استراتيجية الثورة في سوريا
تجري في سوريا أربعة ثورات في ثورة واحدة. أولها الثورة ضد الديكتاتورية والظلم الاجتماعي. وثانيها ثورة ضد الحكم الطائفي البغيض. وثالثها ثورة الدور والنفوذ الإيراني في سوريا والإقليم. ورابعها ثورة ضد الوجود والدور الروسي المتحالف مع الديكتاتورية والطائفية الأسدية والإيرانية.
تشهد الثورة السورية آلاف الوقائع يوميًا، من أعمال قصف وتدمير إلى أعمال تظاهر وحراك ثوري إلى شهداء بالعشرات إلى بيانات وشرائط مصورة للجيش السوري الحر إلى وقائع حياة اللاجئين السوريين، إلى تصريحات وبيانات ولقاءات وقرارات عربية وإقليمية ودولية من مجلس إلامن، إلى تصريحات وقرارات بشأن تضييق الخناق الاقتصادي على نظام جُن فصار يقود قواته المسلحه في معارك ومجازر يقتل فيها أبناء شعبه يوميًا. وإذ بدأت ونمت وتواصلت واحتسبت الثورة وتطورت في مواقعها وقوتها ومناطق اشتعالها وأنجزت ما أنجزت، ففي انتظار (النهايات) ممثلة في معركة الحسم المنتظرة في العاصمة دمشق، يبقى ضروريًا مراقبة وفهم الرؤية الكلية لما يجري. ثمة ضرورة الآن للتساؤل حول ملامح الخصوصية في الثورة السورية، وما تختلف فيه عن ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن، لفهم ما يميزها على صعيد نظريتها وملامحها الخاصة.
السؤال الجوهري الذي تفرضه كثرة احتشاد الأحداث، هو ما الإستراتيجية والخطة والرؤية للثورة السورية؟
وبمعنى آخر كيف نرى هذا التطاول الزمني في الثورة، ولماذا لا يحدث في سوريا ما حدث في ليبيا أو مصر أو تونس أو حتى اليمن وإلى متى تستمر الملامح التي نراها ونرصدها لتلك الثورة وإلى أين؟ وكذا يبدو التساؤل ضروري حول طبيعة تأثير الصراع الإستراتيجي الإقليمي والدولي على ثورة سوريا، إذ انتهى الزمن الذي تحسب فيه الامور من منظور التغيير الداخلي دون إمساك بأبعاد إقليمية ودولية. نحن نسمع طوال الليل والنهار كيف أن روسيا والصين توقف الدور العسكري الدولي عند حدود المتفرج وأن إيران والحرس الثوري وميليشيات عراقية ولبنانية تلعب دورًا مباشرًا في أعمال القمع الجارية ضد الشعب السوري فما تأثير ذلك على تلك الثورة. وبطريقة أخرى، ما هو التأثير الاقليمى والدولي لانتصار الثورة السورية؟
ما المختلف عسكريًا؟
لا يُعرف الشيء إلا بضده كما الظلام والنور، ولا يعرف الشيء بدقه إلا إذا مُيز عن شبيهه مثل درجات الألوان. والثورة في سوريا هي نقيض لحكم ديكتاتوري طائفي علماني منغلق على نفسه، يُسّخِر البلاد لتحقيق مصالح نخبة ضيقة، ولذلك تجري وقائع الثورة لإنهاء هذا الحكم وإقامة حكم يمثل مصالح الشعب وهويته ويحقق له حريته في التعبير عن تلك الهوية والمصالح. لكن الوصول إلى تلك الأهداف أو تحقيق خطة الثورة هو فعل متعدد الملامح، ولا يجري إلا وفق ظروف خاصة بالبلد الذي تجري فيه، ولذا اختلفت ملامح الثورة في سوريا عن الثورات في مصر وليبيا وتونس واليمن لاختلاف النظم ومكوناتها وطبيعة الجيش والدولة والفكر والرؤية التي تحكمها، والعقيدة القتالية للجيش وأجهزة القمع، ولاختلاف الظروف الاقليمية وطبيعة الدول المحيطة بها ولاختلاف الظروف الجغرافية للدول. .إلخ.
لقد اختلفت الثورة السورية عن المصرية في مسألة استخدام النظام للقوة العسكرية في قمع الثورة، إذ لم يستخدم سلاح الجيش المصري في مواجهة المتظاهرين، ولذا لم يستخدم الثائرون السلاح في مصر، وعلى العكس من ذلك كان استخدام النظام السوري لقوة الجيش هو ما دفع الثورة لاستخدام السلاح بالمقابل -إذ بقيت المظاهرات تواجه القتل يوميًا لستة أشهر دون امتشاق السلاح- وفي ذلك كان حاكمًا للتصرف الطبيعة المختلفة بين الجيشين المصري والسوري على صعيد العقيدة القتالية لكل منهما، وهنا يبدو التساؤل المنطقي يدور حول استمرار قوة الجيش السوري على القتل بينما جيش القذافي لم يتحمل طويلًا.
البعض يأخذ من ذلك ويقول أن النظام السوري مستقر أكثر. وأن الثورة لم تستطع هز قوة الجيش السوري كما جرى في ليبيا. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فإذا كان معلومًا دور التدخل العسكري الخارجي في كسر العمود الفقري لجيش القذافي، فمن المعلوم أيضًا، أن الجيش السوري هو من الأصل في حالة عسكرية أقوى من جيش القذافي على صعيد التسليح، لنكون أمام جيش أضعف تعرض لضربة قاضية (ليبيا) وجيش أقوى لم يواجه من جيش خارجي أقوى منه، بما زاد من استئساده على الشعب، غير أن هناك عاملان هما الاكثر أهمية في تحليل ظروف الصراع العسكري في مواجهة الجيش النظامي السوري الموالي للأسد، أولها الطبيعة الجغرافية لسوريا، التي لا تحمل طابع الانفصال والتباعد بين المكونات السكانية (المدن والقرى) كما هو الحال في ليبيا.
الوضع الجغرافي في ليبيا سمح بالاستيلاء على مناطق من قبل الثوار والاحتفاظ بها وإقامة تحصينات قوية على أطرافها، دون قدرة من الجيش النظامي على الوصول إليها بسهوله، وقد جاء التدخل الخارجي للناتو عبر الطيران ليوقف تلك القدرة لجيش القذافي كليًا، إذ كانت طائرات الناتو بالمرصاد للدبابات وطائرات الهليوكبتر والطائرات ثابتة الجناح لقوات القذافي في كل تحركاتها. وذلك أمر لا يتوفر للثورة السورية في أي من المجالات. وثانيها طبيعة المكون الطائفي للجيش السوري ولأهم قطاعاته، بما يجعل قتال قياداته مرتبطًا بتصور أن هزيمة الأسد تمثل نهاية وجودهم، خاصة مع الضخ الطائفي الذي يتعرضون له من قبل قيادة النظام. هذا الحال لم يكن متوفرًا في ليبيا، وإذ لم يخلو جيش القذافي من الحالة القبلية، إلا أن البعد القبلي يظل أقل تأثيرًا من تلك الحالة الطائفية في التأثير على عقيدة وقيادة وقتال الجيش النظامي السوري، بل أن القبلية ذاتها قد توفر حالة عكسية للنظام وتثير التعدد والانقسام، وهو ما رأيناه في الحالة اليمنية التي انقسم فيها الجيش بين السلطة والثورة على أساس قبلي، بل كان الانقسام داخل قبيلة الأحمر التي ينتمي لها الرئيس نفسه.
تلك الطبيعة المختلفة لأوضاع الجيش السوري عن نظرائه في تونس ومصر واليمن وليبيا، هي ما أطال المعركة، أو هي ما جعلت الجيش الرسمي التابع للنظام محافظًا على ولائه للنظام ومواليًا للأسد لوقت أطول، كما لا يجب استبعاد تأثير وجود أعلى درجة من التجسس والتسلط داخل الجيش السوري، بما يطيل فترة التحول نحو الانضمام إلى الجيش السوري الحر بحكم الاجراءات الامنية وبسبب التعرض الفوري للقتل في حال اكتشاف أجهزة الامن محاولات اللحاق بالجيش الحر.
لكن من المهم الإشارة هنا والتشديد على أن مثل هذا الجيش، معرض أكثر من غيره إلى حالات انهيار مفاجئة ويكون سقوطه اشبه بحالات تبخر المياه في الهواء الطلق حين تنقطع صلته بالمركز أو بحالة ومصدر القمع وحين يدب اليأس في صفوفه تنتقل العدوى بشكل يشبه الوباء. .إلخ.
وعلى كل، فقد أثر هذا البعد على الثورة السورية، باتجاهين، أولهما الامساك بالسلاح، والثاني طول مدة العمل الثوري المسلح.
المختلف سياسيًا:
تختلف الثورة في سوريا سياسيًا. عن نظيراتها بالإجمال، مع أن كل تلك الثورات اشتعلت وصمدت تحت راية (الربيع العربي). فالثورة في سوريا، تقاوم نظامًا جرى تجديده من الداخل للحفاظ عليه ما بعد انتقال السلطة من الأسد الأب إلى الابن. القصد هنا أن الثورة لم تنشب في مواجهة نظام كان يعد لنقل السلطة من الشيخ إلى الشاب، بما يحدث حالة اضطراب في داخله ويعمق الرفض الشعبي له، كما في حالات مصر وليبيا واليمن، بل هي نشبت في وجه نظام جرى تجديد صورته، بما جعل الثورة تحتاج إلى جهد ووقت لإنهاء خداع لعبة التغيير. النظام في سوريا لم تتغير توجهاته الطائفية ولا السياسية ولا الاجتماعية -من الأب إلى الابن- وأنما جرى تجديده من الداخل لتعزيز سطوته وسيطرته على الدولة والمجتمع، ولو كانت الثورة قد تفجرت في مواجهة الأسد الأب في أيامه الأخيرة، لكانت عملية خلعه أيسر، كما هو حال الثورتين المصرية والليبية (واليمنية أيضًا) إذ اشتعلتا خلال اهتزاز المرحلة الانتقالية من الأب إلى الابن (جمال في مصر وسيف في ليبيا).
وتختلف الثورة في سوريا سياسيًا عن ثورات الربيع العربي الأخرى، في أنها جرت في دولة تغطى عسفها وظلمها وطائفيتها وديكتاتوريتها، بالحديث عن ممانعة ومقاومة عدو خارجي، هي في حالة حرب معه بصورة نظرية. وإذا كان الأمر مجرد خطة دعائية ولعبة سياسية لتخويف الناس بالخارجي لتمكين الداخلي من البقاء –إذ ما علاقة الديكتاتورية والحكم الطائفي بالتصدي لعدو خارجي- فقد ترتب على ذلك تردد قطاعات من السكان وقت أطول عن اللحاق بالثورة، إذ بعض السكان احتاجوا إلى صراع طويل ليكتشفوا خلاله زيف دعاوى النظام ومدى قمعه وديكتاتوريته.
وتختلف الثورة في سوريا سياسيًا عن نظيراتها، بأنها تجري في بلد الحكم فيه مدرب على ألاعيب وممارسات الحرب الأهلية وعلى العمل العسكري الاستخباري، وهو ما فرض معطيات سياسية على طبيعة المعركة التي احتاج فيها الثوار بمختلف أنواع نشاطهم (حراك جماهيري أو عمل عسكري) لوقت وتجربة وخبرات ميدانية لمواجهة تلك الخطط. كان ضروريًا التحرك بخطى بطيئة وبصمود بطولي وتضحيات نادرة، حتى لا تجهض الثورة مبكرًا، وحتى لا تنجح خطة النظام في استبدال الثورة بوتائر حرب طائفية هو الفائز فيها -إذا اندلعت لا قدر الله- لا شك في ذلك.
خصائص الثورة:
الاختلاف بين الثورة السورية وغيرها، فرض ملامح إستراتيجية على تلك الثورة وحدد نمطًا من جوانب نظريتها. فهي ثورة فُرض عليها طول التضحية، بسبب طائفية الجيش الموالي للنظام ودرجة تسليحه وإعداده، ولأن النظام كان تجدد قبلها من الأب إلى الابن، إلخ، غير أن طبيعة الصراع الدولي والإقليمي على سوريا، وأهمية هذا البلد وكونه خط التغيير قى الإقليم كله، هو ما جعل للثورة السورية نظريتها الخاصة أيضًا. الظروف الاقليمية والدولية هي الأخرى طبعت الثورة السورية بطابع طول مدة الثورة وشدة تضحياتها.
وفي وصف هذا التأثير نشدد على عدة نقاط:
1- ثورة دون دعم خارجي عسكري: أحد أهم خصائص نظرية الثورة السورية أنها ثورة تعتمد على الله ثم على نفسها وجهدها الداخلي الخاص تحت الحصار، دون تدخل خارجي عسكري على غرار الحالة في ليبيا. فمنذ بداية الثورة والمراقب الإستراتيجي المدقق يحذر من بذل جهد ضائع في طلب التدخل الدولي، كما أن ما حقق التقدم للثورة في الداخل هو هؤلاء الذين اعتمدوا على الله ثم على قدراتهم الذاتية دون انتظار لدور خارجي عسكري. لم يكن من الصحيح بناء أية خطط للثورة على احتمالات التدخل الخارجي، لأسباب تتعلق بالظروف الدولية والإقليمية ولطبيعة الموقف الغربي من قوى الثورة في سوريا، إذ تتخوف الدول الغربية من سيطرة نظام ثوري إسلامي على الحكم في سوريا. هذا العامل مسئول عن كثرة وشدة التضحيات، إذ النظام يقتل بلا خشية من الملاحقة الدولية.
2- وهي ثورة ضد دولة كبرى ودولة إقليمية لا الأسد فقط، فالثورة السورية لا تجري ضد نظام الأسد فقط، بل هي تجري ضد تحالف من نظام الأسد وإيران وحزب الله وروسيا، إذ كل تلك القوى في حالة تحالف ويعتبر إطاحة نظام الأسد بمثابة الضربة الإستراتيجية لها جميعًا ولكل دولة على حده. إيران في حالة تحالف مع نظام الأسد وحالة التحالف عميقة بسبب اعتبار سوريا بوابة التحالف مع حزب الله. وروسيا في حالة تحالف مع نظام الأسد لأسباب عديدة، بما يجعل تغيير النظام في سوريا تغييرًا لوضعية روسيا في الاقليم وإضرارًا بمصالحها، ولذا تعيش الثورة السورية في وضعية صراع مع نظام الأسد وإيران وسوريا، أو في مواجهة إسناد ودعم إيراني وروسي لنظام الأسد. هذا العامل يصعب طبيعة ظروف الثورة، ويظهر مدى بطولتها، وأن ما حققته حتى الآن، هو أمر كبير وبطولي للغاية.
3- وهي ثورة تفتح الطريق لتغيير إستراتيجي إقليمي، فنجاح الثورة السورية ستكون له نتائج كبرى. فنجاح الثورة سيغير الوضع الإقليمي، إذ هي نقطة الوثوب والبداية الكبرى لكسر الهجوم الإيراني في الاقليم. طرد النفوذ والدور إلإيراني من سوريا يعني خسارة كبرى لإيران في سوريا وهو يفتح الطريق لإعادة تشكيل توازنات جديدة في كل من لبنان والعراق على حساب حلفاء إيران. انتصار الثورة السورية سيحدث تغييرًا هائلًا في الإقليم.
4- وهي ثورة تحدث تغييرًا دوليًا، إذ نجاح الثورة السورية وتحولها إلى نمط يغير السياسات الداخلية والخارجية، يأتي معه برياح تغيير للوجود العسكري الروسي على الأرض السورية ممثلًا في القاعدة العسكرية في طرسوس. إذا انتهى وجود تلك القاعدة، فلا يبقى لروسيا أي وجود لأية قاعدة بحرية في البحر المتوسط، وهذا أمر مؤثر وخطير على الدور الروسي الدولى لا الإقليمي في الشرق الأوسط، إذ لا مكان لاتصال روسيا بالمياه الدافئة إلا عبر بوابة مرور البسفور والدرنيل التي تخرج منها السفن الروسية وتعود، ولا مكان لها في البحر الأبيض للتزود بالوقود أو القيام بأية أعمال إصلاح إلا في طرسوس. الضربة التي ستوجه لروسيا في هذه الحالة لا تتعلق فقط بوجودها البحري العسكري في البحر المتوسط، وإنما بوضعها البحري الدولي.
4 ثورات:
تجري في سوريا أربعة ثورات في ثورة واحدة. أولها الثورة ضد الديكتاتورية والظلم الاجتماعي. وثانيها ثورة ضد الحكم الطائفي البغيض. وثالثها ثورة الدور والنفوذ الإيراني في سوريا والإقليم. ورابعها ثورة ضد الوجود والدور الروسي المتحالف مع الديكتاتورية والطائفية الأسدية والإيرانية.
هي أربع ثورات في ثورة واحدة!
1/9/1433 هـ
- التصنيف:
- المصدر: