من يعيد لي سواد شعري

منذ 2012-07-22

..كان تعذيب الأطفال قبل قتلهم مقصودًاً، ولا يجهزون عليهم مباشرة إلا للضرورة كالاستعجال ونحوه؛ لأن مخاضة الأطفال هذه كان أكثر الأطفال فيها معرقبين يسبحون في دمائهم حتى قضوا واحدًا تلو الآخر بشكل بطيء، كانوا أربعين طفلاً، قدرت أصغرهم بثلاثة أشهر وأكبرهم بثلاث عشرة سنة، دُهشت وكدت أُجن.


سأنقلك أيها القارئ الكريم إلى المشهد السوري؛ لتعيش مأساة النساء والأطفال بنفسك، وكأنك تشاهدها رأي العين، وذلك عبر شاهد وشاهدة أنجاهما الله تعالى من جحيم سوريا، لكن قلبيهما يتوقدان نارًا من هول ما رأيا.. وقبل ذلك دعني أعطيك فكرة عن كيفية اقتحام الجيش السوري وأعوانه وشبيحته البلدات السورية حسب شاهدات الشهود..

إذا أراد النصيريون دخول حي أو بلدة صبحوها بالقذائف إلى ثلث النهار الأخير، ثم يحين اقتحامها فيضعون جنود السنة من الجيش السوري في المقدمة، وخلفهم الجنود النصيريين وأعوانهم من رافضة إيران ولبنان والعراق، ثم خلفهم الشبيحة.

فإذا تقاعس أحد من جنود السنة عن الاقتحام قتلوه من الخلف، فإذا دخلوا البلدة أو الحي أخرجوا الجميع من المنازل إلا الأطفال، فعزلوا الرجال وعزلوا النساء وعزلوا الفتيات، فيقتلون الرجال أو يعتقلونهم ويحملونهم في الشاحنات، ويذهبون بالبنات لأسيادهم من أجل اغتصابهن، وبعد أن ينتهي النصيريون والرافضة ويشبعون نهمتهم من القتل والاغتصاب والاعتقال يأذنون للشبيحة بالدخول فيما ينسحب الجيش، ومهمة الشبيحة تطهير البلدة من أهلها ونهبها، يعني: القيام بالجرائم التي يعجز عنها الجيش فيقتلون من بقي من الأطفال والنساء وغالبًا يكون القتل بالسكاكين والسواطير ونحوها، ويحرصون على أن لا يبقى أحد حيًاً؛ لئلا ينقل ما شاهد من الجرائم؛ ولئلا يكون شاهدًاً فيما لو حوكموا دوليًاً على جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية، وكانت هذه طريقتهم في كل البلدات التي دخلوها حسب شهادات الشهود، وإذا خافوا تواجد عناصر من الجيش الحر جعلوا النساء والأطفال دروعًاً لهم ولدباباتهم وسياراتهم للاحتماء بهم حتى ينجزوا مهمتهم القذرة.

أبو عبد المجيد الحمصي: رجل هرب من جحيم حمص، إذا رأيت بشرته ومشيته وقوته تقول إنه في أواخر الثلاثينات، وإذا رأيت شعر لحيته ورأسه تقول تجاوز الستين من بياض شعره، سمعت عنه فسألت عنه حتى وصلت إليه، وأخبرته أني سمعت من يحدث عنه بما رأى فأردت السماع منه مباشرة.


شخص ببصره إليّ ثم أطرق إلى الأرض مليًا، ثم رفع بصره إليّ وعاد فأطرق، وأخرج من صدره زفرة تدل على عمق المأساة التي عاشها، ثم فتح عينيه بقوة وبدأ الحديث ذاكرًا أنه: "كان في كرم الزيتون من حمص صبيحة 12/3/2012، اشتد القصف على بلدتهم إلى العصر، وقد دمروا البلدة، وقضى كثير من أهلها تحت البنايات، وخرجت بأولادي في السيارة، ورأيت الناس يهربون إلى غير وجهة، منهم الراكب ومنهم الراجل، وامرأة تحمل أطفالاً وتجر آخرين فتعجز وتسقط، وأخرى تسقط قذيفة بجوارها، فتمزقها وأطفالها، وفي كل مرة أنتظر سقوط قذيفة على سيارتنا، ومن شدة الرعب كنت أريد أن ينتهي هذا الكابوس بأي طريقة، فالنساء معي تصيح وتولول، وتتشبث بأطفال يعلو بكاؤهم وعويلهم، وأنا الرجل الوحيد لا حيلة لي إلا الدوران بالسيارة، ولم أجد منفذًا البتة، كلما يممت شطر جهة وجدت حواجزهم ودباباتهم ورشاشاتهم بانتظاري فأنحرف إلى جهة أخرى، وهكذا مضى شطر النهار حتى أيست وعدت للمنزل مرة أخرى..

في منتصف العصر اقتحموا البلدة بعد تدميرها، فمر بنا أحد الجنود السوريين وكان سنيًا فحذرنا مخبرًا إيانا أن خلفهم العلوية والإيرانيين، ويعرفون الإيرانيين بلسانهم ويضعون شارات حمراء على أيديهم، وجنود حزب الله يضعون شارات صفراء، وجاء العلوية وأعوانهم من الإيرانيين واللبنانيين وأخرجوا الأحياء من البيوت، وكان الإيرانيون يصرون على رشنا وإبادتنا بينما تمهل العلوية ووقع بينهم خصومة بسبب ذلك، وقيدوا مجموعة من الرجال والشبان كان منهم أخي، ووضعوهم في عربة، وأثناء انشغالهم بمن مسكوا وخصومتهم فيهم تسللت إلى بيت فدخلته، ووجدت مكانًاً أبصرهم ولا يروني، فأخذوا ستة رجال وزحموهم في سيارة لجارنا ثم سكبوا عليهم البنزين وولعوا فيهم وهم أحياء، فاضطربوا داخل السيارة من حر النار فخشوا أن ينزلوا ففتحوا الرشاشات عليهم، ثم أنزلوا من أركبوهم في العربة ومنهم أخي فرشوهم أيضًا".

سكت أبو عبد المجيد ملياً وأطرق برأسه إلى الأرض كأنه يعيد في ذهنه مشهد قتل أخيه وجيرانه، ثم عدد علي خلقـًا كثيرًا بأسمائهم ممن رأى قتلهم من قرابته وجيرانه، وسكت مرة أخرى.


ثم استطرد: "خرجت من خلف البيوت بأطفالي وأمهم وأختي وقد قتلوا زوجها، والقتلى يملئون الطرقات، نمر برجال ونساء وأطفال ماتوا، وبجثث محرقة، وغيرها ممزقة، كان مساءً مرعبًا بعد يوم شاق مرهق مليء بالخوف والذعر والتشرد وقلة الحيلة، ودخلنا مستودعًاً ظنناه آمنًا، فإذا فيه ما يقارب من أربع مئة رجل مقتولون بالرشاشات ودماؤهم تسيل لا زالت ساخنة، وقد سكبوا الأسيد على بعضهم، كنا نطأ على الجثث من كثرتها ونحن نعبر، وجدت زاوية في دار خالية وضعت فيها من معي من النساء والأطفال، وبكى طفلي يريد الحليب، ولا حليب معنا، واجتمع بعض النساء والأطفال إلى أهلي، وزاد طلب الأطفال الرضع للحليب.. ولا حيلة لدي، فاضطررت للمغامرة والرجوع إلى منزلي لإحضار الحليب، مررت على بشر في الشوارع مشت عليها الدبابات وهرستها حتى ساوتها بالأسفلت، وكنت أتجنب رؤية الجثث بالتسلل داخل البيوت لأراها مليئة بالجثث، وأخرج للشوارع فأرها كذلك فلا محيص عن المناظر المرعبة..

وصلت منزلي وحملت الحليب وتسللت إلى حيث أهلي، وكنت أتسلل من خلال المنازل الخالية طلبًاً للأمن، وخوفاً من الشبيحة، فدخلت منزلاً وسمعت أناسًا تتكلم لا أدري من هم، فاقتربت من الصوت فإذا هم الشبيحة في وسط المنزل وهو معتم شيئًاً ما، كان بين أرجلهم جمع من الأطفال قتلوا بعضهم وبعضهم يبكي، وكان أحد الشبيحة العلويين يكلم صاحبه فيقول: (نخلص منهم بسرعة مشان نروح هذولا السنة خلفتهم كثيرة)، كان أصعب موقف مرَّ عليَّ في يومي.. أراهم يذبحون الأطفال ولا أستطيع فعل شيء إلا الاختباء، خرجوا بعد أن أنهوا جريمتهم، كان من الأطفال من ذبح بالسكين، ومنهم من ضرب بالساطور على رأسه وترك ينزف حتى الموت، ومنهم من أخرجت أمعاؤه وهو حي بمعلاق اللحم، وأكثر الأطفال رأيتهم قد قطعوا عرقين من عراقيبهم، فينزفون ويزحفون ويسبحون في دمائهم، ويموتون بشكل بطيء.


كان تعذيب الأطفال قبل قتلهم مقصودًاً، ولا يجهزون عليهم مباشرة إلا للضرورة كالاستعجال ونحوه؛ لأن مخاضة الأطفال هذه كان أكثر الأطفال فيها معرقبين يسبحون في دمائهم حتى قضوا واحدًا تلو الآخر بشكل بطيء، كانوا أربعين طفلاً، قدرت أصغرهم بثلاثة أشهر وأكبرهم بثلاث عشرة سنة، دُهشت وكدت أُجن، وسقطت في مكاني ولم أتحرك ونسيت الحليب وأهلي وكل شيء، وانتابتني حالة نفسية رهيبة لا يمكن وصفها وأنا أرى هؤلاء الأطفال يسبحون في الدم وتضعف أصواتهم شيئًاً شيئًا حتى تنقطع.

لا أدري هل بكيت أم جننت أم أغمي علي أم ماذا حصل لي، موقف لا يمكنني وصفه، لم يمر عليّ مثله أبدًاً رغم أنني قضيت أيام رعب الثورة كلها ولم أخرج من سوريا إلا قريبًا، ورأيت القتل والتقطيع والتعذيب واعتدت عليه، لكن هذه المرة خارت قواي فما تحملت منظر الأطفال، عرفت بعضهم كانوا أبناء أشخاص أعرفهم وأراهم وهم يلعبون في شارعنا، أدركت طفلاً حيًا يئن بصوت ضعيف، فحملته بين يدي لعلي أنقذه فأكون فعلت شيئًاً، والحليب معي، وجدت أمه، فسلمتها إياه فمات وأنا أناولها إياه، فلم أدر ما أقول، ولا أدري ماذا فعلت المرأة، فلقد كنت جسدًاً يتحرك بلا وعي.


لقد خرجت من جحيم سوريا ومنظر الأطفال لا يفارقني، واستنكرني أهلي بعد عودتي إليهم بالحليب، لقد أذهبت هذه الحادثة سواد شعري وصار أبيض بسببها، ومسح بيده على رأسه ولحيته وعيناه جاحضتان، ثم أخرج من جيبه شريط حبوب وقال: أنا أتعالج نفسيًا بعد مخاضة الأطفال، وأعيش كابوسًاً مرعبًا كلما تذكرتهم، وذكراهم لا تكاد تفارقني، فمن يزيل الكابوس عني؟ ومن يعيد لي سواد شعري؟!" فسكت وسكتنا مليًّا نتخيل الأطفال يسبحون في دمائهم ويموتون موتًا بطيئًا، غفرانك ربنا من تخاذلنا عن نصرتهم.

لما بلغ أبو عبد المجيد الحمصي هذا الجزء من حكايته، وأخبرني عما أصابه من كابوس مرعب، وصدمة نفسية هائلة ابيض بها شعره، وتغير على أهله لما عاد إليهم، تذكرت وصف (ابن كثير) لحال الناس بعد مذابح التتار حين قال: "ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه". (البداية: 17/363، ط: هجر).

سكت أبو عبد المجيد بعد ذكره لحادثة الأطفال، وتكلمت أم حسن الحمصية وهي أخت أبي عبد المجيد، وقد ذبحوا زوجها، وكان بحضرتنا أبناءها أحدهما في العشرين تقريبًاً، والثاني ابن خمسة عشر عامًا، وكانت امرأة جلدة جريئة متماسكة وهي تتحدث، قالت: "لما أصبحنا وجدنا الشوارع مليئة بالجثث من الأطفال والنساء والرجال، وقد خرجنا من كرم الزيتون في سيارة واحدة نحوًا من أربعين امرأة تضاغطنا فيها، وعلمنا من آخرين هربوا بعدنا أن الهلال الأحمر السوري جاءوا في الصباح لكرم الزيتون فأبادوا البقية من الجرحى؛ لئلا يبقى شهود على جرائم العلوية، ورأيت في حجرة ثماني عشرة امرأة مقتولة، وفي جامع حي الرفاعي احتمى فيه رجال ونساء بأطفالهم فقتلوهم داخل الجامع، كانوا يقاربون مئة وثلاثين جثة، لقد أبادوا عشائر كاملة..


ذات مرة أوقفوني مع مجموعة من النساء، فأحدهم أعجبته فتاة فاعتدى عليها فخمشت رقبته بأظفارها تدفعه عنها، فأخذ الساطورة وقطع بها ذراعها أمامنا ثم مزق ثيابها واغتصبها ورمى بها عارية فقتلها، وكانوا لا يخجلون من اغتصاب الفتيات في الشوارع أمام الناس، وأمام بعضهم البعض، وكان بعضهم يسمح للفتاة بعد اغتصابها بأخذ ثيابها والتستر والذهاب، وبعضهم يحرق ثيابها ويتركها تذهب عارية إلى أن تبتعد عنهم فتجد من يسترها، وبعضهم يقتلها بعد الاغتصاب إما برصاصة أو طعنة سكين، أو ينحرها كالخراف..

وأحد الشبيحة العلوية عندنا في حمص كنيته أبو وضاح مشهور بأنه يغتصب البنات، ثم ينحرهن ويلقي بهن في الزبالة وهن عاريات، فكنا في ذهابنا وإيابنا نجتنب الأحياء التي بجواره..

اعتقلوا أخي، وعلمت أنهم قتلوا كثيرًاً من السجناء، فنزلت على ثلاجات مشفى حمص لأرى إن كان أخي ضمن من قتلوا، رأيت أغلب الجثث محرقة، وأثناء بحثي اقترب مني ضابط علوي ونهز السكين على حلقي وصدري، واحتجزوني مع مجموعة ممن جئن يبحثن عن ذويهن في الثلاجات، كان بعضهم يصر على قتلنا، وخاطبنا أحدهم: يا سلفيين يا مندسين يا إرهابيين.


نجانا الله عز وجل وأخرجونا، وأثناء عودتنا أوقفونا عند حاجز أمني، وكان فيه عناصر من الجيش ومن الشبيحة، فأصر الشبيحة على ذبحنا، وقال أحدهم: (هذولا سلفيين وهابيين بدهن ذبح)، لكن الله تعالى نجانا وتركونا.. وأحد الجنود نصحنا وقال: لا تسلكوا هذا الطريق فيقبض عليكن أبو وضاح، فسلكنا طريقًا آخر ونجونا بفضل الله تعالى".

هذه روايات لأبي عبد المجيد وأخته أم حسن، أخذتها عنهما مباشرة، ولو قضيت معهما وقتا أطول لنقلت روايات أكثر، فيا لله العظيم ما أعظم ما نزل بأهل الشام الكرام من خطب!


نقل عبد الغني محمد المصري -وعائلة المصري مشهورة في حمص- أنه يتم تجميع عشرات الأطفال في غرفة واحدة، ثم يذبحون ولدًاً تلو الآخر، أحد الأطفال طلب من المجرم الذباح شيئًاً غريبًاً فقال: "عمو مشان الله، سن السكين منيح، مشان ما أتعذب متل أخوي"، في مكان آخر، قبل هذا الحدث بأشهر، أيضًا عشرات الأطفال، يذبحون ولدًاً، تلو الآخر، أمام أعين بعضهم، وجدت سراويل الأطفال مبتلة بولاً، من شدة الخوف (اهـ).

بالله عليكم يا أيها القراء الكرام: حين تكون أمنية الطفل أن ينحر بسكين حادة لئلا يتعذب كما عذب أخوه أثناء نحره قبله، ماذا ستكون الحال؟! تخيلوا أنهم أطفالكم، وانظروا إلى أمنيات أطفالكم، وأمنيات أطفال سوريا المحتجزين عند النصيريين.