف ويتركها تضرب الهواء، ثم يمسكها بلطف ويجذبها من صاحبها ويضعها بعيدا ثم إما يقبل منه صاحب العصا نصحه، إما ينصرف حانقا يتحرق هو بالغضب والصدمة!


كانت الصدمة الأخيرة متعددة الأطراف، فقد وجد فجأة أنه بين مجموعة مساجد، الأول لا يقبله لأنه يطلق لحيته ويصر على اتباع السنة في سمته! والآخر لا يقبله لأنه ينكر عليهم تصدرهم للدعوة بغير علم! والثالث لا يقبله لأنه لا يقول بكفر المعين بمجرد وقوعه في الكفر! والرابع لا يقبله لأنه لا يجرح الدعاة! والخامس لا يقبله لأنه يخالف فتاوى الشيخ الأستاذ بالمسجد! [11].

وكل طائفة تحاول جاهدة تصنيفه –ولا بد من التصنيف عندهم جميعا- فيسمع ممن ناقشه منهم بعد ذلك تهم عجيبة كانت تلصق به جزافا! فكل القوم -ولو أنكروا ذلك- يجرحون غيرهم وينكرون عليهم ويعدلون من كان على نهجهم وجماعتهم! فإذا ما حاول أن يناقش أحدهم -إلا من رحم الله-، وجد آذانا صما وأعينا عميا لا يردون إلا عن كبيرهم ولا يشربون إلا من أحواضهم، وإذا ما حاول أن يوصل إليهم دعوته في اتباع السنة وأن الخلاف ليس رحمة، أشاروا له جميعا إشارة واحدة اتفقوا عليها جميعا، رغم أنهم اختلفوا فيما عداها:

"اخرج عنا... هيا ابتعد... لست منا ولسنا منك... ابحث عمن تنتمي لهم! فإما أن تكون معنا أو تكون ضدنا
لكني مسلم! ونحن مسلمون أيضا لكن لنا طريقنا ولك طريقك إما أن تتعاون معنا على ما نحن فيه بلا إنكار، إما أن تبحث عمن يوافقك لأننا لن نقبلك وسنعاديك ونبغضك، فنحن لنا سبيل لن نحيد عنه..!


أين الولاء؟ أنا مسلم! ولاؤنا لجماعتنا أكبر من ولائنا لأمثالك وأمثال الجماعات الأخرى فمنكم نبرأ بلسان الحال أو المقال، ولو خالف سبيل جماعتكم السنة وهدي الصحابة؟ هذه فروع، ونحن لا نختلف في الأصول! أي فروع وأي أصول؟! هل خلاف السنة فروع؟ الأصول عندنا أننا مسلمون وأننا ننتمي إلى هذه الجماعة وهذا الشيخ ونهجر ما عداها، والفروع كل ماعدا هذه الحقائق فإذا أردت صحبتنا فلا تنكر علينا شيء فكلها عندنا فروع ثانوية!".

"ولماذا لا نتفق أن نوحد المصدر؟ نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نقدم رأيه على من سواه؟ فنكون جماعة واحدة ولو اختلفنا".

فهتفوا بصوت رجل واحد: "لكم شيخكم ولي شيخي! ونحن نثق في شيوخنا فهم متبعون فإن شئت اذهب ناقشهم ولا تصدع الصف بيننا".

فلما ضاق صدره عن الجدال سكت على مضض وولاهم ظهره ومضى في دعوته غير مهتم فما وجد حوله ممن هم على دربه إلا قليل، ومرت السنون وعرك صاحبنا الحياة وبقي بفضل الله على ما عاهد نفسه عليه من اتباع السنة ونفض يده مما عدا ذلك فكل خير في اتباع من سلف... وكل شر في ابتداع من خلف، وإن الصحابه هم خير القرون، فلا يخالفهم ويتبع الظنون، وحفظ حديث حذيفة [12]، فظل على العهد والوعد «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».


فاتصل به يوما أحد إخوانه قائلا في حيرة: "لماذا اختلفوا؟! وماذا أفعل؟! ولمن أنتمي؟ فابتسم في حنين ومرت أمامه ما مضى من السنين، ثم تنفس في عمق وقال: الاختلاف سنة كونية لا سبيل لدفعها لكن أدِ ما عليك واتبع السنة وحدها ولو خالفك من في الأرض، وانْتَمِ للرسول وجماعته ولو عاداك أهل الأرض، فالجماعة هي السنة ولو كنت وحدك، و{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161].

بنفسي من اهتـدى إلى الله وحده *** وكان له القرآن شربا ومغســلا
وطابت عليـه أرضــه فتفتقت *** بكل عبير حين أصبــح مخضلا
فطـوبى له والشوق يبعث همـه *** وزند الأسى يهتاج في القلب مشعلا
هو المجتبى يغـدو على الناس كلهم *** قريبـا غريبـا مستمالا مؤملا
يعد جميــع النــاس مولى لأنهم *** على ما قضاه الله يجرون أفعلا
يرى نفســه بالذم أولى لأنهــا *** على المجد لم تلعق من الصبر والألا
وقد قيل كن كالكلب يقصيـه أهله *** وما يأتلي في نصحهم متبــذلا
لعــل إله العرش يا إخوتي يــقي *** جماعتـنــا كل المكاره هولا
ويجعلنــا ممن يكون كتــابــه *** شفيعا له إذ ما نســوه فيمحلا
وبالله حولي واعتصــامي وقــوتي *** وما لي إلا ستـــره متجللا
فيــارب أنت الله حســبي وعدتي *** عليك اعتمادي ضارعا متوكلا[13]



سارة بنت محمد


-----------------------------------------

[1] لمزيد من التفاصيل عن أسباب خلاف العلماء راجع الكتاب الثمين جدا "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

[2] نونية ابن القيم.

[3] انظر مشكورا مأجورا غير مأمور: مقدمة "صفة صلاة النبي" للشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى، ومقدمة صحيح فقه السنة للشيخ أبي مالك كمال السيد، ومقدمة فقه السنة للشيخ سيد سابق رحمه الله تعالى.

[4] البيت للإمام الشاطبي في نظمه الفريد وعقده النضيد: حرز الأماني ووجه التهاني

[5] مسألة خلافية والأولى في رأيي الترك لأنه لو كان خيرا لسبقونا (أي الصحابة ) إليه (أي إلى هذا الخير)

[6] الزيادة عن مالك بن عوف الأشجعي بإسناد جيد ورجاله ثقات في السلسلة الصحيحة

[7] الحوار بالمعنى لا بالنص

[8] كل الطرق الصوفية اجتمعت على ضلالة عبادة القبور -وإن سموها بغير اسمها- وتعظيم الأولياء حتى ينسبون لهم بعض الصفات الإلهية، ومنهم من لايزال يقول بوحدة الوجود وأن الله في كل مكان تعالى الله عن ذلك ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد بمعنى أن الله -تعالى عن قولهم سبحانه- يحل في شيوخهم، ولا يخفى فساد هذه المعتقدات وأنها تخالف ما كان عليه الصحابة في فهم القرآن والسنة، وكذلك بدع الصوفية ظاهرة في الأوراد والعبادات البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من الفجور والأعمال الشركية والتي ينفر منها ذوي الألباب.

[9] ذكر الله عز وجل استوائه على العرش في سبع مواضع من القرآن الكريم

[10] سبحانك ربي وفوق كل ذي علم عليم، ولو لم يرجع الطالب لشيخه يتأكد ويتحرى الصواب دوما لضل وأضل! فلابد من مراجعة أهل العلم والرجوع إلى الأصول من مراجع سمعية أو مقروءة وهذه مذاكرة نافعة لا يستغني عنها إلا متكبر، لئلا يطول الأمد فينسى ويقسو القلب ويضل عن الحق!

[11] ذكرت الأمور التي تعد علم على هذه الجماعات ولكن هناك أمور أخرى تخالف السنة لم أذكرها لأن المراد ليس نقد تفصيلي بل نقد جماعي للتعصب لأي كائن وأي فئة سوى السنة وجماعة المسلمين ككل.

[12] حديث حذيفة: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم». قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن». قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا». قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ». قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (متفق عليه) قلت: ومن عجيب لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: تلك الفرق قبل أن يفترقوا!

[13] أبيات ثمينة من أخر مقدمة حرز الأماني ووجه التهاني الشهيرة بالشاطبية لإمام الشاطبي
 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام