أيها الثوار.. لا تيأسوا

منذ 2012-07-30

لقد ضرب الأنبياء الكرام عليهم السلام المثل والقدوة في ذلك، فها هو نبي الله موسى -عليه السلام- يضرب لنا مثلاً رائعًا في عدم اليأس وهو في أحرج اللحظات وأصعبها...


بسم الله الرحمن الرحيم

بدأ ربيع الثورات العربية على الظلم والاستبداد والصلف والاستعباد، وهو ربيع مشرق وباهر نتوسم منه الخير، ونستروح فيه عبير الحرية والأمل في الغد، ولأن هذه الثورات جديدة وغريبة على بلادنا فإن الناس تتعجل قطف الثمر قبل نضوجه، ولربما أصابهم لون من ألوان اليأس بسبب تأخر نضوج الثمر، والمسلم مطالب بأن لا ييأس أبدًا؛ لأن اليأس في ديننا قد جعله الله تعالى قرينًا وملازمًا للكفر، قال تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [سورة يوسف:87].

قال الشاعر:

اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصةٌ *** لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ
يَفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ *** لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غَمَمِ

روي عن أبي جعفر محمد بن علي وعن الضحاك أنـهما قالا في قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}: كان بينهما أربعون سنة، وقال ابن جريج: يُقال إن فرعون ملك بعد هذه الآية أربعين سنة،
قال مرزوق العجلي: دعوت ربي في حاجة عشرين سنة فلم يقضِها لي، ولم أيأس منها!
قال بعض الحكماء:
لولا الأمل ما بنى بانٍ بنيانًا، ولا غرس غارسٌ غرسًا.

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل


وقال الطغرائي:
ولا تيأسنْ من صنـع ربك إنه *** ضمين بأن الله سوف يُديـل
فإن الليـالي إذ يـزول نعيمها *** تبشـر أن النـائبات تـزول
ألم تر أن الليـل بعد ظلامـه *** عليه لإسـفار الصبـاح دليل
ألم تر أن الشمس بعد كسوفها *** لها صفحة تغشي العيون صقيل
وأن الهلال النضو يقمر بعدما *** بدا وهو شخت الجانبين ضئيل



ولقد ضرب الأنبياء الكرام عليهم السلام المثل والقدوة في ذلك، فها هو نبي الله موسى -عليه السلام- يضرب لنا مثلاً رائعًا في عدم اليأس وهو في أحرج اللحظات وأصعبها، قال تعالى مصورًا هذا المشهد الرائع: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:61-67].
وفي سيرة النبي محمد -صلى الله علي وسلم- وصحابته الكرام، بله وفي تاريخنا الإسلامي المجيد أروع الأمثلة وأسمى النماذج على عدم القنوط واليأس، حتى في أصعب المواقف وأحرجها ومن الأمثلة على ذلك:

1- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يبشر الصحابة والمسلمين بأن الله تعالى سوف يعز هذا الدين مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [سورة النساء:139]، وقوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [سورة فاطر: 10].
ومن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الواردة في ذلك ما روي عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ». (أخرجه أحمد 4/103 (17082) "السلسلة الصحيحة" 1/7).
وما روي عَنْ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللهَ زوي لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، فَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ». (أخرجه أحمد 5/278 (22752) و"مسلم" 8/171 و"أبو داود"4252).


2- موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع آل ياسر وهم في أشد المواقف تعذيبًا، فقد كان يمر عليهم ويعطيهم الأمل في النعيم المقيم الخالد، وأن مع عند الله خير وأبقى، روى ابْنُ إسْحَاقَ ذلك فقال: وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ، فَيَمُرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَيَقُول، فِيمَا بَلَغَنِي: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة». (السيرة النبوية لابن هشام 1/319).


3- وكذا حينما جاءه الخباب بن الأرت يشكو إليه تعذيب قريش للمسلمين فأخبره -صلى الله عليه وسلم- بأن النصر قادم وأن الله تعالى سوف يعز هذا الدين، فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم، وَهُْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». (أخرجه "أحمد" 5/109 (21371) و"البُخَارِي" 4/244 (3612) و"أبو داود" 2649).


4- وفي قصة الهجرة عظة وعبرة فحينما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه إلى غار ثور وجاء كفار قريش وانتهت أقدامهم إلى الغار، فخشي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- طمأنه وأخبره بأن من كان الله معه فلن يضره شيء، روي عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».
- وفي رواية: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا». (أخرجه أحمد 1/4(11) و"البُخَارِي" 3653 و"مسلم" 6244).
ولقد صور القرآن الكريم ذلك المشهد البديع فقال جل شأنه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة:40].

5- وأيضًا في قصة سراقة بن مالك في الهجرة دليل آكد على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على إذكاء روح الأمل والتفاؤل في نفوس الناس في أصعب اللحظات، فحينما أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ما كان جاهدًا عليه. قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، دية كل منها لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أَسْوِدة. بالساحل أُراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهى من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني. ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مما اشتهر عند الناس من أمر سراقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» فألبسه الله إياه بعد القادسية. (انظر: البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3906، الروض الأنف للسهيلي (4/218)).

وعن الحسن أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتي بفروة كسرى فوضعت بين يديه، وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز، فجعلهما في يديه فبلغا منكبيه فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يد سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج، وذكر الحديث، قال الشافعي -رحمه الله: وإنما ألبسهما سراقة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لسراقة ونظر إلى ذراعيه: «كأني بك قد لبست سواري كسرى»، قال الشافعي: وقال عمر رضي الله عنه حين أعطاه سواري كسرى: ألبسهما، ففعل فقال: قل: الله أكبر، قال: الله أكبر، قال: قل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيًا من بني مدلج. (دلائل النبوة للبيهقي7/105).


6- وفي غزوة بدر سنة 2هـ حينما بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في الأمر، وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، وحاولوا إقناع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم، موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة عمومًا في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 5- 8]، وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو، وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعود شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عُدلَ به: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشرق وجهه وسرَّه وفي رواية: قال المقداد: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن امضِ ونحن معك، فكأنه سرَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وكان إنما يقصد الأنصار؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- خارج المدينة، وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فنهض قائلاً: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل». قال: "لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله" سُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مقالة سعد بن معاذ، ونشطه ذلك فقال -صلى الله عليه وسلم: «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم». (انظر: البداية والنهاية (3/262) بإسناد صحيح، المسند (5/259) رقم (3698)).
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على أن يكونوا أصحاب إرادات قوية راسخة ثابتة ثبات الشُّمِّ الرواسي، فيملأ قلوبهم شجاعة وجرأة وأملاً في النصر على الأعداء.


7- وفي غزوة الخندق سنة 5هـ حينما عمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لواذًا، فنزلت فيهم آيات من القرآن، ذكرها ابن إسحاق وغيره، وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره فأعانه حتى كمل الخندق، وكان فيه آيات بينات، وعلامات للنبوات مذكورات عند أهل السير والآثار، منها أن كدية اعتاصت على المسلمين فدعوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليها، فضربها بالفأس ضربة طار منها الشرار، وقطع منها الثلث، وقال: «اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ قَيْصَرُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْحُمْرَ» ثم ضرب الثانية فقطع منها الثلث الثاني، وقال: «اللهُ أَكْبَرُ،فُتِحَ كِسْرَى، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْبِيضَ» ثم ضرب الثالثة فقطع الثلث الباقي، وقال: «اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ الْيَمَنُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى بَابَ صَنْعَاءَ» وقد نصر الله عبده، وصدق وعده. (ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير 1/181).


8- وفي صلح الحديبية سنة 6هـ حينما وجد المسلمون في شروط الصلح إجحافًا وظلمًا لهم واعترض بعضهم على تلك الشروط أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن فيها الفتح والنصر المبين، فعَنْ أَبِى وَائِلٍ، قَالَ: قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، يَوْمَ صِفِّينَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا وَذَلِكَ فِى الصُّلْحِ الَّذِى كَانَ بَيْنَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَى رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّى رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَنِى الله أَبَدًا»، قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فَى دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا. قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بِالْفَتْحِ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ. (أخرجه أحمد 3/485 (16071) و"البُخَارِي" 4/125(3182) و"مسلم" 5/175(4656)).


9- وفي غزوة مؤتة 8هـ لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام -وهي الآن محافظة من محافظات الأردن- بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى، وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة، وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم، ولقد قام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة نخبره بحشود العدو، فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء، ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله: (يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة)، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين. (انظر: السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (2/468)).


10- وفي غزوة اليرموك سنة 13هـ وبعد الانتهاء من حروب الردة وتسيير خالد من اليمامة إلى العراق في سنة 13هـ جهز الصديق الجيوش إلى الشام، فبعث عمرو بن العاص إلى فلسطين وسير يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين، آمرًا إياهم أن يسلكوا تبوك على البلقاء، وكان عدد كل لواء من هذه الألوية الأربعة ثلاثة آلاف، ثم توالت النجدات فيما بعد، ولما بلغ الأمر أبا بكر لم يجد خيرًا من سيف الله المسلول خالد بن الوليد فأمره بالمسير بمدد إلى الجيش الإسلامي في اليرموك من موقعه على مشارف الحيرة، وعند وصوله بمن معه بلغ عدد جيش المسلمين خمس وأربعون ألفًا يقوده أربعة من الأمراء اجتمعوا فيما بعد جميعا تحت إمارة خالد، وكان عدد جيش الروم مائتان وأربعون ألفًا، قال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، وإنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان، والله لوددت أن الأشقر، يعني فرسه، براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد، وكان قد حفي في مسيره، حين وجد خالد بن الوليد أن الأمر بينه وبين الروم سيطول وقد انقطع عنه المدد نادى في الناس من يبايع على الموت؟ فأجابته الأصوات ملئ الفضاء: نحن نبايع على الموت، ونشب القتال واشتد على فرسان الروم حتى تراجعوا ولم يبق إلا الرجالة وأصحاب السلاسل، وما إن غابت الشمس وأظلم الأفق حتى أصبح جيش الروم مزقًا متفرقة، فمنهم من سلك الصحراء فكان نصيبهم القتل أو الأسر، ومنهم من عمد إلى الواقوصة فتساقطوا فيها وماتوا غرقًا، فكان نصرا مؤزرًا للمسلمين وهزيمة نكراء للروم وأعوانهم. وبعد انتهاء المعركة نزع خالد -رضي الله عنه- شعار الإمارة عن رأسه ووضعه على رأس أبو عبيدة وأتى بالراية بين يديه، وانتهت المعركة باستشهاد ثلاثة الآف من المسلمين، وقتل من الروم مائة وعشرون ألفًا، وارتحل هرقل من حمص مودعًا سورية وداعه الأخير، وقال: سلام عليك يا سورية، سلامًا لا لقاء بعده. (انظر: تاريخ الطبري 2/609، البداية والنهاية 7/8، الكامل في التاريخ 1/292).


11-وفي معركة عمورية سنة 223هـ حينما استغل الروم انشغال الخليفة المعتصم في القضاء على فتنة بابك الخرمي، وجهزوا جيشًا ضخمًا قاده ملك الروم، بلغ أكثر من مائة ألف جندي، هاجم شمال الشام والجزيرة، ودخل مدينة "زِبَطْرة" التي تقع على الثغور، وكانت تخرج منها الغزوات ضد الروم، وقتل الجيش الرومي من بداخل حصون المدينة من الرجال، وانتقل إلى "ملطية" المجاورة فأغار عليها، وعلى كثير من الحصون، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين، وسَمَلَ أعينهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة، روى المؤرخ الكبير ابن الأثير في "الكامل" أن المعتصم بلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: "وامعتصماه" فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك، لبيك، ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته، وسمط خلفه شكالأن وسكة حديد، وحقيبة فيها زاده، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة، وجمع العساكر، فجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد وهو عبد الرحمن بن إسحاق، وشعبه بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثًا لولده، وثلثًا لله تعالى، وثلثًا لمواليه، ولما ظفر المعتصم ببابك قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية، فغزا "عمورية" وأمر بها فهدمت وأحرقت، ويذكر بعض الرواة أن امرأة ممن وقعت في أسر الروم قالت: وامعتصماه فنقل إلى الخليفة ذلك الحديث، وفي يده قَدَح يريد أن يشرب ما فيه، فوضعه، ونادى بالاستعداد للحرب، وصلت هذه الأنباء المروعة إلى أسماع الخليفة، وحكى الهاربون الفظائع التي ارتكبها الروم مع السكان العزل؛ فتحرك على الفور، وأمر بعمامة الغزاة فاعتم بها ونادى لساعته بالنفير والاستعداد للحرب، وأرسل رسالة إلى ملك الروم قال فيها من عبد الله المعتصم بالله إلى كلب الروم إن لم تطلق صراح هذه المرأة بعثت لك جيشًا أوله عندك وأخره الموت أحب إلى احدهم من الحياة، وخرج المعتصم على رأس جيش كبير، وجهّزه بما لم يعدّه أحد من قبله من السلاح والمؤن وآلات الحرب والحصار، حتى وصل إلى منطقة الثغور، ودمّرت جيوشه مدينة أنقرة ثم اتجهت إلى عمورية في جمادى الأولى 223هـ/ أبريل 838م وضربت حصارًا على المدينة المنيعة دام نصف عام تقريبًا، ذاقت خلاله الأهوال حتى استسلمت المدينة، ودخلها المسلمون في 17 من رمضان سنة 223هـ/ 13 من أغسطس 838م بعد أن قُتل من أهلها ثلاثون ألفًا، وأسر مثلهم وغنم المسلمون غنائم عظيمة، وأمر الخليفة المعتصم بهدم أسوار المدينة المنيعة وأبوابها. (انظر: الكامل في التاريخ 3/ 197، مقدمة ابن خلدون 88، مختصر تاريخ دمشق 7/166).

وكان لهذا الانتصار الكبير صداه في بلاد المسلمين، وخصّه كبار الشعراء بقصائد المدح، وقيل إن المنجمين حاولوا إثناءه عن القتال في هذا الوقت فرفض فكتب أبو تمام قصيدته الرائعة:


السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْباء مِنَ الكُتُبِ *** في حَده الحَدُ بَين الجد واللعِبِ
بِيضُ الصَفَائحِ لا سُودُ الصحَائِفِ فِي *** مُتُونِهِنَّ جَلاءُ الشّك والريَبِ
والعْلِمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعة *** بَين الخَمِيسَينِ لاَ في السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروَايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا *** صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ فِيهَا وَمِنْ كذِبِ
تخَرُصا وَأَحَادِيثاً مُلَفَّقَة *** لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَتْ وَلاَ غَرَبِ
‍فَتْح الفُتُوحِ تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ بِهِ *** نَظْمٌ مِنَ الشعْر أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ
فَتْحٌ تَفَتَّحُ أبوابُ السماءِ لَهُ *** وَتَبْرُزُ الأَرْضُ في أَثْوابِهَا القُشُبِ


12- وفي موقعة عين جالوت -قرية بين بيسان ونابلس- والتي حدثت في صبيحة يوم الجمعة في الخامس عشر من رمضان سنة 658هـ الموافق 3 أيلول-سبتمبر-1260م، بقيادة السلطان قُطُز سلطان المماليك في مصر، بعد أن صاح بأعلى صوته (وإسلاماه)، وانتصر فيها على المغول الذين ولوا الأدبار لا يلوون على شيء، وتم فيها توحيد مصر وبلاد الشام وإنقاذ الإسلام والمسلمين من همجية المغول.

فعندما انساح التتار كالطوفان الكاسح في بلاد المشرق ظهر للجميع أن هؤلاء القوم لا ينتمون لفصيلة البشر في شئ إلا الشكل فقط وإلا فهم كالوحوش الكاسرة والهمج البرابرة لا يدخلون بلدًا إلا قتلوا أهله ودمروا بنيانه وتركوه قاعًا صفصفًا بعد أن يمحوا كل معالم الوجود الإنساني في هذا البلد، وعندها دخل الرعب في قلوب الناس جميعهم مسلمهم وكافرهم ذلك لأن التتار لم يكونوا يفرقون بين مسلم وغيره فتدمير البشرية والحضارة الإنسانية كانت هدفًا أسمى لهؤلاء المتوحشين البرابرة، اتجه فيصل من التتار بقيادة هولاكو -حفيد جنكيز خان- إلى بلاد الإسلام وأخذ هولاكو في تدمير بلاد المسلمين الواحدة تلو الأخرى حتى استطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا سنة 656هـ عندما دخل بغداد وأسقط الخلافة العباسية وقتل في بغداد وحدها مليوني مسلم ومسلمة، وجعلها قاعدة لملكه في بلاد العراق وخراسان لتكون بعد ذلك نقطة إغارة على باقي بلاد المسلمين، وبالفعل أرسل هولاكو قائده الشهير [كتبغاتوني] لمواصلة تدمير باقي بلاد الإسلام خاصة الكبرى منها وكانت أمامه بلاد الشام ثم الديار المصرية، خرج هولاكو بجيوشٍ جرارة لأخذ بلاد الشام بنفسه ذلك لأنه غضب على الملك الناصر صاحب مدينة دمشق لأنه لم يقبل إليه بنفسه عندما استدعاه بل أرسل له ولده الصغيرة، وأخذ هولاكو في الاستيلاء على مدن الشام واحدة تلو الأخرى، فاستولى على "ميافارقين" ثم حلب التي قتلوا جميع أهلها وسلم أمير حماة مفاتيحها للتتار، ثم توجه لدمشق فأخذها سريعًا ثم عاد هولاكو لعاصمة التتار لاختيار خان جديد للتتار لوفاة الخان الحالي وترك في الشام قائده "كتبغاتوني"، قرر قطز أخذ زمام المبادرة من التتار وتحرك بجيوشه إلى الشام، ولم ينتظر حتى يأتيه التتار وبالفعل وصل قطز بجنوده للشام، وفوجئ التتار بوصول جيوش المصريين، وكان قائدهم كتبغاتوني شجاعًا مقدامًا فدفعته شجاعته لأن يخوض الحرب ضد المصريين رغم نصيحة الناس له بعدم الدخول في تلك الحرب حتى يطلب إمدادات من هولاكو فأبى كتبغاتوني، إلا أن يناجزه سريعًا واصطدم مع قطز والمصريين في عين جالوت يوم الجمعة 25 رمضان 658هـ واقتتلوا قتالاً هائلاً عظيمًا وظهرت بطولات نادرة للمسلمين خاصة قائدهم سيف الدين قطز الذي قتل جواده ولم يجد أحد يعطيه فرسًا آخر فظل يقاتل مُترجلاً حتى رآه بعض الأمراء فترجل له عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها فامتنع قطز وقال له: "ما كنت لأحرم المسلمين من نفعك" ولم يزل كذلك حتى جاءه بفرس فركبها فقال له بعض الأمراء: "لو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك" فقال قطز: "أما أنا فكنت أروح إلى الجنة وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان حتى عد خلقًا من الملوك فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم ولم يضيع الإسلام" ولما رأى قطز عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: "لا تقاتلوهم حتى تزول وتفئ الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والنساء في صلاتهم" وحدث أثناء القتال أن ضغط التتار على المسلمين حتى كادوا يكسروهم وعندها ألقى قطز خوذته وكشف رأسه ليرى مكانه ونادى بأعلى صوته [وإسلاماه] فسمعها الجيش كله وحميت نفوس المسلمين وارتفعت المعنويات، واقتتلوا قتالاً رهيبًا لم يسمع بمثله من قبل حتى استطاع الأمير جمال الدين أقوش الشمس قتل أمير التتار [كتبغاتوني] وركب المسلمون أكتاف التتار يقتلونهم في كل موضع حتى أنزل الله -عزوجل- نصره على المسلمين وكسروا التتار كسرة منكرة قصمت ظهورهم لآجالٍ طويلة. (انظر: بدر الدين العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 1/66، البداية والنهاية 13/61، شريف الزهيري: أيام الإسلام 277).

فما أروع الأمل والتفاؤل وما أحلاه في القلب! وما أعْوَنَه على مصابرة الشدائد والخطوب، وتحقيق المقاصد والغايات، وإنما النصر صبر ساعة.
 


د. بدر عبد الحميد هميسة
 

المصدر: موقع صيد الفوائد