مسار الانحراف السياسي في الأمة

منذ 2012-07-19

الكاتب /أنور قاسم الخضري


يُؤثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "تفقهوا قبل أن تسودوا".
إن كون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لا يعني بحال من الأحوال عصمتها في أن تقع في الانحرافات التي وقعت فيها الأمم السابقة ولو مع بقاء فرقة ناجية وطائفة منصورة وحفظ مرجعيتها النظرية (الكتاب والسنة). فقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عدد من الانحرافات التي ستقع في الجانب السياسي في الأمة محذرا تارة وموجها تارة ومخبرا تارة. وذلك -في نظري- لكي تستعد الأمة في مواجهة التحديات التي ستقابلها بروح المسئولية وباتزان نفسي بعيد عن ردود الفعل غير المنطقية ونكران الحقائق غير الواقعي.
وعند تحليل بعض الأحاديث الواردة في أخبار الفتن وأشراط الساعة نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن عدة مستويات من الانحرافات التي ستقع في الأمة في هذا الجانب. وهذه المستويات تشمل: الحاكم، وظيفة الحكم، والفكر السياسي.

أولا: انحرافات الحكام:
في هذا المستوى من الانحراف يكون الانحراف في شخص الحكام، وفي المستوى الذاتي أو بما لا يؤثر في وظيفة الدولة والحكم عادة، سواء جاء في صيغة فسق أو ظلم أو بدعة أو تقصير وإهمال. ومن ذلك:
- مخالفة الحكام للسنن النبوية: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟»، قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة». ولم يذكر خلف: عن وقتها[1].
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بعدي أمراء يصلون الصلاة لوقتها ويؤخرونها عن وقتها، فصلوا معهم، فإن صلوها لوقتها وصليتموها معهم فلكم ولهم، فإن أخروها عن وقتها فصلوها معهم فلكم وعليهم، فإنه من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن نكث العهد ومات ناكثا للعهد جاء يوم القيامة لا حجة له»[2]. وفي رواية: «يكون عليكم أمراء بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم وعليهم، فصلوها معهم ما صلوا بكم القبلة»[3].

- استئثار الحكام ببعض حقوق الرعية: عن وائل الحضرمي والد علقمة قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا... فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم»[4].

- ظلم الحكام لبعض الرعية وكذبهم: عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة خمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم، فقال: «اسمعوا هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض»[5]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يكون أمراء تغشاهم غواش أو حواش من الناس، يكذبون ويظلمون، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه»[6].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون عليكم بعدي أمراء: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده»، فحدثت بذلك ابن عمر فقال لي: أنت سمعته من ابن مسعود؟ فقلت: نعم وهو شاكي فما يمنعك أن تعوده؟ فانطلقنا فدخلنا عليه فسأله ابن عمر عن شكواه ثم قال: حديثا حدثنا هذا عنك فقال ابن مسعود: نعم فحدثته به، فلما خرجنا قال لي ابن عمر: ما كان ابن أم عبد ليكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.[7]

- ظهور مخالفات شرعية منهم: عن أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: «إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: «لا.. ما صلوا»[8].

- ظهور علامات الاستبداد في الحكام: عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون أمراء يقولون فلا يرد عليهم، يتهافتون في النار يتبع بعضهم بعضا»[9].

- ظهور حكام سفهاء ومن أهل الشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «ليأتين على الناس زمان يكون عليهم أمراء سفهاء يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا»[10]. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هلاك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أمراء أغيلمة سفهاء من قريش»[11]. وعن كعب بن عجرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنها ستكون عليكم أمراء من بعدي يعظون بالحكمة على المنابر فإذا نزلوا اختلست منهم، وقلوبهم أنتن من الجيف»[12]. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا»[13].

- تقاتل الحكام: جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون بعدي أمراء يقتتلون على الملك، يقتل عليه بعضهم بعضا»، فقلنا له: لو حدثنا به غيرك كذبناه فقال: «أما إنه سيكون»[14].
وهذه الأحاديث تبين أن هذه الانحرافات في الحاكم قد تكون محتملة تارة، ومرفوضة تارة بحيث يجب إنكارها، ومذمومة مرفوضة متبرأ منها في تارات أخر، رغم أنه لا يلزم فيها تكفير الحاكم أو تضليله. فليس كل انحراف في الحاكم يكون مقبولا خاصة وأنه ينصب نفسه للناس قدوة وللدين راعيا أمينا!
ولذلك يتصور البعض أن الحاكم طالما أنه لم يكفر فأن طاعته ومدحه على أي حال، وتنصيبه والوفاء ببيعته، هو السنة، ويتجاهل هذه النصوص التي تذمهم وتنفر عنهم وتحذر من توليهم... وتعتبرهم فتنة ومصيبة يجب تحذير الأمة منهم.

ثانيا: انحراف الحكم:
إنه في بعض الحالات يكون الحاكم صالحا في نفسه إلا أن وظيفة الحكم معه لا تؤدي رسالتها كما ينبغي، فإذا ما كان هو فاسد في نفسه وفيما يليه كان ذلك شرا على شر. وانحراف الحكم أمر لا يتعلق بذات الحاكم وحاشيته بل بالمهمة التي لأجلها نصب وعليها يتابع ويطاع، فإذا ما أضيعت فأي قيمة لنصب إمام لا تصلح به دنيا ولا يقوم به دين؟!

ومهمة الحكم المتابع للنبوة وميراثها هو الهداية للحق والرحمة بالخلق، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة، ثم سكت»[15]. وفي أخرى: «إن أول دينكم نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم تكون ملكا وجبرية، يستحلون فيها الدم»[16]. وفي أخرى أيضا: «أنتم في نبوة ورحمة، وستكون خلافة ورحمة، وتكون كذا وكذا، وتكون ملكا عضوضا، يشربون الخمور ويلبسون الحرير، ومع ذلك ينصرون إلى أن تقوم الساعة»[17]. وأيضا: «إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج والخمور والحرير ويرزقون مع ذلك، وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل»[18]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليها تكادم الحمير، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان»[19].

ومن أمثلة الانحراف في هذا الجانب ما يلي:
- إضلال الخلق عن السنة وإيقاعهم في المنكر: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه-أنه قال: قلت يا رسول الله، إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: (نعم)، قلت: وهل من وراء ذلك الشر خير؟ قال: (نعم)، قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم» قلت: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير»[20]. وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله: «سيليكم أمراء بعدي، يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله»[21]، وفي رواية أخرى: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون ملكا»[22]، وفي رواية: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك -أو ملكه- من يشاء»[23].

وهذا لا يعني أن بعض فترات الملك لا تحقق المقصود من الخلافة، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه: «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة»، ثم قال الراوي: فقال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلهم من قريش»[24]. وفي رواية «لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة»، وفي رواية أخرى: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة»، وفي رابعة: «لا يزال هذا الدين قائما، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليه الأمة».

- مخالفة الشريعة: عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: «إنه لم يكن نبي قط إلا وله من أصحابه حواريون وأصحاب يتبعون أثره ويقتدون بهديه، ثم يأتي من بعد ذلك خوالف.. أمراء يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون». وفي رواية: «سيكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون»[25]. وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: «سيكون من بعدي خلفاء يعملون بما يقولون، ويفعلون ما يؤمرون، وسيكون من بعدهم خلفاء يعملون بما لا يقولون، ويفعلون ما لا يؤمرون. من أنكر برئ، ومن أمسك سلم، ولكن من رضي وتابع». وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ستكون أئمة من بعدي، يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة»، وفي رواية: «يكون أمراء فلا يرد عليهم قولهم، يتهافتون في النار، بعضهم بعضا»[26].

- ترك الشريعة وتبديلها: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم»[27].

إن انحراف الحكم عن وظائفه قد يصيب جوهر الوظيفة التي لأجلها ينصب الحاكم، وقد لا يصيبها، وفي جميع الأحوال يجب النظر للأمر من زاوية ضرر ذلك على الأمة وإضاعته للدين، والوقوف من ذلك الموقف المناسب، سواء تطلب ذلك عزل الحاكم أو الخروج عليه، كما جاء عند البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على «السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان». ويستوي ذلك ما قد يوقعه في الأمة من كفر نتيجة بدعة أو ضلالة أو نتيجة فقر يضعفها ويجعلها رهنا للأعداء والمذاهب الباطلة! وذلك كله في حال القدرة والتمكن واستنفاد كافة طرق التغيير والإصلاح، أما إذا عجز المرء لسبب في نفسه أو في واقع الأمة فالحال كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر، وفي الحديث أنه سأل رسول الله: "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»[28]. لأن الفرد في هذه الحالة لا قدرة له على تغيير أمة كاملة ضلت الطريق.

وهذا الانحراف في الحكم قد يكون نتيجة لاختيار الشخص غير الأنسب للحكم أو تمكنه من الوصول إليه: فعن أبي هريرة في حديث جبريل الطويل، والكلام عن أشراط الساعة: «ورأيت الحفاة العراة ملوك الأرض»[29]، وعند البخاري عن أبي هريرة أيضا، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث. وقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: «أين السائل عن الساعة؟»، فقال: ها أنا يا رسول الله! قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، والحكم أولى الأمانات بأن توسد لأهلها. وعند الإمام أحمد «وكان الملك في صغاركم»، «ويكون أسعاد الناس بالدنيا لكع ابن لكع»!

ثالثا: انحراف الفكر السياسي:
إن من جملة الانحرافات التي دخلت على الأمة في عقائدها وتصوراتها ومفاهيمها الانحرافات في الفكر السياسي، حيث تسربت إليه فكرة العصمة وأن الحاكم معبر عن الشريعة، والوصي أي أن الخلافة في وصي بعينه وسلالة بعينها، والمثالية في تصور عدل الحاكم وعدالته، ومن ثمَّ إيجاب الخروج عليه على أي انحراف منه، وكذلك فصل الدين عن الدولة، أو جعل العقل والمصالح مهيمنة على الشرع بإطلاق.. وغيرها من الأمور التي تسربت للمسلمين من الأمم الأخرى والأفكار الدخيلة عليها من الثقافات المعاصرة لها.
وفي ضوء هذه الانحرافات تشكلت مناهج سياسية في الواقع الإسلامي، بعضها استطاع إقامة دولته في ضوئها وبعضها فشل في تطبيقها، وفي جميع الأحوال ذاقت الأمة ويلات هذه الأفكار المنحرفة ضياعا وخرابا وتخلفا وصراعات أشغلت المسلمين فيما بينهم وعطلتهم عن أدوارهم الدينية والدنيوية. فالخوارج والباطنية والمعتزلة والزيدية والشيعة والأحزاب القومية واليسارية والليبرالية المنتسبة للمسلمين جميعها تمثل نموذجا للانحرافات الفكرية السياسية في شق من فلسفتها وتصوراتها ومفاهيمها.

الموقف من الانحرافات السياسية قديما وحديثا:
في ضوء هذا التصنيف، يمكن قراءة وتحليل مواقف علماء المسلمين من الحكام والدول التي قامت عبر التاريخ منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى العصر الحديث. فبعضها نظر للانحراف في دائرته الضيقة والبعض في بعده الأعمق، البعض رأى الانحراف في شكله البسيط والبعض في تركيبته المعقدة. وهذه المواقف أخذت مسارات تبدأ من التصالح مع الحكام والدول إلى التحالف معها وأحيانا مباركة تصرفاتها بكل ما فيها من المخالفات تحت فلسفة الجبر، وتنتهي إلى الإنكار والقطيعة والخروج عليها بالسيف.. وبينهما مسارات وسطا.
وهنا يجب التأكيد على أن هناك خلطا -يقع فيه الكثير- بين هذه الصور من الانحرافات، وعليه يخطئ في التصور ويخطئ في الموقف. فمن العلماء من يقف عند انحرافات الحاكم دون النظر إلى حال الحكم ذاته، والبعض ينظر للانحراف في الحكم دون النظر إلى الانحراف الفكري السياسي وهكذا، وقليل من الناس من يستطيع تحليل كل مستوى على حدة، ثم ينظر إلى الصورة الكلية بعد تجميع أفرادها (أو أجزائها). والصحيح أن المرض البسيط يعالج بدواء بسيط عادة، والمرض المركب يعالج بدواء مركب، وهذا قانون كوني يناسب الحالة السياسية. وإذا كانت النظرة الواحدة للأمور كانت تناسب في وقت سابق واقع الدول التي يمثل الحاكم فيها (النظام السياسي) و(الفكر السياسي) الذي يقود الأمة، فإننا في العصر الحديث وفي ظل هيمنة الديمقراطية أصبحنا أمام دولة مركبة من: نظرية وفلسفة، ونظام سياسي، وحكام. لذلك فإن الانحراف تارة قد يكون في النظرية والفلسفة الحاكمة دون الحكام، وتارة في الحكام دون النظام السياسي.. وهكذا. لذلك فإن من المناسب تشخيص مواطن الداء بشكل دقيق ووصف العلاج المناسب لها.. أحادا ومركبة، مع عدم إغفال ارتباط المسار السياسي بالمسار الاجتماعي.

فالانحرافات السياسية في الأمة لم تأت من فراغ، وليست بعيدة عن انحرافات أخرى تقع في المجتمعات: عقديا وفكريا وتعبديا وأخلاقيا واجتماعيا وسلوكيا. وقد جاءت الأحاديث لتحكي أيضا صورا أخرى من هذه الانحرافات رابطة بين علل النهوض والسقوط، وعوامل الثبات والتحلل، وسنن التغير والتحول.

ومن خلال ما تصوره هذه الأحاديث نجد أن هذه الانحرافات شاملة: للعقائد، والعبادات، والشرائع، والأوضاع الاجتماعية، والأخلاق، وصور المعيشة وأنماط التفكير والسلوك. كما أنها متداخلة، ومتسارعة، وعامة، ومتدرجة. ففي الأحاديث: «ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا»، «أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم»، «فتن تموج كموج البحر»، «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه».
فمن مظاهر الانحراف العقدي كمثال: غربة الدين، واندراس معالمه، وانتقاض عراه عروة عروة: ابتداء من الحكم وانتهاء بالصلاة، وترك الحج، والعودة للشرك وعبادة الأوثان والقبور، والتحول من الإيمان للكفر، ومن الكفر للإيمان، وبيع الدين بعرض من الدنيا، واستحداث البدع، وظهور الفرق، والكلام في القدر، وتصديق الكهنة والعرافين، وإنكار السنة، وتكفير أهل القبلة، وظهور الأئمة المضلين، وادعاء النبوة، وظهور الدجالين،
ومن مظاهر الانحراف التعبدي: قلة التعبد، والاهتمام بشكل العبادة دون مضمونها، وغياب الإيمان، واتخاذ المساجد طرقات، وذهاب الخشوع، وهجر القرآن الكريم، والانشغال بالحرث والزرع والرعي والتجارة عن واجبات الدين، واندراس السنن، وتأخير الصلوات عن وقتها.

ومن مظاهر الانحراف الأخلاقي: إضاعة الأمانة، وفي رواية: «ترفع الأمانة»، وفي رواية: «تقبض الأمانة»، وتأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وتكثر شهادة الزور، وقول الزور، وتكتم شهادة الحق، ويظهر انفصام القول عن العمل، ويغلب الشح، ويكثر الطمع، وتغيب المبادئ، ويقل الصدق ويكثر الكذب، ولا يأمن الجليس جليسه، ولا الجار جاره.

ومن مظاهر الانحراف الأمني: كثرة القتل والاقتتال، والخوف، والملاحم، وتقطع السبل.. «إن بين يدي الساعة الهرج»، قالوا: وما الهرج؟ قال: «القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضا»، وفي رواية: «حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه»، قالوا: أمعنا عقولنا يومئذ؟ قال: «إنه تنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء». وفي حديث آخر: «وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها (أو بين أقطارها)، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعض»ا. وعنه عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده، ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول عن أي شيء قتل».

ومن مظاهر التحول الاجتماعي: أن الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، وأن يكون الحفاة الجياع العالة رؤوس الناس، وأن ينطق الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»، ويوسد الأمر إلى غير أهله، ويغلب على الدنيا لكع ابن لكع، وتعلو الأسافل، وتسفل الأعالي.
وأن تفشو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وتكثر الأسواق، ويستفيض المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا. وتقطع الأرحام، ويظهر العقوق. وتلد الأمة ربتها أو ربها. ويقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد. ويكون التسليم للخاصة. وتكثر الشحناء بين الناس، والتحاسد والتدابر. ويخضع الناس للذل فـ «يكون في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر يغدون في سخط الله ويروحون في غضبه»، «يضربون بها الناس»، ويساق الناس من قبل ملوكهم بالعصى.

ومن مظاهر الجهل والأمية: أن يرفع العلم، ويقل، وأن بقبض العلماء، ويكثر الجهل، ويظهر. وتنتشر الكتابة، ويكثر القراء، ويقل الفقهاء، ويتخذ الناس رؤوساء جهالا، فيفتوا بغير علم.
ومن مظاهر الانحلال السلوكي: أن تظهر المعازف والقينات، وتعلن الفاحشة ويغلب الفُحش والتفحش، ويكثر الزنا، وشرب الخمر، ويكون أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ويظهر التبرج من نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، ويكون في الأمة من يأتي أمه علانية، ويتسافد الناس في الطرقات تسافد الحمر، ويكثر اللواط.

ومن مظاهر التحول الاقتصادي: أن يفشو المال ويفيض، حتى يهم رب المال من يقبل منه صدقته، فلا يجد، وتكثر الأسواق، وينشغل الناس رجالا ونساء بالتجارة، وتفتح الدنيا وتبسط للأمة حتى تتقاتل عليها، وتطغى مظاهر الزخرفة على تشييد المساجد فضلا عن البيوت. وتقع المجاعات، ويفشو الغش، ويكون المال دولة بين الأغنياء، وتنتهب حقوق المسلمين، ويتطاول الرعاة في البنيان. ولا يبالي الناس أمن حرام أكلوا أم من حلال. وينتشر الربا حتى لا يبقى أحد من الناس إلا أكل منه أو أصاب من بخاره.

ومن مظاهر الوهن أمام الأعداء: ترك الجهاد في سبيل الله، وتداعى الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت». وحصار عدد من بلاد الإسلام: العراق والشام ومصر، وغزو التتر والروم لبلاد المسلمين، وكثرة المنافقين الخونة داخل الأمة.

كما أن هذه الانحرافات يصاحبها تحولات كونية وبيئية: منها: كثرة الزلازل، وكثرة الخسف، وتقارب الزمان، وانحباس المطر، وانتفاخ الأهلة، وكثرة الأمراض والطاعون، وظهور أمراض لم تكن في أسلافهم، وكثرة موت الفجأة؛ ومنها تكليم السباع والدواب للناس، وتحديث شراك النعل وعذبة السوط مع صاحبها، وإخبار فخذ الرجل ما أحدث أهله بعده، وإخراج الأرض كنوزها حتى يدخل الناس في صراع عليها.

وهذا كله يوجب حركة إصلاحية شاملة تقوم بها طوائف متخصصة، ويتعاون عليها المسلمون بمختلف مذاهبهم، وتشتغل بمواجهتها جماعات علمية ودعوية وتربوية واحتسابية، ولن يستطيع فرد مهما بلغ، ولا جماعة مهما كانت، أن تقوم بهذا الجهد في هذه الحقبة الزمنية من حال الأمة.

ومن ثمَّ فإننا يجب أن لا نختزل عملية الإصلاح في جانب مهما كان، مقللين من جهود المصلحين في جوانب أخرى، ومحقرين من بذلهم واجتهاداتهم.. طالما أنه على ثغر لم يقم غيره عليه. وتوجه كثير من التيارات الإسلامية اليوم للسياسة باعتبار أهميتها في توجيه المجتمع بكل إمكاناته وقدراته وثرواته لا يغني عن بقاء الجماعات العلمية والدعوية والاحتسابية والجهود الاقتصادية والإعلامية والتروبية بحال. ومن المهم أن يتكامل الجميع في ظل التعقيد القائم في الحياة اليوم، ويتعاونوا على البر والتقوى.. وهما مصطلحان يشملان مصالح الدنيا والدين.

فهل بالإمكان أن يوفر الإسلاميون معاركهم البينية باتجاه الدفع والمقاومة والبناء.. قبل أن يفيقوا على كارثة شاملة؟! وهل يمكنهم تحديد ميادين الصراع والمغالبة والتصحيح والإصلاح والتغيير والوسائل العصرية المناسبة لها اليوم بعيدا عن استصحاب الماضي بكل فروقه مع الواقع المعاصر؟!

-------------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم، رقم: 648.
[2] التمهيد، لابن عبدالبر، رقم: 8/65.
[3] التمهيد، لابن عبدالبر، رقم: 8/65.
[4] مسلم، رقم: 1846.
[5] الترمذي، رقم: 2259.
[6] الترغيب والترهيب، المنذري، رقم: 3/205.
[7] إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري، رقم: 8/44.
[8] صحيح مسلم، رقم: 1854.
[9] ابن خزيمة، رقم:2/903.
[10] مجمع الزوائد للهيثمي، رقم: 5/243.
[11] مسند أحمد، رقم: 15/127. وإسناده صحيح.
[12] مجمع الزوائد للهيثمي، رقم: 5/241.
[13] الترغيب والترهيب، المنذري، رقم: 2/30.
[14] إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري، رقم: 8/63. ورجاله ثقات.
[15] مجمع الزوائد للهيثمي، برقم: 5/191. تخريج مشكاة المصابيح، برقم: 5306.
[16] إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري، برقم: 5/21، وهو حديث حسن.
[17] إتحاف الخيرة المهرة، برقم: 8/93، وسنده صحيح.
[18] الإمتاع لابن حجر، برقم: 1/117، وهو حسن. والمطالب العالية، برقم: 2/367. وتخريج مشكاة المصابيح، برقم: 5/84.
[19] مجمع الزوائد للهيثمي، عن عبدالله بن عباس، برقم: 5/193. ورجاله ثقات.
[20] صحيح مسلم، برقم: 1847.
[21] السلسلة الصحيحة: برقم 590.
[22] مسند أحمد، برقم: 2/1169.
[23] سنن أبي داوود، برقم: 4646.
[24] عن جابر بن سمرة، صحيح مسلم، برقم: 1821.
[25] مسند أحمد، رقم: 6/187، رقم: 6/169؛ وسندهما صحيح.
[26] والحديث صححه الألباني: صحيح الجامع، برقم: 3615، والسلسلة الصحيحة، برقم: 1790.
[27] رواه ابن ماجه، رقم: 4019، والحاكم في مستدركه: ج4/583، والطبراني في الأوسط:ج 5/61-62.
[28] البخاري، برقم: 3606.
[29] سنن النسائي، برقم: 4991، وإسناده صحيح.

المصدر: مجلة البيان